- ThePlus Audio
ما هو البداء الذي انفردت به الشيعة؟
بسم الله الرحمن الرحيم
البداء في اللغة والاصطلاح
البداء لغة: الظهور بعد الخفاء. فيقال: زيد بدا له شجاعة علي؛ أي ظهر له ما كان خافيا عليه من شجاعته. وفي الاصطلاح: بمعنى المحو والتغيير في التقدير والقضاء الإلهي وهو قوله تعالى: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)[١]. وليس ذلك لجهل والعياذ بالله وهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؛ وإنما يكون ذلك وفقاً لتغير الظروف وتبعاً للمصالح. وقد ورد في الروايات: (أَنَّ اَللَّهَ لاَ يَبْدُو لَهُ مَنْ جَهِلَ)[٢].
وجه الشبه بين البداء والنسخ
والبداء في عالم التكوين يقابله النسخ في عالم التشريع. فهناك في القرآن الكريم آيات ناسخة وآيات منسوخة؛ كالآية التي تنص على تحويل القبلة من جهة بيت المقدس نحو الكعبة المشرفة. ولا ريب في أنه تعالى كان على علم بهذا التغيير ولكن الوقت لم يكن قد حان بعد. وكذلك الأمر في عالم التكوين؛ فالله تعالى يعلم بأن هذا العبد سيقوم بعمل ما – خيراً كان أو شرا – يوجب له تغيير المقدرات، كقوم يونس (ع) الذين رفع الله عنهم العذاب بعد أن كان محتما نزوله؛ لأنه فزعوا إليه سبحانه وتعالى. ومن هنا تتجلى قدرة الله تعالى في عدم الخضوع إلى السنن والمقدرات المكتوبة، وهو كما وصف نفسه جل وعلا: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)[٣]، وهو القائل سبحانه: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا)[٤].
البداء وحالاته
وللبداء حالتان: فتارة يكون في عالم الأسباب (قبل الحدوث)، وتارة في عالم المسببات (بعد تهيئة المقدمات)؛ أما إذا قضي الأمر فلا بداء فيه. كمثل إنسان يقدم إلى مرمى السهام؛ فإما أن يتدخل الله عز وجل في عالم الأسباب ويمنعه من التقدم خطوة إلى الأمام؛ كأن يوقعه في حفرة أو يرسل عليه ريح عاصفة، أو أنه بعدما تتم المقدمات، ويصبح في المرمى؛ يتدخل في عالم المسببات، بأن تكسر السهام أو تنحرف عنه مثلا
ما عظم الله بشيء مثل البداء..!
إن الاعتقاد بحتمية القضاء والقدر يوجب حالة اليأس عند الإنسان، وقد يوهم نفسه بأن قدره هو الشقاء الأبدي، ولا فائدة من التوبة والتورع عن المحرمات. وهذا بالتأكيد مما يؤدي إلى ترك التعبد والدعاء، والتمادي في المعاصي والمحرمات. في حين أن الذي يعتقد بتصرف الله تعالى المطلق في الأشياء، فإنه لا يفقد الأمل برحمة الله الواسعة وكرمه، فيسير متوكلاً عليه تعالى في كل حركاته وسكناته، سائلاً إياه التوفيق لما يوجب له الخير، كما لا يقوم بأمور توقعه في التهلكة، ومن هنا ذكرت الروايات الشريفة: (مَا عُظِّمَ اَللَّهُ بِمِثْلِ اَلْبَدَاءِ)[٥].
السعادة في نظر أهل الدنيا
ليس أحد إلا وهو يبحث عن السعادة في حياته، ولا يوجد إنسان لا يحب أن يكون سعيدا؛ بل يمكن القول أن الكثير من المعاصي والمنكرات منشأها حب السعادة. فالذي يدمن المسكرات ويتعاطى المخدرات ويقيم الليالي الحمراء وما إلى ذلك إنما هو يبحث عن السعادة فيها واللذة في ممارستها؛ بل حتى الحيوانات تنشد اللذة بطعامها وشرابها.
ويظن البعض أن السعادة هي الوصول إلى ما يشتهي الإنسان من الحلال والحرام على حد سواء. وإذا حالت الموانع بينه وبين ما يشتهي؛ يعيش في حالة من العذاب ولا يهنأ بالعيش وقد يصل الأمر به إلى الانتحار. ولا ريب في أن الإنسان هو مجموعة من الآمال والطموح، وأن السعيد هو الذي يستطيع أن يحقق أقصى قدر ممكن من هذه الآمال والطموح. ولذلك يكون في معرض الانتكاس دائما؛ إذ لا تأتي الأمور وفق المراد دائما وكما يقول الشاعر:
ما كُلُّ ما يَتَمَنّى المَرءُ يُدرِكُهُ
تَجري الرِياحُ بِما لا تَشتَهي السُفُنُ[٦]
السعادة الحقيقة
إن المفهوم الإسلامي الصحيح للسعادة هو الوصول إلى رضوان الله تعالى، بتحقيق هدف الخلقة والوجود، وهو العبودية الحقة لله تعالى، حيث يقول سبحانه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[٧]. وليست هي في الأمنيات الكثيرة التي تفضي إلى الحسرة عدم تحققها. أضف إلى أن وحدوية المأمول توجب الطمأنينة وراحة البال؛ خاصة إذا كان هنالك تجاوبا مطرداً معه، لا كما في الأماني الدنيوية التي سرعان ما يشتد نفوره منها حينما يحصل عليها. وقد أكد تعالى هذه الحقيقة إذ يقول في حديث قدسي: (مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْراً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعاً وَمَنْ أَتَانِي مَشْياً أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً)[٨] وهو القائل: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ)[٩]، وهو الذي يقول: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ)[١٠]، وقال عز من قائل: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)[١١]فهلا شمرنا السواعد وشددنا الهمة لنيل هذه السعادة الأبدية الحقة؟
إن القلب هو موطن السعادة. ولا تتحقق هذه السعادة القلبية من خلال إشباع الشهوات وتلبية الرغبات المادية؛ وإنما باستشعار حالة الاطمئنان كما قال سبحانه: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[١٢]. وبتدبر بسيط لهذه الآية نلاحظ أن: (ألا): أداة تنبيه، وهي إشارة إلى أمر مهم. (بذكر الله): فتقديم ما حقه التأخير ويفيد الحصر في اللغة العربية. (القلوب): الجمع المحلى بأل يفيد العموم. وفي هذا دلالة أكيدة على أنه لا يوجد قلب في الوجود يطمئن إلا بذكر الله تعالى، وأما ما عداه فإنه وهم في وهم.
من موجبات السعادة:
الانسجام مع أحكام الشريعة: فبمقدار انطباق سلوك الإنسان وعمله مع ما جاءت به الشريعة من الأوامر والنواهي؛ فإنه تتحقق له حالة البرد والاطمئنان. وهي الحالة التي نعيشها بعد كل مجلس دعائي أو مجلس بكاء على مصائب أهل البيت (ع)؛ حيث نعيش لذة وارتياحا نفسيا لا يقاس بأي متعة من المتع المادية. وقد ورد عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (اَلسَّعِيدُ مَنْ خَافَ اَلْعِقَابَ فَآمَنَ وَرَجَا اَلثَّوَابَ فَأَحْسَنَ)[١٣]
الخلوة مع الذات: أن يكون أنس الإنسان بنفسه؛ فلا يستوحش إذا خلا لوحده ولا يعيش حالة الضيق والأذى، فعن الصادق (ع) أنه قال: (اَلسَّعِيدُ مَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ خَلْوَةً يُشْغَلُ بِهَا)[١٤].
العلم، والتدبر، والتفكر: إذ لا يستطيع الجاهل أن يكون سعيدا؛ فهو يعيش حالة الفراغ والخواء الروحي. بينما العالم تراه يأنس بما في بطون الكتب، فيأخذ كتاباً في التفسير أو الحديث، ويعيش مع العلماء. أو يقرأ القرآن الكريم؛ فيعيش لذة الخطاب والحديث مع رب العالمين.
علو الهمة: فعن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (هَيْهَاتَ مِنْ نَيْلِ اَلسَّعَادَةِ اَلسُّكُونُ إِلَى اَلْهُوَيْنَا وَ اَلْبَطَالَةِ)[١٥]. فالإنسان الغافل، والمتقاعس، والبطال الذي لا يحب التكامل؛ حاله كما يقول الشاعر
ومن لا يحب صعود الجبال
يعش أبد الدهر بين الحفر[١٦]
تصفية الملكات الباطنية: إن من موجبات الشقاء وجود الملكات الخبيثة في النفس؛ فالحسود – على سبيل المثال – يعيش الاضطراب والتوتر والحقد، ولا يدع له الحسد مجالا لطلب العلم ولا للعمل الصالح. فخلو الصدر من الأمراض الباطنية من موجبات تحقيق السعادة.
الارتباط بالمطلق: يبحث الإنسان دائما عمن يرتبط به، وأفضل أنواع الارتباط هو الارتباط بالحي الذي لا يموت. فقد قيل للصادق (ع): (إِنَّ مِنْ سَعَادَةِ اَلْمَرْءِ خِفَّةَ عَارِضَيْهِ فَقَالَ وَمَا فِي هَذَا مِنَ اَلسَّعَادَةِ إِنَّمَا اَلسَّعَادَةُ خِفَّةُ مَاضِغَيْهِ بِالتَّسْبِيحِ)[١٧]. وهناك من لا يكل لسانه ولا يمل من ذكر الله عز وجل؛ كبعض مراجع التقليد – حفظهم الله تعالى – مع ما لديه من المزاحمات؛ إلا أنه يقرأ في كل يوم ألف مرة سورة القدر أو ألف مرة سورة الإخلاص. إن خفة الماضغين بالتسبيح من علامات التوفيق وقد ورد في وصف كثرة الذكر عند الأئمة (ع) من الروايات ما لا يسعه المقال.
الاستقرار الاجتماعي: إن الابتلاءات العائلية والاجتماعية من موجبات القلق وتكدير صفو العيش، فقد قال رسول الله (ص): (أَرْبَعٌ مِنْ سَعَادَةِ اَلْمَرْءِ اَلْخُلَطَاءُ اَلصَّالِحُونَ وَاَلْوَلَدُ اَلْبَارُّ وَاَلْمَرْأَةُ اَلْمُؤَاتِيَةُ وَأَنْ تَكُونَ مَعِيشَتُهُ فِي بَلَدِهِ)[١٨].
السيطرة على الشهوات: إن أصحاب المتع الدنيوية دائماً يلهثون وراء الملذات وينغمسون في المتع واحدة تلو أخرى، ولهذا فهم لا يعيشون حالة الاستقرار وإن بدا في ظاهر حالهم أنهم سعداء؛ فقد ورد عن أمير المؤمنين (ع): (أَسْعَدُ اَلنَّاسِ مَنْ تَرَكَ لَذَّةً فَانِيَةً لِلَذَّةٍ بَاقِيَةٍ)[١٩].
الارتباط العقائدي الوثيق والانتماء إلى أهل البيت (ع) والتوسل بهم: فقد روي عن علي (ع) أنه قال: (أَسْعَدُ اَلنَّاسِ مَنْ عَرَفَ فَضْلَنَا وَتَقَرَّبَ إِلَى اَللَّهِ بِنَا وَأَخْلَصَ حُبَّنَا وَعَمِلَ بِمَا إِلَيْهِ نَدَبْنَا وَاِنْتَهَى عَمَّا عَنْهُ نَهَيْنَا فَذَاكَ مِنَّا وَهُوَ فِي دَارِ اَلْمُقَامَةِ مَعَنَا)[٢٠].
التوفيق الإلهي: قال الصادق (ع): (مَا كُلُّ مَنْ نَوَى شَيْئاً قَدَرَ عَلَيْهِ وَلاَ كُلُّ مَنْ قدَرَ عَلَى شَيْءٍ وُفِّقَ لَهُ وَلاَ كُلُّ مَنْ وُفِّقَ أَصَابَ لَهُ مَوْضِعاً فَإِذَا اِجْتَمَعَتِ اَلنِّيَّةُ وَاَلْقُدْرَةُ وَاَلتَّوْفِيقُ وَاَلْإِصَابَةُ فَهُنَالِكَ تَمَّتِ اَلسَّعَادَةُ)[٢١].
التمادي في الذنوب والمعاصي
إن التمادي في ارتكاب الذنوب سبب – والعياذ بالله – في ختم القلب؛ حيث يطبع على قلب الإنسان فلا يرى المنكر منكراً، ولا يستهويه المعروف، فيكون حاله كما وصف سبحانه في محكم كتاله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ)[٢٢]. وهذه – بلا شك – مرحلة خطيرة من انطفاء النور الإلهي في نفس الإنسان، وهي حالة تورث العاقبة السيئة.
وهناك نماذج كثيرة في التاريخ ومن كبار أصحاب النبي والأئمة (ع) وصل بهم الحال إلى ارتكاب الجرائم الكبرى وهم يحسبون أنهم على حق. والله سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل، ويومئذ يندم المسرفون حين لا ينفع الندم في يوم يصفه سبحانه بقوله: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)[٢٣]، وقال عز من قائل في وصف هؤلاء: (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى)[٢٤].
[٢] تفسیر العیاشی ج٢ ص٢١٨.
[٣] سورة الرحمن: ٣٩.
[٤] سورة فاطر: ٤٤.
[٥] الکافي ج١ ص١٤٦.
[٦] أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبدالصمد الجعفي الكوفي الكندي أبو الطيب المتنبي.
[٧] سورة الذاريات: ٥٦.
[٨] مستدرك الوسائل ج٥ ص٢٩٨.
[٩] سورة البقرة: ١٨٦.
[١٠] سورة الزمر: ٣٦.
[١١] سورة النمل: ٦٢.
[١٢] سورة الرعد: ٢٨.
[١٣] غرر الحکم ج١ ص٩٩.
[١٤] بحار الأنوار ج٧٥ ص٢٠٢.
[١٥] عیون الحکم ج١ ص٥١٢.
[١٦] أبو القاسم الشابي.
[١٧] علل الشرائع ج٢ ص٥٨٠.
[١٨] بحار الأنوار ج١٠٠ ص٢٣٦.
[١٩] عیون الحکم ج١ ص١٢٢.
[٢٠] غرر الحکم ج١ ص٢١٢.
[٢١] الإرشاد ج٢ ص٢٠٤.
[٢٢] سورة البقرة: ٢٠٦.
[٢٣] سورة الكهف: ٤٩.
[٢٤] سورة طه: ١٢٦.
خلاصة المحاضرة
- إن التمادي في ارتكاب الذنوب سبب في ختم القلب؛ حيث يطبع الله على قلب الإنسان فلا يرى المنكر منكراً، ولا يستهويه المعروف، فيكون حاله كما وصف سبحانه في محكم كتاله: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ.
- من موجبات السعادة: الانسجام مع أحكام الشريعة والخلوة مع الذات وانشغال النفس بالأمور المهمة من قبيل التعلم والتدبر وعلوم الهمة في الحصول المكاسب العالية، وكبح جماح الشهوات وبناء علاقة قوية بالله سبحانه وبأهل البيت (ع).