هناك محطات كثيرة لدروس عديدة، نستطيع أن نستفيد منها عند إحياء مناسبات أئمتنا (عليهم السلام) فرحا وحزنا، ولادة واستشهادا.. فمثلا: من يريد أن يُحيي ذكرى الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، فانه من المناسب أن يعزم على اكتساب صفة كظم الغيط تأسيا بالإمام موسى بن جعفر (عليه السلام).. يقول ابن الأثير في تاريخه الكامل: سمي بالكاظم، لأنه كان يحسن إلى من أساء إليه، وكانت هذه عادته أبدا.. فلو عاهدنا ربنا في هذا اليوم، على أن نعفو عمن ظلمنا، ونكظم غيظنا، وأن نحسن إلى من قطعنا.. نكون بذلك قد سددنا بابا كبيرا من أبواب الشيطان في حياتنا.
إن حياة الإمام الكاظم (عليه السلام) حياة ملفتة للنظر، لأنه قبل الإمام الكاظم (عليه السلام)، كان هناك انفراج في الساحة الإسلامية.. فالصادقان أو الباقران، أخذا دورهما في حياة الأمة، فقد ربوا أربعة آلاف تلميذ، فكان لهم مجدهم وإشعاعهم في العطاء.. واما الامام الكاظم (عليه السلام) فقد تعرض لحياة مريرة وهو اكثر الائمة (عليهم السلام) لبثا فى السجون ومع ذلك كان له امتداده فى صفوف شيعته الى درجة اضطر المأمون بعد استشهاد الامام الكاظم (عليه السلام) أن يجعل ولده الرضا (عليهم السلام) وليا للعهد.. إن حياتهم حياة مترابطة، ودورهم دور سماوي.. وقد يلاحظ أن حياة الأئمة (عليهم السلام) في مد وجزر بحسب الانكعاس الخارجي.. فالإمام المعصوم بمثابة الشمس المشرقة، ولكن عندما تتواجد السحب في الأفق، فإنها تحجب شعاع الشمس.. وعندما تنقشع، وإذا بالشمس ضاحية في وسط النهار.. إنهم النور الإلهي في الأرض.. ويعبر عن الإمام الحجة (عجل الله فرجه الشريف) في زمان الغيبة، بأنه كالشمس وراء السحب، يشرق ويضيء، مع أنه لا يُرى في هذه الأمة.. فهم كما عبر عنهم القرآن الكريم بالنور: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}.
ولو ترك لهم المجال فهم الشمس، ولكن عندما يتصدى لأمور المسلمين خليفة كهارون الرشيد، الذي كان معروفا بلياليه الماجنة، وسجونه المظلمة، حتى أنه يصل الأمر به إلى أن يتحدى رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) فيدخل حرم النبي (صلى الله عليه واله وسلم) ويقول: بأبي أنت وأمي!.. إني أعتذر إليك من أمر قد عزمت عليه.. ألا وهو أن يلقي الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) في غياهب السجون.. فالإمام (عليه السلام) لم يوضع في السجن جزافا، وإنما لأنه كان وجودا فاعلا ومميزا.
إن الإمام (ع) بارك في تفعيل الجهود العلمية للصادقين، لتتحول إلى زخم سياسي في حياة الإمام الرضا (عليه السلام).. فقد استفاد الرضا (عليه السلام) من الاحترام العلمي، الذي أثاره الصادقان، زائدا إلى جو الظلامة الذي تحمله الإمـام موسى بن جعفر (عليه السلام) .. ولهذا برز إلى درجة أن الأئمة الذين جاءوا بعده كانوا يسمون بأبناء الرضا (عليه السلام).. وعليه، فإن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) له حق كبير على الأئمة وعلى الشيعة.. لأنه بظلامته أعطى هذه الميزة، وهذا البروز لابنه الرضا (عليه السلام).. إن الإمام الكاظم (عليه السلام) -رغم التعتيم الإعلامي- كان له دور في زمانه.. وقد قال عنه هارون: هذا من رهبان بني هاشم.. وعندما قيل له: بما أنك تعترف أنه من رهبان بني هاشم، فلماذا هذا التعذيب.. فقال: هيهات!.. لا بد من ذلك، فإن الملك عقيم!!.
محطات القدوة في حياته (عليه السلام ):
كان في المدينة يحمل الذهب والفضة، والتمر في كل ليلة، ويمر بها على بيوت المساكين، وهم لا يعرفونه (عليه السلام).. وهذا ديدن الأئمة جميعا، فرغم عطائهم العلمي، وانشغالهم في جوف الليل بعبادتهم، التي لا نعلمها نحن، كانوا لا يتركون أمر الأمة.. بل كانوا يغذونهم: علما، وعملا، وطعاما ، وغير ذلك .. فقد كان بإمكانه أن يكلف خادمه بحمل التمر والخبز، ولكن أبى إلا أن يحملها بنفسه.. لكي يضع سنّة في مواليه وأحبائه: أنه من صفات المؤمن الموالي أن يفكر في شؤون الأمة، والمستضعفين، والفقراء، والمساكين.. ويباشر بنفسه تمويلهم.
كان يلقب بزين المجتهدين في المدينة، وكان أحفظهم لكتاب الله الكريم.. فمن أراد أن يكون موسويا، متأسيا بموسى بن جعفر(عليه السلام) ، عليه أن يكون كذلك، زين المجتهدين، وأحفظ الناس لكتاب الله الكريم.. إن الذين يتقاعسون عن العمل بدعوى الشفاعة، أين هم من فعل موسى بن جعفر(عليه السلام)، زين المجتهدين وهو ابن رسول الله، وإمام الأمة.. ومع ذلك لا يقصر في عبادة ربه، تعويلا على شفاعة جده، أو انتسابه إلى رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم).
إن الأئمة (عليهم السلام) بمثابة القمم ، علينا أن نتشبه بالذين يتسلقون هذه القمم.. إن هارون الرشيد أنفذ إلى الكاظم جارية حصيفة، لها جمال ووضاءة لتخدمه في السجن، وإذا بها تتحول إلى عابدة، ترتمي على الأرض ساجدة وهي تقول: (قدوس سبحانك سبحانك)!.. فما زالت كذلك حتى ماتت وكانت قد سئلت: ما شأنك؟.. فقالت: نعم، هكذا رأيت العبد الصالح.. إن وجوده أثر في هذه الجارية، فحولها إلى عابدة تلهج بذكر الله تعالى.. فإذن، إن أحدنا، يجب أن يكون له دور تغيري في نفوس من حوله، في هذا المجتمع الذي يعيش فيه.. ومثال آخر لذلك قصة بشر التي فيها نقاط جميلة:
أولا: سمي بذلك، لأنه تبع الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) حافيا عندما تاب.
ثانيا: ويقال بأنه سمي بذلك، لأنه كان يستحي أن يمشي على بساط ربه منتعلا.. فالله تعالى يقول: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا}.
ثالثا: إن الإمام (عليه السلام) لم يواجه بِشرا، ولم يتكلم معه، ولم يتجل لبِشر كما تجلى للجارية في السجن.. ومع ذلك فقد أثرت الكلمة أثرها، بحيث قُلب بِشر إلى رمز في الزهد في تاريخ المسلمين.. فالإمام لم يذكره بجهنم، ولم يرغبه بالجنة.. بل قال له: أنت عبد لله عز وجل، وعلى العبد أن يمتثل أمر المولى، إلا أن ينكر مولوية المولى.. ومن هنا فقد علّمنا الإمام (عليه السلام) درسا، وهو: أنه علينا أن نحارب المنكر محاربة جوهرية.. والله تعالى يبارك في كلام الصادقين، فالإمام موسى (عليه السلام) إمام صادق، لذا فإن فعله غيّر الجارية بالمباشرة، وقوله بالوساطة غيّر بِشرا.. والمؤمن كذلك إن كان صادقا.
إن الإمام يريد من محبيه، أن يكونوا في حالة من حالات حمل هموم إخوانهم المؤمنين.. أحدهم يتوسل بالإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)، ليشفع له عند من تولى إمارة بعض الظلمة.. فيعطيه كتابا في موسم الحج: (بسم الله الرحمن الرحيم، اعلمْ أنّ لله تحت عرشه ظلاً، لا يسكنه إلا من أسدى إلى أخيه معروفاً، أو نفّس عنه كربةً، أو أدخل على قلبه سروراً، وهذا أخوك والسلام).. يقول هذا الرجل: فعدت من الحج إلى بلدي، ومضيت إلى الرجل ليلاً، واستأذنت عليه وقلت: رسول الصابر (عليه السلام)!.. فخرج إليّ حافياً ماشياً، ففتح لي بابه، وقبّلني وضمّني إليه، وجعل يقبّل بين عينيّ، ويكرّر ذلك كلما سألني عن رؤيته (عليه السلام)، وكلما أخبرته بسلامته وصلاح أحواله استبشرَ، وشكَر الله.. ثم أدخلني داره وصدّرني في مجلسه، وجلس بين يديّ.. فأخرجتُ إليه كتابه (عليه السلام) فقبّله قائماً وقرأه، ثم استدعى بماله وثيابه، فقاسمني ديناراً ديناراً، ودرهماً درهماً، وثوباً ثوباً، وأعطاني قيمة ما لم يمكن قسمته، وفي كل شيء من ذلك يقول: يا أخي هل سررتك؟!.. فأقول: إي والله، وزدت على السرور، ثم استدعى العمل، فأسقط ما كان باسمي وأعطاني براءة مما يتوجّه عليّ منه، وودّعته وانصرفت عنه.. فقلت: لا أقدر على مكافأة هذا الرجل، إلا بأن أحجّ في قابل، وأدعو له، وألقى الصابر (عليه السلام) وأُعرّفه فعله، ففعلت ولقيت مولاي الصابر (عليه السلام) وجعلت أحدثه، ووجهه يتهلّل فرحاً، فقلت: يا مولاي هل سرّك ذلك؟!.. فقال: (إي والله لقد سرّني، وسرّ أمير المؤمنين، والله لقد سرّ جدي رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) ولقد سرّ الله تعالى).
هكذا يجعل الإمام سروره مرتبطا بسرور جده، وسرور النبي (صلى الله عليه واله وسلم)، وسرور الله تعالى.. فإذن، علينا أن لا نقضي حوائج إخواننا على مضض، وبمنة واستعلاء وتكبر.. فهم أصحاب المنة، وعلينا أن نشكرهم لأنهم فتحوا لنا هذا الباب.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.