س١/ هل من الممكن أن يعيش الإنسان مشاعر الحج وهو خارج البيت الحرام؟..
من الطبيعي أن تنقدح مشاعر الشوق لدى المسلمين، وخاصة مع ما تنقله أجهزة الإعلام في أداء المناسك.. ولا شك بأن الذي يعيش هذه المشاعر في أنه سيثاب أيما ثواب، وهو يعد مشاركاً للحجاج في مشاعرهم، مصداقاً لقول الرسول الأعظم (ص): (من أحب عمل قوم أشرك في عملهم).
الحج لغة: عبارة عن القصد. فالحاج يقصد بيت الله الحرام.. والإنسان الذي فاته الذهاب إلى بيت الله الحرام، ما فاته قصد رب العالمين، وقصد الوصول إليه.. إذ أن الإنسان المؤمن في حج وطواف دائم، في كل حركاته وسكناته هو يريد المولى عز وجل.. ولعل البعض يذهب إلى الحج، ويرجع وهو لم يزر صاحب البيت؛ لأنه لم يقصده ولم يتفاعل معه.. فإذن، إذا تفاعل الإنسان مع صاحب البيت -حتى لو كان في أدغال أفريقيا!- فهو قاصد لله عز وجل، وهو الحاج حقيقة.. هنالك عبارة مخيفة جداً لأئمتنا (ع) يقولون فيها: (ما أكثر الضجيج وأقل الحجيج)!..
س٢/ ما هي الأعمال التي يفعلها المسلم حتى يرزق هذه الفريضة المقدسة؟..
هنالك مجموعة من الأعمال، منها:
* الأدعية المركزة في شهر رمضان المبارك، حيث يقول: (اللهم ارزقني حج بيتك الحرام …).
* الاستغلال العبادي الأمثل في إحياء ليالي القدر، حيث يكتب فيها وفد الحجيج.
* الالتزام بالصلاة ركعتين بين المغرب والعشاء: بعد الحمد والتوحيد يقرأ هذه الآية {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} في العشرة الأولى من شهر ذي الحجة؛ حتى يشارك الحجاج في حجهم.
* محاولة الادخار المادي باقتطاع قسم من الراتب؛ ليحج بيت الله الحرام في الموسم المقبل إن شاء الله تعالى.
س٣/ هذه الفريضة مظلومة عند الكثير من المسلمين، حيث لا يعرفون إلا تأدية المناسك الظاهرية دون الوصول إلى ملكوت هذه الأعمال في التغيير الجوهري للسلوك؟..
في حديث الإمام السجاد (ع) للشبلي أراد أن ينتقل من ملك الحج إلى الملكوت، وأن هنالك ارتباطا للمعرفة الإلهية بأداء هذه المناسك.. فالحج عملية رمزية، أي أن كل حركة ترمز إلى معنى من المعاني.. وعليه، ينبغي اكتشاف هذه المعاني المختزنة.
س٤/ من الواضح أن في الحج تعظيما لبطولات إبراهيم الخليل (ع).. لماذا اختار الله هذا النبي العظيم؟..
هما حركتان متميزتان قام بهما إبراهيم الخليل (ع):
الأولى: تحطيمه للأصنام بمفرده، وتحديه لرمز أمة من الأمم، حين دخل المعبد وقام بتلك العملية البطولية.. وفي ذلك درس بليغ: أن الإنسان بإمكانه أن يقف أمام تيار كاسح بمفرده، كما فعل إبراهيم (ع).. وكيف أنه رمي بالمنجنيق وخلصه الله عز وجل، بأن جعل تلك النار برداً وسلاما مكافأة له (ع).
الثانية: همه بذبح ابنه وتقديمه قرباناً لله عز وجل: هذا الموقف يذكرنا بالحسين (ع) وتقديمه ولديه علي الأكبر وعبد الله الرضيع في سبيل الله.. والغريب أن إسماعيل (ع) على صغر سنه يسلم لأمر والده، {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}!..
س٥/ هل من درس عملي للمرأة المسلمة من هاجر (ع)؟..
الله سبحانه وتعالى خلد ذكر هاجر (ع) : في السعي، والهرولة، وفي حجر إسماعيل.. في مقابل هذا الدرس البليغ:
الاستسلام الإلهي: كان بإمكان هاجر أن تعترض وتطالب بمنطق الفقه.. أليس من واجبات الزوج أن يوفر المأوى والمعيشة للزوجة؟!.. وأن يحفظها من اللصوص وقطاع الطرق؟!.. فكيف قبلت هاجر بتركها في واد غير ذي زرع؟!.. ومعها طفل رضيع.. هذا الطفل ألا يحتاج إلى من يرعاه ؟!..
نعم، هي تعلم أن من وراء هذا الطلب هو رب العالمين، الذي هو أرحم الراحمين، واللطيف بعباده وخير الحافظين.. وعليه، فإن المرأة إذا رأت نقصاً في حياتها الزوجية: مادياً، أو أخلاقياً، عليها أن تفوّض الأمر إلى رب الأرباب، فهو ولي الأمر على الإطلاق، وهو المتولي بكل شؤون العبد.
س٦/ كيف يمكن للإنسان أن يستفيد من عملية الطواف في حياته العملية؟..
لا شك من أن الطواف حركة مذهلة جداً.. وهي حركة رتيبة، تعلمنا:
* مبدأ الانطلاق والغاية في حركتنا الحياتية.. حيث البدء والانتهاء بالحجر الأسود.
* الانتظام والتقيد والالتزام.. حيث العدد المحدد بسبعة أشواط.
* حالة المساواة بين الخلق.. حيث أن الكل في حالة طواف لله عز وجل، وبثوب واحد، فتذوب كل الفروق.
* تقديس وتخليد آثار الأنبياء والسلف.. حيث الصلاة خلف مقام إبراهيم (ع)، مصداقاً لقوله تعالى: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}.. ومن المناسب هنا أن نقول: أن هذا المقام ما هو إلا عبارة عن حجر وقف عليه إبراهيم (ع)؛ ليبني البيت الحرام. والمسلمون جميعاً يحترمونه ويقدسونه.. فلماذا نحن إذا باركنا وقدسنا تربة أُريقت عليها دماء الحسين (ع) وأبنائه، يأتي الاستنكار وما شابه ذلك!.. ثم إن عليا بن الحسين (ع) وهو زين العابدين، يؤخذ من أرض كربلاء وفي أعناقه الحديد والأغلال الجامعة، ويساق كما يساق أسارى الروم إلى دمشق!.. أيكون هذا من العدل والإنصاف!.. نحن إذا كرمنا وقدسنا وباركنا هذه البقاع، نكون قد عملنا مع منطق الحج، في تقديس المسلمين لمقام إبراهيم (ع).
س٧/ ما هي الدروس المستفادة من عملية رمي الجمرات؟..
رمي الجمرات هو من دروس المواجهة السلبية، من المعلوم بأن (لا إله إلا الله ) فيه شقان: الإثبات، والنفي. ونحن في الصلاة نحقق الجانب الأول بالموالاة، وإظهار العبودية لله الواحد القهار.. أما في رمي الجمرات، فنحقق الشق السلبي، بنفي كل إله سوى الله عز وجل.
ومما لا شك فيه أن الشيطان هو مظهر الشر على هذه الأرض، وكل الفتن في هذه الدنيا: النساء، والمال، والجاه.. بتسويل منه أليس هو القائل: {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ}.. وهو الذي لم يكتفِ بموقف من المواقف، بل حاول ثلاث مرات -مع إبراهيم، وهاجر، وإسماعيل- أن يصد عن السبيل.. ومن هنا نقول: ينبغي الحذر من الشيطان، الذي قد يتعرض للإنسان في جوانب عدة؛ فإن أخفق في جانب، يأتيه من جانب آخر.. وقد قيل: أن آخر ما يخرج من قلوب الصديقين هو حب الرئاسة!..
س٨/ نود أن نسمع بعض الخواطر التي مرت عليكم في الحج؟..
على كل ٍّ قسم من هذه الخواطر، هي أسرار الإنسان، ولا يمكن أن تذكر في هذا المقام العام:
* في المدينة أنا عادة أحب الخلوة في الروضة النبوية الشريفة، وأحرص على التواجد في ساعات إغلاق أبواب الحرم؛ حيث أعيش حالة من الخصوصية مع النبي المصطفى (ص)، والانشداد لقبره (ص).. وخاصة عندما يتم التعجيل في إفراغ الحرم، فالإنسان يريد أن يخرج فيرجعه الشوق إلى زيارة الحبيب المصطفى (ص).. فإذا كان الإنسان هكذا يشتاق إلى الحبيب المصطفى (ص) وهو في عالم البرزخ، فكيف في أيام حياته!.. هنيئاً لمن أدرك النبي ورأى ذلك الجمال المحمدي!..
* وكذلك في ساعة السحر، حيث منظر الحجاج وهم يقفون على باب الحرم النبوي، ينتظرون انفتاح الأبواب؛ ليهجموا هجوماً سريعاً، بحيث تمتلئ الروضة في دقائق قليلة.
* وعند الحطيم، حيث أستمع إلى مناجاة الحجاج والمعتمرين، وياله من موقف جميل!.. فالحطيم من أقدس البقاع في مكة -حوالي متر ونصف بين الباب والحجر- ومن المستحيل أن يهمل الإنسان عند هذا المكان المقدس، وخاصة عندما يتعلق بأستار الكعبة، ويمد يده على هيئة المتصدق المسكين، ويقول: (إلهي عبيدك ببابك!.. عبيدك بين يديك!.. مسكينك ببابك!.. فتصدق عليه).
س٩/ نلاحظ دائماً بأنه بعد انتهاء المواسم العبادية، هناك حالة خمول أو فتور السالك.. فهل هناك خطة مناسبة للحفاظ على استمرارية هذا التعايش الروحي؟..
إن بعض أنواع الحرمان من هذه الموائد المعنوية، هو حرمان طبيعي؛ نظراً للخروج من الضيافة الإلهية؛ وبالتالي ارتفاع المائدة.. ولكن أيضاً قد يكون الأمر عقوبة للإنسان الذي يكفر بهذه النعمة الإلهية، ولا يوقرها في شهر رمضان، أوفي الحج.. حيث يكون ضيف الرحمن ثم يبادر بالفحش في القول والخوض في الأباطيل!..
س١٠/ نريد منكم تفسيراً لعلاقة مولانا صاحب الأمر (عج) بيوم عرفة؟..
حقيقة عرفة ومنى أضيق منطقة جغرافية يلتقي فيها الحاج بصاحب الأمر (عج)، وإن لم يتعرف عليه.. فالإمام (عج) من المستحيل أن يفوّت على نفسه حج البيت، وهو أمير الحجاج، وصاحب الموسم، والراعي لكل موسم.. وهو بلا شك إما سيكون في الطواف، أو السعي، أو في عرفة، أو في منى.. وعليه، فإنه ينبغي اغتنام هذه المناطق، وخاصة في رمي الجمرات، نحن عادة وبعض الأخوة المنفتحين في العوالم المعنوية، نجلس عند عمود من الأعمدة، ونناجي ربنا، وندعو له بالفرج، ونطلب منه إذا مر في تلك الساعة -قبل الزوال- أن ينظر إلى جمعنا؛ ليدعو الله تعالى في إعانتنا على الشيطان.
س١١/ من المعلوم أن (الحج عرفة).. ما هي فلسفة يوم عرفة، وما مدى تأثيره على الجانب الروحي للحاج؟..
إن عرفة من المواقف الجميلة والمهمة؛ لتغيير رؤية الإنسان والسعي به نحو الكمال.. وعليه، فإن من الضروري الاستفادة من هذا الموقف العظيم الاستفادة الحقيقية القصوى، وذلك بـ :
* المبالغة في الدعاء والمناجاة لله عز وجل بانقطاع وتوجه وتذلل: أليس من الغريب أن الله تعالى -وهو الحكيم- لم يجعل في يوم عرفة أعمالا بدنية مرهقة: كالسعي، والطواف، والهرولة، ورمي الجمرات، والمبيت.. وإنما فقط الوقوف في الصحراء، والانشغال بالدعاء، إلى حد أنه منهي عن الصوم إذا كان يضر بمسألة التوجه إلى الله تعالى.
* الربط بين يوم عرفة ويوم عاشوراء: ما بال هذه الأمة تعامل ابن النبي، تلك المعاملة الفجيعة في يوم عاشوراء، حيث تضرب شفاهه الطاهرة بالخيزران!.. وهو صاحب دعاء عرفة : (إلهي ماذا وجد من فقدك، وما الذي فقد من وجدك؟!.. أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك.. متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟!.. ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟!.. عميت عين لا تراك!..).
* التأمل في مضامين دعاء الإمام الحسين (ع) يوم عرفة: من الملاحظ أن الإمام (ع) في أول دعاء عرفة، يقف على منصة المشرحة، ويشرِّح الإنسان إلى عظام دقيقة، وأعضاء فعالة؛ حتى يتذكر الإنسان بأن عليه أن يؤدي حق هذه النعم، ويشكر الله تعالى.. ثم نرى بأنه يعقد مقارنة جميلة بينه وبين الرب حيث يقول: (أَنا الَّذِي أَسَأْتُ، أَنا الَّذِي أَخْطَأْتُ، أَنا الَّذِي هَمَمْتُ… أَنْتَ الَّذِي مَنَنْتَ، أَنْتَ الّذِي أَنْعَمْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَحْسَنْتَ…).
* تحسس الرحمة الإلهية الغامرة، التي تطول حتى قساة القلوب، والذين لهم تاريخ غير مشرق في المعاصي المختلفة.. ثم إن الحالة الشعورية بين الحجاج من التواد والتآلف فيما بينهم، حيث تنعدم كل الحواجز المكانية والفكرية والعقائدية والاجتماعية.
وعلى كلٍّ، فإن من لم يستفد من يوم عرفة، حاله كإنسان فاتته ليالي القدر، ولم يحقق فيها قرباً إلى الله تعالى.
س١٢/ هناك الكثير من الحجاج الذين يقفون عند الحدود ويمنعون من الدخول، فهل هؤلاء يعتبرون من ضمن الحجيج، أي هل حجهم مقبول؟..
من الطبيعي أنه لا يمكن أن يحج كل حجاج بيت الله في سنة واحدة، حيث لا يمكن أن يفتح الباب على مصراعيه بلا حدود؛ فهذا مما قد يسبب ارتباكات أمنية ومشاكل صحية.
إلا أن (نية المؤمن خير من عمله).. فعلي (ع) عندما قال له أحد أصحابه في وقعة الجمل: وددتُ أنّ أخي فلاناً كان شاهداً، ليرى ما نصرك الله به على أعدائك.. فقال: أهوى أخيك معنا؟.. قال: نعم.. قال: (فقد شهدنا، ولقد شهدنا في عسكرنا هذا قوم في أصلاب الرجال وأرحام النساء، سيعرف الزمان بهم ويقوى بهم الإيمان).. وكذلك الحاج، أو المعتمر، والمجاهد، أو طالب الشهادة.. فإذن، إن الإنسان الذي ينوي شيئاً من هذه الأمور، فإنه قطعاً يؤجر على ذلك.
س١٣/ هل إن إعطاء نفقة الحج لإنسان محتاج مجزئ عن الحج، على افتراض أنه لم تتاح له فرصة أخرى، أم أن الأمر ثواب معنوي فقط؟..
إذا كانت الحجة واجبة، فلا يُقدم عليها شيء، قال تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}.. أما في حال كونها مستحبة، نعم، قضاء حاجة المؤمن أمر راجح.. وعن إسحاق بن عمار، قال: قال أبو عبدالله الصادق عليه السلام: (من طاف بهذا البيت طوافاً واحداً، كتب الله له ألف حسنة، ومحا عنه ألف سيئة، ورفع له ألف درجة، وكتب له عتق ألف نسمة، وقضى له ألف حاجة، وغرس له ألف شجرة في الجنة).
وقال: قلت: هذا كلّه لمن طاف بالبيت طوافاً واحداً؟.. قال: (نعم، أولا أخبرك بأفضل منه)؟.. قلت: بلى جعلت فداك!.. قال عليه السلام: (قضاء حاجة المؤمن أفضل من طواف وطواف، حتى عدّ عشرة).
فإذن، إذا رأى مؤمن أن مبلغ الحج يمكن أن يؤسس بيتاً زوجياً، أو يعالج مريضاً، أو يفرج عن كربة مؤمن.. عليه أن يقدم حاجة أخيه المؤمن، ثم إنه ليس على الإنسان أن يحج في كل عام، ورد في رواية أنه (مَن حجّ ثلاث سنين متوالية، ثم حجّ أو لم يحجّ.. فهو بمنزلة مَن يدمن الحجّ).
س١٤/ من المعلوم أن صيام التسعة الأولى من شهر ذي الحجة يعدل صيام الدهر.. أنا علي تسعة أيام قضاء من شهر رمضان، فهل يجوز أن أجعلها في هذه الأيام المباركة، وهل أؤجر على ذلك؟..
نعم، أنا أرجح قضاء صوم شهر رمضان في هذه الأيام المباركة، ورب العالمين تفضلاً منه وتكرماً يسقط عنه التكليف من ناحية، ويعطيه كرامة ذلك اليوم.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.