- ThePlus Audio
محاربة النفس والشيطان
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وأفضل الصلاة وأتم السلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين محمد المصطفى وآله الطيبين الطاهرين
تاريخ الصراعات البشرية على وجه الأرض
لو نلاحظ تاريخ الصراع والمعارك والمواجهات التي حصلت في تاريخ حياة الإنسان على وجه الأرض، نرى أنَّها لا تخلو من حالات ثلاث: الحالة الأولى هي مواجهة البشر مع البشر، ولو سألنا تربة هذه الأرض لحدثتنا أموراً كثيرة، ولا عجب في ذلك؛ فإن الله سبحانه وتعالى يذكر في القرآن الكريم حواره مع الأرض في قوله سبحانه: (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)[١]، ويحدثنا سبحانه عن حال الأرض يوم القيامة فيقول: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)[٢]، وإن كنَّا لا نعلم تفاصيل هذا الحديث وهل أنَّ ذلك يكون من خلال الملائكة الموكلة بالأرض أو ما شابه ذلك؟ ولكنَّ الذي نعلمه أنَّ القرآن صادق في حديثه وهو الكلام المنزل من عند الله عز وجل، ولو سألنا الأرض لضجت لما جرى عليها من أحداث وما سفك عليها من الدماء البريئة، ولا شأن لنا بالدماء التي أريقت بحق؛ بل الكلام في الدماء التي أريقت بغير وجه حق، فهي تشكو وتضج إلى الله عز وجل.
دواعي وأسباب الحروب
والغريب أنَّ أولى المعارك التي شهدتها الأرض كانت في زمان تخلو فيه الأرض الوسيعة بكنوزها وخيراتها من السكان إلا ثلة قليلة، فهناك أب باسم آدم وأم باسم حواء وذرية باسم هابيل وقابيل، وليت المعركة انتهت باللكم والضرب والجرح لا بإراقة الدماء البريئة، ولقد قتل قابيل هابيل بعذر سخيف جداً – ولقد كانت الحروب في غابر الأيام وإلى يومنا هذا تبدأ بدواعي باطلة – إذ قدم قابيل قرباناً فلم يُتقبل منه وتُقبل من هابيل، ومن الغريب أنَّ المنافسة كانت بحسب الظاهر للتقرب إلى الله عز وجل، ولكن الحسد استولى على قابيل وقابيل نفسه لم يذكر سبباً آخر؛ كأن يكون النزاع مالياً أو نزاع على امرأة أو منصب أو ما شابه ذلك، بل مجرد القبول من هابيل كان سبباً كافياً لقتله.
إنَّ من دواعي الحروب على مر التاريخ هو داعي الحسد، كما كان السبب لما وقع بين هابيل وقابيل، وحقيقة إنَّ الذنب الذي ينتجه الحسد هو من أسخف أنواع الذنوب؛ فقد يتعرض الإنسان لأموال الآخرين فيكسب متاعاً أو مالاً أو تشتد الشهوة بآخر فيوقع امرأة من حرام ليحصل على سويعات من اللذة وإن كانت عاقبتها الندامة الأبدية، ولكنه يحصل على قليل من المتعة في هذه الدنيا، ولكن ماذا يجني الحسود الذي يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله؛ غير الحرقة في داخله وتسارع في نبضاته وتوال في أنفساه وغليان في باطنه ثم هو لا يهنأ بطعام ولا شراب، ولا يقف عند هذا الحد؛ بل يتكلم على أخيه المؤمن ويغتابه ويبهته ويسقطه من أعين الناس، وهو يراوح في مكانه لا مال أضيف إليه ولا امرأة استمتع بها ولا ربح حصل عليه.
والحرص كذلك من دواعي الحروب، ما نراه اليوم من حرص القوى المستولية على وجه الأرض ورغبتهم في زيادة السلطان وبسط النفوذ خير شاهد على ذلك، والتاريخ مليئ بالغزاة الذين لم يكن ينقصهم شيء ولكنهم مع ذلك جرهم الحرص وحب التوسع إلى مصادرة خيرات الآخرين.
ومن الدواعي الغريبة للحروب على وجه الأرض؛ هو اللؤم وخبث الباطن، فليس ثمة حرص ولا حسد ولكن خبث في باطن الإنسان، وقد ورد في الرويات الشريفة: (أَنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْعَبْدَ وَيُبْغِضُ عَمَلَهُ)[٣]، فقد يحبه الله عز وجل لذاته السليمة وحبه للخير وبغضه للشر ونصحه للآخرين، ولكن مع ذلك قد يبدر منه بعض الزلل في أعماله ولكنه قريب من الرحمة الإلهية، أما الذي ديدنه قتل الرضع – ونحن نسمع بإنسان قتل ظلماً نتألم له فكيف إذا كان المقتول طفلاً رضيعاً – وأعني فرعون الذي اضطر أم موسى (ع) إلى أن تضع ابنها في مهد وتلقيه في البحر خوفا من سطوته، فهذا عمل ناشئ عن سوء السريرة وخبث الباطن.
المعركة الفاصلة بين النفس والعقل
وهناك صورة أخرى من صور المعارك على وجه الأرض قائمة بين جوانبنا، وهي معركة النفس مع العقل وهي سجال بين العقل والشهوة، وقد بين الله سبحانه في كتابه أن الإنسان مخير في هذه المعركة: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)[٤]، ولو أراد سبحانه أن يجعل الإنسان خاليا من الشهوات لاكتفى بخلق الملائكة الذين وصفهم في كتابه: (وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ)[٥]، والذين (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[٦]، ولم ينقل لنا القرآن الكريم إلا صورة واحدة؛ وهي استغراب الملائكة من خلق آدم عند قوله سبحانه: (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)[٧]، ولا أظنهم كانوا في مقام التحدي؛ فلم يطل الأمر حتى عادوا إلى صوابهم واستغفروا لما بدر منهم فقالوا: (سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا)[٨]
هل الوصول إلى الله سبحانه سهل يسير؟
إنَّ الله سبحانه لا يريد من العبد أن يصل إليه كما اتفق؛ بل إن الوصول إليه سبحانه ذو مشقة وجهد وتعب، يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)[٩]، والمثال على ذلك؛ محاولة الإنسان تدريب ولده على المشي، فتراه يضع ولده الذي قد تعلم المشي لتوه؛ بعيداً عنه، ثم يدعوه إليه ويحبب إليه الحركة نحوه، وقد يسقط في الأثناء فيشجعه على القيام والاستمرار، والحال أنه يستطيع أن يتقدم إليه ويرفعه ويحتضنه ولكن ليس مراد الوالد اللقاء بالولد فحسب؛ بل يريد منه أن يسعى الولد سعياً حثيثاً ويفرح الوالد كلما نهض الولد وتقدم نحوه خطوات. إن رب العالمين يريد منا أن نتقدم إليه كتقدم هذا الطفل نحو أبيه ولا ضير في أن نسقط فنقوم فنستغفر فنكمل.
أنين المستغفرين أحب إلى الله من تسبيح المسبحين
وهناك رواية منقولة عند الفريقين، تقول: (أنين المستغفرين أحب إلى الله من تسبيح المسبحين)[١٠]، فقد يجلس المسبح على سرير في زاوية البيت مرتاح البال يسبح الله عز وجل ويقدسه؛ ولكن المذنب لا يسبح الله عز وجل إلا وجبهته على الأرض، ودموعه تسيل على خديه، وحاله حال يونس (ع) في بطن الحوت، وهو يقول: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)[١١]، يقول: قد كنت من الظالمين وهو يتصبب العرق خجلا ووجلا واستحياء من الله عز وجل، فأين حال هذا عن ذاك؟
والحرب سجال..!
ولا تبقى هذه المعركة على وتيرة واحدة؛ بل غالب ومغلوب، قد ينتصر العقل تارة والجهل أخرى، والأمور بخواتيهما، ولا بأس بأن يعيش الإنسان هذا السجال، ولكن الخوف من أن يغلبه الجهل في سويعاته الأخيرة فيبغته الموت وقد غلبت سيئاته حسناته؛ فيدخل القبر مغلوباً في نهاية المطاف.
الجهاد الأكبر والجهاد الأصغر
إنَّ الحرب لا تخلو من حالتين: إما أن تكون حربا خارجية مع عدو خارجي وإما أن تكون حربا داخلية مع عدو داخلي، وقد بين لنا النبي الأكرم (ص) الفرق بين الحربين، فقد وصف الأول بالجهاد الأصغر، والأخير بالجهاد الأكبر وهو جهاد المرء نفسه، ولكن لماذا وصف النبي (ص) الجهاد مع النفس بالجهاد الأكبر؟
إن المعركة مع العدو الخارجي لا تخلو من الطعن والضرب والجرح وقطع الأطراف وما شابه ذلك، والعدو فيها واضح يراه الإنسان أمام عينه؛ ولكن من منا يرى نفسه؟ هذه النفس التي تحرك الإنسان وتبقى معه إلى أبد الآبدين، ولقد يدفن المرء ويهال عليه التراب وهو في عالم البرزخ؛ إما يعيش النعيم وإما يصلى الجحيم في جسمه المثالي البرزخي، فهل حاولنا أن نكتشف مداخل النفس وعيوبها؟ هل حاولنا أن يطبق الحديث الذي يقول: (مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ)[١٢]؟ هذه النفس التي بها يعبد الإنسان ربه وبها يحقق السعادة الأبدية ناهيك عن معرفة عالم الملائكة والجن.
إن الحروب الخارجية هي حروب متقطعة لا تستمر إلا لفترة من الزمن ثم تنتهي، فقد قرأنا في كتب التاريخ حول الحروب الصليبية والحرب العالمية الأولى والثانية وأجارنا الله من الثالثة وكلها حروب خاضها البشر في يوم من الأيام ثم انتهت؛ ولكن معركتنا وحربنا مع النفس تبدأ من أول يوم يكلف فيه الإنسان إلى آخر يوم في حياته، وحتى في تلك الساعات الأخيرة لا يتركه الشيطان بل يقف على رأسه محاولاً إخراجه عن دائرة الإيمان، ويقال: أن جهود الشيطان لإغواء الإنسان في العمر كله في كفة وفي ساعة الاحتضار في كفة أخرى.
والفرق بين الجهاد الأكبر والأصغر هو أنَّ الإنسان له أعوان في الجهاد الأصغر ويوجد هناك من يأخذ بيده. إن النبي (ص) كان يقاتل معه أصحابه، وكان يقاتل مع أمير المؤمنين (ع) في حروبه التي خاضها في صفين والنهروان والجمل ليث هزبر ومهاجم كرار غير فرار وجبل أشم كمالك الأشتر وكان يقاتل معه عمار بن ياسر وسائر الأبطال الأشاوس وقاتل مع الحسين (ع) تلك الصفوة الصالحة من المؤمنين، الذين بذلوا مهجهم دونه، ولكن مع يعينك على نفسك عندما تختلي بهذه الأجهزة الحديثة؟
أسوأ العصور فسادا..!
ولو عملنا إحصائية عن أسوأ العصور التي تيسر فيها الفساد من أول يوم هبط فيه آدم على وجه الأرض إلى يومنا هذا، لرأينا أن أيامنا هذه هي أسوأ العصور من حيث تيسر الفساد، وكلما تطورت التكنولوجيا اقتربنا إلى عصور أكثر سوءا. وليس من الغريب أن يصبح أحدنا مؤمنا وجه النهار ويكفر آخره أو يفسق. إن الشاب قبل مائة أو مائتين سنة كان إذا هم بالزنا يجد لذلك مشقة شديدة، ولم يكن باستطاعته ذلك في قريته الصغيرة، ولم يكن بإمكانه إلا أن يتعرض للمرأة التي تاهت في الصحاري أو القفار على سبيل المثال، أو يذهب إلى البلاد الكافرة أو ما شابه ذلك. ولو نراجع الأفلام المصورة عن أوروبا قبل مائة عام؛ نلاحظ أن المرأة كانت أكثر حشمة في زيها من الآن، ولم يكن في أوروبا هذا الوضع الذي نراه الآن سائدا قبل مائة من السنين؛ فلم يكن ثمة سفور وخلاعة كالتي نراها اليوم ودور فساد وحوانيت منتشرة في كل مكان ولا تكلفك المعصية إلا اتصالا هاتفيا!
ليس في هذه المعركة من معين..!
وعندما يصبح الفساد سهل الوصول، يصبح الإنسان كالمتزحلق على الجليد بجانب حافة الوادي، يكفي أن يغفل للحظة ليرى نفسه مهشماً في قعر الوادي إن لم تنقذه مهارته في النجاة من ورطته. ومن يعين الذي يخلو بنفسه في جوف الليل وبيده الأدوات الحديثة المتمثة بالقنوات الفضائية المشفرة وغير المشفرة التي يقلبها كيف يشاء، أو الأقراص المدمجة أو المواقع الإباحية أو وسائل التواصل الاجتماعي؟ ففي يومنا هذه بإمكان الإنسان أن يضع هذا الجهاز الصغير في جيبه ويصطحبه معه في حله وترحاله؛ فيشاهد متى ما شاء من الأفلام الإباحية وغيرها ما شاء وبكل سهولة ويسر، فهي حرب لا ينجو منها إلا من رحم الله وعصم.
وغاية الأمر في الجهاد الأصغر أن تقتل العدو أو تقتل بطلقة أو طعنة أو ضربة وانتهى الأمر؛ كما قضى النبي (ص) في معركة بدر على أئمة الكفر ورؤوس الفتنة، وعلى من بقي منهم في معركة أحد، ومن ثم فتح مكة، ولكن ماذا يفعل الإنسان بهذه النفس؟ أيمكنه أن يتخلص منها بالقتل؟ فلا تموت النفس بموت البدن، وإن كانت النفس حادثة إلا أنها باقية كما يبدو ذلك جليا في مخاطبة الله عز وجل لأهل الجنة في الدار الآخرة: (من الحي القيوم الذي لا يموت إلى الحي القيوم الذي لا يموت)[١٣].
حرب الشيطان والنفس
والحرب الثالثة هي حرب الشيطان مع النفس. ويمكن القول أنَّ الحقد الذي يحمله الشيطان لبني آدم هو حقد غير طبيعي، ويقول أمير المؤمنين (ع): (فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اَللَّهِ بِإِبْلِيسَ إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ اَلطَّوِيلَ وَجَهْدَهُ اَلْجَهِيدَ وَكَانَ قَدْ عَبَدَ اَللَّهَ سِتَّةَ آلاَفِ سَنَةٍ لاَ يُدْرَى أَ مِنْ سِنِي اَلدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي اَلْآخِرَةِ عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ)[١٤]، ولشد ما يقض مضاجع الأولياء والصالحين؛ هذا الخوف العظيم من سوء العاقبة، وجدير بالمرء أن يحذر سوء العاقبة. إن تراكم الذنوب والمعاصي وظلم العباد قد يتجلى في ساعة على صورة انتكاسة مخزية، وقد يمنع هذا التراكم الإنسان من عمل الخير وحتى القيام بالفرائض الواجبة. إن عداوة الشيطان سارية لكل بني آدم من دون استثناء، وهو يريد أن ينتقم من جميع البشر، ولذلك قالت أم مريم (ع) عندما وضعتها: (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)[١٥].
إن الإنسان لتصيبه الدهشة من فعل إخوة يوسف (ع) به وما سوله الشيطان لهم، وقد كان يوسف (ع) فائق الجمال مما جعل نسوة من نساء مصر يقطعن أيديهن من جماله بمجرد أن رأينه، وينزلنه بمنزلة الملك لا بمنزلة البشر؛ إذ قلن: (مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)[١٦]، ومن منا لا يتمنى أن يرى جمال يوسف؟ ولو نشرت إحدى مواقع الإنترنت أنها قد عثرت على صورة ليوسف (ع) كم سيكون عدد الذين يدفعون المبالغ الطائلة لمشاهدة هذه الصورة؟
خطر الشيطان حتى على أبناء الأنبياء (عليهم السلام)
إن يوسف (ع) كان جميلاً منذ صغره، وقد كان الجميع معجب به فكيف بمن هو أخ ليوسف (ع)؟ وقد أجمع إخوته كلهم – بالرغم من ذلك – على أن يلقوه في غيابة الجب، والموت البطيء هو من أشد صور التعذيب، فقد يقتل الإنسان بطعنة ويموت دفعة واحدة وقد يلقى في صحراء قاحلة أو يودع في سجن ليموت جوعا وعطشا، وهذا الذي حصل ليوسف (ع)؛ فقد عانى في الجب من ظلمة الليل والجوع والعطش، وهو الذي كان قبل قليل في أحضان النبي يعقوب (ع)، فأين حضن النبي (ص) وذلك الدلال من هذا البئر ووحشته؟ وقد صدر هذا الفعل من أبناء نبي من الأنبياء العظام بما وسوس لهم إبليس ونزغ بينهم، ويقول سبحانه: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا)[١٧].
ويمكن اعتبار قصة النبي يوسف (ع) دليل على عظم خطر إبليس وقدرته التخريبية حتى على أبناء الأنبياء (ع)؛ فقد أوصلهم إلى حد ارتكاب جريمة القتل لولا التدخل الإلهي وإنقاذ يوسف (ع) من مخالبهم.
كيف كان يلتجأ الإمام زين العابدين (عليه السلام) إلى الله عز وجل من شر الشيطان؟
وقد بين الإمام زين العابدين (ع) في مناجاته جانباً من مكائد الشيطان وطريقة الالتجاء إلى الله عز وجل من شر الشيطان الرجيم؛ إذ يقول: (إِلَهِي إِلَيْكَ أَشْكُو عَدُوّاً يُضِلُّنِي، وَشَيْطَاناً يُغْوِينِي)[١٨]، ويجدر بالمؤمنين أن يقرأوا هذه المناجاة في الأسبوع مرة أو في الشهر مرة بحسب استطاعتهم، ومتى ما تجسم لهم خطر إبليس أو متى أوقعهم في فخ من فخوخه، ومن منا لا يقع في هذه الفخوخ؟
والإمام معصوم من ارتكاب المنكر والمعاصي ومن الأقوال التي تبين سبب دعاء الإمام بهذا الدعاء: هو أن الإمام يريد أن يعلمنا باعتباره الناطق باسم الأمة؛ كيفية الدعاء والتعامل مع الرب وأن يرشدنا إلى هذه المفاهيم العظيمة التي تمتاز بها أدعيته الشريفة، ثم يقول في هذه المناجاة: (قَدْ مَلَأَ بِالْوَسْوَاسِ صَدْرِي، وَأَحَاطَتْ هَوَاجِسُهُ بِقَلْبِي)[١٩]، وكيف يهتدي إلى طريق الحق من هذا حاله؟ وقد أصبح مسلوب الإرادة؛ لأن القلب هو مصدر القرار لدى الإنسان وقد أصبح بمثابة عاصمة محتلة من قبل الغزاة وقد سقطت العاصمة بوزاراتها، وبجيشها، وبكل مفاصلها بيد العدو، فما الذي تتوقع بعد ذلك؟ إن عاصمة الإنسان قلبه؛ فإذا أصبح القلب كقوله (ع): (قَدْ مَلَأَ بِالْوَسْوَاسِ صَدْرِي، وَأَحَاطَتْ هَوَاجِسُهُ بِقَلْبِي) فأنى يرجو الفلاح؟
حال الشياطين حول الإنسان
ونستشف من بعض الروايات أن الشيطان يستهوي قلوب المؤمنين، وأما قلوب الفاسقين الذين يرقصون من دون طرب فقد فرغ منهم، وليس للشيطان هم إلا أن يستهوي الساكن العاقل الرزين بمزماره ويستدرجه من خلاله، فقد ورد عن الصادق (ع) أنه قال: (وَاَلْأَبَالِسَةُ عَلَى اَلْمُؤْمِنِ أَكْثَرُ مِنَ اَلزَّنَابِيرِ عَلَى اَللَّحْمِ)[٢٠].
بغض الشيطان لأتباع أهل البيت (عليهم السلام)
ويبدو أن الشيطان قد فرغ من الفسقة الفجرة ولم ينصب حبائله إلا لأتباع أهل البيت (ع)، ويتبين ذلك من وصية الإمام الصادق (ع) لأحد أصحابه إذ يقول: (لَقَدْ نَصَبَ إِبْلِيسُ حَبَائِلَهُ فِي دَارِ اَلْغُرُورِ فَمَا يَقْصِدُ فِيهَا إِلاَّ أَوْلِيَاءَنَا)[٢١]؛ فكلما ازداد الإنسان سلامة في عقيدته وصلابة في دينه، ازدادت هجوم الشياطين وتحديهم له في مختلف الحقول.
الشيطان يدافع عن نفسه
وكم نتمنى أن يأتي اليوم الذي نرى إبليس على هيئته وهو في المحكمة الإلهية يحاول أن يدافع عن نفسه في مقابل آدم وذريته الذين عاشوا على هذه الأرض وهم مليارات البشر منذ خلق آدم إلى قيام الساعة، وجميعهم يشتكون إلى الله مما جره عليهم؛ فذلك الذي يشتكي غلبة الشيطان عليه في موضع وآخر يشتكي من وساوسه وكيده، والشيطان يحاول أن يبرئ نفسه من التهم المتوجهة إليه بهذه الآية الشريفة التي نقلها رب العالمين عن لسان إبليس: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[٢٢]، وقد روي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (الْفِتَنُ ثَلاَثٌ: حُبُّ اَلنِّسَاءِ وَهُوَ سَيْفُ اَلشَّيْطَانِ، وَشُرْبُ اَلْخَمْرِ وَهُوَ فَخُّ اَلشَّيْطَانِ، وَحُبُّ اَلدِّينَارِ وَاَلدِّرْهَمِ وَهُوَ سَهْمُ اَلشَّيْطَانِ)[٢٣]، والسهم أقل خطرا من السيف؛ فإنه يرمى من بعيد وقد يصيب وقد يخطأ، وأما السيف وما أدراك ما السيف؟
فتنة النساء وسبل الوقاية من هذه الفتنة
ولا يستقل المؤمن كيد الشيطان؛ فهو يأتيك خطوة خطوة من حيث لا تعشر به، وقد تبدأ الخطوة بنظرة محرمة وما أشدها هذه الأيام لشدة الإغراءات في أسواق المسلمين وغيرها من الأماكن، وقد يشتكي البعض هذه الفتنة فأقول لهم: إن الحل بسيط جدا فلا تشتكي من الزمان وغيره، وهو أن تغض النظر عن الأجنبية ولا تنظر إليها بريبة وشهوة.
والذي يدعو الإنسان إلى الفساد ما يعيشه من الغليان الباطني الناشئ عن النظر إلى الأجنبيات؛ فلابد من قطع دابر الفساد من اللحظة الأولى؛ فقد جعل رب العالمين للإنسان رقبة تتحرك ذات اليمين وذات الشمال وتميل إلى الأعلى كما تميل إلى الأسفل، وهل يوجد جهاز كالرأس يتحرك على الرقبة بهذه السهولة؟ فغض بصرك، ونكس رأسك، وتحكم بجفنيك كما تتحكم برأسك؛ فإذا بالفتنة قد كفيتها، وهناك رواية نرجو صحتها تفيد بأن الذي يغض بصره عند مشاهدة الأجنبيات يزوجه الله من الحور العين، وشتان بين العيش مع حورية أبد الآبدين وبين صورة ذهنية سرعان ما تتبخر.[٢٤]
[٢] سورة الزلزال: ٤.
[٣] الأمالي (للطوسي) ج١ ص٤١٠.
[٤] سورة البلد: ١٠.
[٥] سورة الأنبياء: ١٩-٢٠.
[٦] سورة التحريم: ٦.
[٧] سورة البقرة: ٣٠.
[٨] سورة البقرة: ٣٢.
[٩] سورة الانشقاق: ٦.
[١٠] لم أعثر على المصدر!
[١١] سورة الأنبياء: ٨٧.
[١٢] مصباح الشريعة ج١ ص١٣.
[١٣] بحار الأنوار: ج ٩٣ ص ٣٧٦.
[١٤] نهج البلاغة ج١ ص٢٨٧.
[١٥] سورة مريم : ٣٦.
[١٦] سورة يوسف: ٣١.
[١٧] سورة الإسراء: ٥٣.
[١٨] زاد المعاد ج١ ص٤٠٧.
[١٩] زاد المعاد ج١ ص٤٠٧.
[٢٠] بحار الأنوار ج٦٠ ص٢٥٦.
[٢١] بحار الأنوار ج٧٥ ص٢٧٩.
[٢٢] سورة إبراهيم: ٢٢.
[٢٣] بحار الأنوار ج٢ ص١٠٧.
[٢٤] للأسف المحاضرة مبتورة.
هاشتاغ
خلاصة المحاضرة
- إن أشد المعارك ضراوة على وجه الأرض هي المعركة الناشبة بين العقل من جانب والنفس والشيطان من جانب آخر، وكل معارك الأرض لها أمد تنتهي إليه؛ إلا هذه الحرب التي تبدأ في سن التكليف لتنتهي عند خروج الروح من جسم الإنسان، وهي حرب ليس للإنسان فيها أية أعوان إلا ما رحم الرحمن.
- لا تستمر المعركة العقل والجهل على وتيرة واحدة؛ بل غالب ومغلوب، قد ينتصر العقل تارة والجهل أخرى، والأمور بخواتيهما، ولا بأس بأن يعيش الإنسان هذا السجال، ولكن الخوف من أن يغلبه الجهل في سويعاته الأخيرة فيبغته الموت وقد غلبت سيئاته حسناته؛ فيدخل القبر مغلوباً في نهاية المطاف.
- إن المعركة مع العدو الخارجي لا تخلو من الضرب والجرح وقطع الأطراف، والعدو فيها واضح أمام الإنسان؛ ولكن من منا يرى هذه النفس التي تحرك الإنسان وتبقى معه إلى أبد الآبدين؟ فهل حاولنا أن نكتشف مداخل النفس وعيوبها؟
- ولو عملنا إحصائية عن أسوأ العصور التي تيسر فيها الفساد من أول يوم هبط فيه آدم على وجه الأرض إلى يومنا هذا، لرأينا أن أيامنا هذه هي أسوأ العصور من حيث تيسر الفساد، وكلما تطورت التكنولوجيا اقتربنا إلى عصور أكثر سوءا. وليس من الغريب أن يصبح أحدنا مؤمنا وجه النهار ويكفر آخره.