تستخدم وسائل الإعلام هذه الأيام المدح والذم – للأشخاص والأفكار على السواء- سلاحًا خطيرًا في التأثير على أراء الناس، وخاصة من لا يمتلك قدرة على التعقل.. وذلك لأن طبيعة النفس الإنسانية تميل إلى تصديق ما تسمع، وتعتبره كاشفًا عن الواقع.. والحال أن المدح والذم يصف عادة صورة الواقع في أذهاننا، وليس الواقع في نفسه!.. وقلما تكون هذه الصورة الذهنية مطابقة للواقع إلا في موارد نادرة ممن أراهم الله -تعالى- الأشياء كما هي، وهم المؤمنون الذين أشرقت أنوار المولى في نفوسهم.. وقد ورد في الخبر: (اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله عز وجل)!..
ينبغي للعاقل أن لا يرتب أثرا على مدح وذم فئات من الناس.. فمثلا: لا ينبغى الاعتناء بذم الشخص المبغض والحاسد، ولا بمدح الشخص المحب، ولا بقول الإنسان المتذبذب المتلون، الذي يمدحك في يوم ويذمك في يوم آخر، ولا برأي الذي ليس له علم ودراية بالممدوح أو المذموم عن تجربة ومعاشرة، ولا بقول السفيه أو الأحمق الذي ليس له قدرة تحليلية للتمييز بين الأشخاص.. وأخيرًا: لا ينبغي الأخذ برأي الشخص المتعصب ذي النظرة المسبقة تجاه فئة من الناس، فهو يرفض سلفًا كل من انتسب إلى هذه الفئة من دون استثناء!..
من أهم قواعد المدح والذم: هو عدم اللجوء إليهما من دون مناسبة، فإن أقوال المرء من جمله أفعاله التي يحاسب عليها، فإذا رأى خيرا في الكلام تكلم، وإلا فالسكوت خير له!.. إذ من الواضح أن السكوت هو الأصل وهى الحالة الطبيعية للإنسان، في حين نرى أن البعض يختلق الأعذار للتكلم مع الآخرين، وإعادة سرد الأمور المعلومة ابتي لا تفيد في الدنيا ولا في الآخرة!.. وقد أكدت الأحاديث على التزام الصمت، وجعلته من علامات الحكمة: (إذا رأيتم المؤمن صموتًا فادنوا منه!.. فإنه يلقى الحكمة).. وقد كان هذا الصمت دومًا هي الصفة الغالبة على الأنبياء والأوصياء والصالحين.
ومن القواعد المهمة في هذا المجال: عدم المبالغة في المدح والذم.. وترك استخدام عبارات أفعل التفضيل والمبالغة، مثل: ما أحسن خلق فلان، أو ما رأيت مثله!.. بل يكتفي بالتقييم الموضوعي المناسب للمقام.. وقد رأينا بعض المتشرعين يتوقفون عن استخدام مثل هذه التعابير، لاحتمال وجود شبهة الكذب فيها.
ومن القواعد الأخرى: هو الابتعاد عن التزكية المطلقة للأفراد.. أي عدم إعطاء ضمانة أبدية وثقة مطلقة للشخص الذي نود تزكيته، لزواجٍ أو عملٍ مثلاً.. بل يمكن الاكتفاء بالقول أنه (ثقة إلى الآن) أو (بحسب الظاهر) أو (هكذا أعرف عنه).. إذ كيف يستطيع أحدنا -وهو لا يملك ضمانة لنفسه ولعاقبتها- أن يضمن عاقبة غيره؟!..
ومن القواعد الأخرى: هي الموازنة بين مدح الشخص، وتحذيره من سلبيات ما تمتدحه فيه، فأنت حين تثني على شخص لبشاشته ومرحه مثلاً، ينبغي أن تحذره في الوقت نفسه من التمادي في المزاح، أو اللجوء إلى الكذب لإضحاك الآخرين، وهو من الأمور المحرمة، وبذلك يحول الثناء إلى عملية هادفة تمنعه من التمادي فى باطله، كما تستطيع أن تقدم له برنامجًا للعمل بما مدحته فيه.. وحينما تمدح كرم شخص مثلا، فإنه يمكنك توجيهه إلى موارد الإنفاق التى ترضى المولى عز وجل، وتذكيره بمستحباته المسنونة، من: تصغيره وتعجيله وكتمانه.
ومن القواعد الأخرى في هذا المجال: هو العدول عن المدح و الذم، إذا تغيرت صفات الشخص المتعلقة به، أو إذا انكشف لك خلاف ما قلته فيه، إذ لا مجال هنا للإصرار على رأي سابق، تعلم أنه لم يعد مطابقًا للواقع!.. وقد يجب في بعض الحالات تحذير الشخص الذي قمت بتزكيته -لشراكةٍ أو زواج- إذا اتضح لك أنه لم يكن أهلاً للتزكية، أو إعادة كرامة من أسقطت كرامته بعدما تبين لك الخطأ في ذلك.
إن من المهم أيضًا أن نلاحظ عدم إيذاء الآخرين عند مدحنا لشخص ما، وذلك مراعاة للعدالة فى هذا المجال، فان تجاهل من هو برتبة الممدوح قد يثير حزنه أو غيرته أو حسده!.. ومن هنا أيضًا يجب علينا مراعاة العدل، وعدم التمييز بين الأقران؛ تأسيًا بالرسول (ص) الذي دعا إلى المساواة حتى في تقبيل الأبناء!..
وآخر قاعدة في هذا المجال: هو عدم مدح النفس التي هي في معرض الزلل دائما.. فإن الآية القرآنية صريحة في النهي عن ذلك: (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى).. فإن تزكية النفس من علامات وهن العقل، إلا في حالات تبرئة النفس، أو دفع التهمة، أو تثبيت الموقع المهني والاجتماعي، أو مصلحة راجحة أخرى.. والشاهد على ذلك أن النبي (ص) غضب عندما رأى أحدهم يقرأ في التوراة قائلا: (لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي).
إن من طبيعة الإنسان أنه يحب أن يمتدح، ويكره أن يذم.. ومن الملفت حقا أنه كثيرا ما يصدق ما يقال فيه من المدح، حتى لو علم أنه مديح لا أصل له!.. وقد دعت الأحاديث إلى عدم الفرح والحزن بهذا المدح والذم، حتى لو أجمع عليه الناس، بل التفكير فيه وعرضه على كتاب الله تعالى، لمعرفة ما إذا كان ما يقال فينا من مدح هل هى فضيلة صادقة، لنبشر أنفسنا بها!.. أو ما يقال من ذم هل هي رذيلة متحققةً، لنصلح أنفسنا بعد ذلك!.. ولنعلم أخيرا أنه يستحب أن تقول إذا مدحك مادح: (اللهم اجعلني خيرًا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون).
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.