إن لقبول الأعمال .. ولقبول صيام شهر رمضان .. مقياسا طبيعيا ، وهو مقياسٌ خاصٌ جدا ، بمعنى أن الإنسان لا يمكن أن يكتشف ذلك إلا من قِبَلِ نفسه . البعض يبدي أشواقه لشهر رمضان ، ولكن المعيار هو باطن الإنسان ..
فالبعض يستعجل هلال العيد ، ويترقب ظهوره ، ليرى تلك الثمار اليانعة ، التي قد حان قطافها ليحصدها .. وينظر إلى ليلة العيد هذه الليلة عظيمة القدر .. كثيرة البركات .. والتي لا تقل عن ليلة القدر .. ويرى أن يوم العيد يوم العتق من النار .. ويوم التوجه لله عزوجل .. وراجعوا أدعية ليلة العيد ويوم العيد .. أدعية مركزة لطلب الغفران والجوائز .. فإذا كان السرور من هذا الباب فهو مقبول . أما إذا كان السرور للخروج من تقيدات هذا الشهر .. وشوقا للطعام والفطور … فيُفْهَم أن هناك نوع من الانفصال بين هذا الصائم وبين هذا الشهر الكريم . لذا عشاق هذا الشهر لا يحبون أن يسمعوا دخول هلال العيد لما ينتابهم من الضيق والكآبة .
فكلٌ يُراجعُ نفسه فلو كان فَرِحَا بانقضاء الشهر ولو لا شعوريا ، أو متأذيا ، فيعلم نوع الارتباط بهذا الشهر المبارك .
اللحظات الأخيرة من شهر رمضان :
نحن رفعنا في أول شهر رمضان ، شعار : (( خير رمضان مر علينا ، منذ أن صمنا )) فالذي يجد أنه ما وفى بهذا الشعار ، وأن ظروفه لم تساعده صحيا .. اجتماعيا .. وظيفيا .. وأنه لم يختلف عن الرمضان الماضي : ( فمن تساوى يوماه فهو مغبون ) وقياساً نقول: بأنه مغبون من تساوى شهر رمضانه هذا مع الماضي . لذا علينا أن نستغل الساعة الأخيرة من شهر رمضان ، وهي الساعة الأخيرة ما قبل الغروب من اليوم الأخير من شهر رمضان ، وهي ساعة حساسة ومهمة جدا ، لأن الملائكة ترتفع .. الشياطين تُطلق .. وبعد الغروب النوم لا يصبح عبادة .. الأنفاس ليست بتسبيح .. يعود كل شيء إلى ما كان عليه في شهر شعبان .
شهر شوال
ومن أشح الشهور .. وأنشف الشهور .. وأصعبها على المؤمن شهر شوال ؛ لأنه يأتي بعد أشهر ثلاث من البركات . فمثل أحدنا في شهر شوال كمثل من تزود من غدير ماء عذب ، ليواجه صحراء جرداء ، والمؤمن يستطيع أن يقلب الصحراء إلى واحات جميلة ، وإلى حدائق غناء ، في مثل ليلة الجمعة .. في أسحار كل يوم . وطبيعة شهر شوال طبيعة خالية من مناسبات مهمة ، ولهذا على الإنسان أن يخلق ويصطنع المناسبة ، ولهذا البعض يتعمد الصوم بعد العيد ؛ حتى يعيش هذه الأجواء ، يستمر في ختماته للقرآن ، وفي إحيائه لليل ، وللأسف البعض في الليلة الأولى بعد العيد أو الثانية يتناقص معدل قيامه لليل إلى أقصى حد ممكن ، بسبب الإرهاق والتعب فيستغني عنها ، خاصة وأنه صام شهره ، قام ليله ، في ليالي القدر خشع ، وبكى ، فيظن أنه على شيء ، ناسيا أن لكل يوم رزقه ، فذلك رزق شهر رمضان ، ولكن اليوم ماذا عملت ؟..
فرحة العيد
إن هذا اليوم يوم عيد ، ( فليس العيد لمن لبس الجديد ، وإنما العيد لمن أمن الوعيد ) ( كلُ يوم لا يُعصى الله فيه فهو عيد ) فالذي يعصي الله في يوم العيد بنظرة أو عمل أو كلام فأي عيد هو هذا ؟ وهناك فرحتان بالعيد : هناك فرحةٌ ساذجة ، وفرحةٌ معمقةٌ واعية ، فرحة الأطفال فرحة ساذجة ، فالطفل يتمنى العيد للملابس الجميلة ، و الهدايا المأخوذة من الآباء والأرحام ، ولكن المؤمن يفرح لأمر آخر ، وتتجلى فرحته بالمغفرة ( للصائم فرحتان : فرحةٌ عند افطاره ، وفرحةٌ عند لقاء ربه ) البعض يفسر : ( فرحة عند إفطاره ) هي الفرحة بانتهاء الشهر على خير ، والتمكن من صيامه ، و عدم الابتلاء بمانع ، ففرحة العيد هي فرحةُ الانجاز .. والاتقان .. والمغفرة .. والرضوان ، ففي أول الشهر المغفرة ..وفي آخره الرضوان ﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ أَكْبَرُ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ – التوبة ٧٢ ﴾ .
كيف نثبت المكاسب المجنية من شهر الله الكريم؟ مناجاة الإمام زين العابدين (ع)
أولاً: التخطيط الفكري وبرمجة العمل: في الجيوش النظامية بين الدول ، الدولة المغزية قد تفتح الأبواب ، تستدرج الجيش ، ثم تنقض عليه ، بعد قطع المدد عنه من الخلف – فيما يُعرف بحملة المقص – وينتقمون من هذا الجيش أيما انتقام ، لذا فالقائد المحنك عندما يهجم على معقل ما يحسب حساب الثبات .. البقاء .. المؤن .. الغذاء .. السلاح .. هل هو كافٍ للبقاء في هذا الثغر أم لا ؟.. وإلا ما قيمة فتح تُرفع بعده الأعلام البيضاء سريعا ؟!.. ونحن علينا الانتباه من حملة المقص من قبل الشياطين التي وقفت على أبواب المساجد ، تنتظركم مغرب آخر يوم من شهر رمضان ، بعد فتح أغلالها لإكمال مهمتها في إغواء البشر ، فينتقمون في شهر شوال لما فقدوه في شهر رمضان .
ثانياً: المداومة والاستمرارية: هناك انتكاستان : بعد الحج ، وبعد شهر رمضان ، البعض بعد الحج مباشرة يرتكب الذنوب العظيمة !.. سبحان الله !!.. البعض يخرج من هذه المواسم بالمغفرة ، ولكنه لا يُثَبِّت هذ المكاسب . فلنتصف بالوفاء للمسجد .. للصلاة .. للجماعة.. أما أن ُيدبر ويُعرض ويخفُّ تواجده في هذه المواقف والمجالس ، فهذا ليس منطق من يتعامل مع الله سبحانه وتعالى !!..وهل الله متجلي فقط في شهر رمضان ؟!.. ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ – الحديد ٤ ﴾ علينا أن نكون أوفياء لله ، فهو الذي دعانا لضيافته في هذا الشهر ، وأكرمنا أيما إكرام ، فليس من الانصاف أن نُعرض عنه عزوجل ، علينا أن نكون أوفياء .
﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ – التوبة ١١٨ ﴾ كل توبة قبلها وبعدها توبتان ، توبة من الله على العبد ، وتوبة من العبد إلى الله عزوجل ، فحضورك للمسجد ، صلاتك ألف ركعة ، أليس هذا بحول الله وقوته ؟.. أليس هذا من مدد الله عزوجل ؟ من الذي حبب إليك الإيمان ؟ ﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ – الحجرات ٧ ﴾ فقدرتنا مثلا على إحياء هذه الساعات المتواصلة من توفيقات الله عزوجل ، وإلا أين نحن من هذه التوفيقات ؟ قد تستثقل الصلاة الواجبة ، ولكن أتدري أن عندك طاقة على إحياء ١٤ ساعة متواصلة من العبادة تقريبا ؟!.. ودليل ذلك بقاء الإخوة في المسجد في ليلة القدر ، من قبل أذان المغرب وحتى شروق شمس اليوم التالي ، فهذا يعني أن هناك قابلية وقدرة . فالمطلوب الاستمرارية على ما كنا عليه في شهر رمضان ، فمثلا لو أنك ختمت القرآن مرات عديدة في شهر رمضان ، على الأقل أكمل ختمة أو نصف ختمة في بقية الشهور فهذا من لوازم الوفاء .
ثالثاً: المراقبة الجادة: الإنسان عندما لايتعهد الزرع – مثلا – بالرعاية لابد أن يذبل ، ويذبل إلى أن يُصبِحُ هشيما تذروه الرياح ، لهذا فالإنسان يحتاج إلى مراقبة ومتابعة ، وأفضل مراقبة لهذا الأمر الاستمرارية في الاستغفار ، سُئل أحدُ اللغويين عن معنى حديث منسوب إلى النبي (ص) : (إنه ليغان على قلبي ، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة) فقال : أنا لا أفسر هذا الحديث ، من أنا حتى أفسر كلمة يُغان على قلب النبي (ص) ؟!.. لذا ورد استحبابية الاستغفار بعد صلاة العصر ٧٠ مرة ، لأن العصر قمة النشاط اليومي ، والمعاصي والذنوب تقع طول النهار ، وقراءة سورة القدر ١٠ مرات من باب إعادة التوازن والنشاط والانتعاشة الباطنية ، المهم الاستغفار داب المؤمن ، ليكن لسانك رطبا بالاستغفار ، ليس من الذنوب فحسب ولكن من الهفوات من تضييع الوقت لساعات أمام التلفاز وغيرها .. من النظرات التي لا داعي لها .. فهي لغوٌ .. مما لا يفيد فيما لا يفيد .عبث لهو .. تضييع وقت .. ألا يحتاج ذلك إلى الاستغفار ، وبحرقة ووعي؟ يوم القيامة لو نظرت لهذه الساعة لبكيت عليها . كم ساعة قضيناها مع هذه البرامج اللاهية في شهر رمضان وفي غير شهر رمضان ؟
رابعاً: خوف السلب: مثال : في بعض الموانئ الحديثة عندما يريدون أن يأخذوا ثقلا حديديا من باخرة معينة ، يوجد مغناطيس كهربائي يلتقط الحديد بقوة الكهرباء ، لنقله لمكان آخر ، ويكفي أن تقطع الكهرباء وإذا بالحديد يسقط على الأرض . و الإنسان يعيش نفس الحالة يكون معلقا بين السماء والأرض ، بفعل القوة الإلهية ، فإذا تُرك لحظة واحدة ، وإذا به يقع من أعلى عليين إلى أسفل سافليين ( إن العبد ليُذنب الذنب يهوي بها أبعد من الثريا ) .. وكلٌ منا معرضٌ لهكذا ذنب ، من الذي يدَّعي أن الله عصمه ؟ ﴿ وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ – يوسف ٥٣ ﴾ ويوسف (ع) ﴿ لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ – يوسف ٢٤ ﴾ فلو تَركتنا الرحمة والتوفيقات الإلهية لارتكبنا ماتزكم منه الأنوف ، ﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً – النساء ٨٣ ﴾ ﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً – النور٢١ ﴾ فسلب التوفيق بعد التوفيق في الواقع أمرٌ موجع ، فالذي يُسلب منه التوفيق يفقد الكثير ، فإذا تسافل الإنسان يلعب به الشيطان كما يلعب الأطفال بالكرة .
من مناجاة الإمام السجاد (ع) في وداعه لشهر رمضان
ومن المناسب هنا أن نقف وقفة تأملية، مع فقرات من مناجاة الإمام السجاد (ع) في وداعه لشهر رمضان، وكأنه يودع عزيزاً عليه، آلمه فراقه:
(وقد أقام فينا هذا الشهر مقام حمد، وصحبنا صحبة مبرور، وأربحنا أفضل أرباح العالمين): أعظم به ربحاً!.. تقرأ آية تُكتبُ لك ختمة ، تنام عشر ساعات تحسب كلها عبادة ، تتنفس الهواء فيُكتب لك تسبيح .
( ثم قد فارقنا عند تمام وقته ، وانقطاع مدته ، ووفاء عدده.. فنحن مودعوه وداع من عز فراقُه علينا، وغمنا وأوحشنا انصرافه عنا): رفيق عزيز، عاش معنا ثلاثين يوماً وليلة، وها نحن مودعوه .
(السلام عليك يا شهر الله الأكبر، ويا عيد أوليائه ): إن الإمام (ع) يسلم على الشهر الكريم سلام الوداع ، ويناديه بأنه عيد أولياء الله.. نعم ، فليس يوم العيد بعيد، بل هو فراق العيد!!.. إذ أن كل يوم في شهر رمضان، كان عيداً لأولياء الله ، ويوم العيد يوم حزن بعض المؤمنين .
( السلام عليك من مجاوَر ، رقت فيه القلوب ، وقلت فيه الذنوب..) بركات الشهر رققت القلوب وإلا أين أنا وأنت لرقة القلب ، اسمع كلمة يا الله فتجري دموعي ، هذه من بركات رب العالمين .
( السلام عليك من السلام عليك من أليف آنس مقبلا فسر، وأوحش منقضيا فمض
(السلام عليك من ناصر أعان على الشيطان، وصاحب سهل سبل الإحسان، السلام عليك ما أكثر عتقاء الله فيك ): ومن بركاته أيضاً كثرة العتقاء من النار ، ففي كل يوم أو ليلة يُعتق ألف ألف عتيق من النار !..ولكن في مثل هذه الساعة بقي أربع ساعات على نهاية هذا الشهر الكريم ، في كل ساعة ألف ألف عتيق ، أربع ملايين نسمة تُعتق في عصر هذا اليوم ، أين نحن من هذه الرحمة الواسعة ؟ .. فقط ننشغل بالتسوق ليلة العيد !!..
( السلام عليك ما كان أطولك على المجرمين ، وأهيبك في صدور المؤمنين ): فالمجرم المفطر، الذي لم يكن يرعى حرمة الله في هذا الشهر الكريم ، من الطبيعي أنه كان شهرا ثقيلاً عليه .
(السلام عليك ما كان أحرصنا بالأمس عليك ، وأشد شوقنا غدا إليك): إنا كنا حريصين عليه، أما غدا فنحن نعلم ما فقدنا
(اللهم!.. وما ألممنا به في شهرنا هذا من لمم أو إثم ، أو واقعنا فيه من ذنب ، واكتسبنا فيه من خطيئة على تعمدٍ منا ، أو على نسيان ظلمنا فيه أنفسنا ، أو انتهكنا به حرمة من غيرنا .. فصل على محمد وآله!.. واسترنا بسترك ، واعف عنا بعفوك ، ولا تنصبنا فيه لأعين الشامتين ، ولا تبسط علينا فيه ألسن الطاعنين!.. واستعملنا بما يكون حطة وكفارة لما أنكرت منا فيه ، برأفتك التي لا تنفد ، وفضلك الذي لا ينقص.. اللهم صل على محمد وآله!.. واجبر مصيبتنا بشهرنا ، وبارك لنا في يوم عيدنا وفطرنا ، واجعله من خير يوم مر علينا ؛ أجلبه لعفو ، وأمحاه لذنب.. واغفر لنا ما خفي من ذنوبنا ، وما علن ).
الخلاصة:
١- إن لقبول الأعمال .. ولقبول صيام شهر رمضان .. مقياسا طبيعيا ، وهو مقياسٌ خاصٌ جدا ، و هو باطن الإنسان .. فكلٌ يُراجعُ نفسه فلو كان فَرِحَا بانقضاء الشهر ولو لا شعوريا ، أو متأذيا ، فيعلم نوع الارتباط بهذا الشهر المبارك .
٢- علينا أن نستغل الساعة الأخيرة ما قبل الغروب من اليوم الأخير من شهر رمضان ، وهي ساعة حساسة ومهمة جدا ، لأن الملائكة ترتفع .. الشياطين تُطلق .. و يعود كل شيء إلى ما كان عليه في شهر شعبان .
٣- من أشح الشهور …. وأصعبها على المؤمن شهر شوال ؛ لأنه يأتي بعد أشهر ثلاث من البركات . وطبيعة شهر شوال طبيعة خالية من مناسبات مهمة ، ولهذا على الإنسان أن يخلق ويصطنع المناسبة ، ولا يقصر متكلا على ما قام به في شهر مضان ، ناسيا أن لكل يوم رزقه ، فذلك رزق شهر رمضان ، ولكن اليوم ماذا عملت ؟..
٤- فرحة العيد: ( فليس العيد لمن لبس الجديد ، وإنما العيد لمن أمن الوعيد )( كلُ يوم لا يُعصى الله فيه فهو عيد )
٥- كيف نثبت المكاسب المجنية من شهر الله الكريم؟ أولاً: التخطيط الفكري وبرمجة العمل .. ثانياً: المداومة والاستمرارية.. ثالثاً: المراقبة الجادة.. رابعاً: خوف السلب.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.