- ThePlus Audio
مالك يوم الدين وضرورة محاسبة النفس والاستعداد
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة سبع المثاني
من الأمور التي شددنا على أهميتها في أبحاث الصلاة الخاشعة؛ هي سورة الفاتحة التي تُعرف بالسبع المثاني، وقد ذكروا علة هذه التسمية بأنها سبع آيات تُثنى في كل صلاة. وهناك وجه آخر وهو أن القرآن كله مثاني لقوله تعالى: (ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِيثِ كِتَٰبٗا مُّتَشَٰبِهٗا مَّثَانِيَ)[١]، فلو قلنا أن الفاتحة سميت بالمثاني لأنها تُكرر في الصلاة مرتين؛ ماذا نفعل بهذه الآية التي تذكر أن القرآن كله مثاني؟ وقد قيل في معنى المثاني: أن الآية معطوفة على الأخرى وهي مبينة لها، والقرآن يؤيد بعضه بعضاً، وهذا هو المستفاد من كلمة المثاني. وهذا الوجه لعله أقرب أقرب الوجوه.
لقد اختار لك سبحانه سورة الحمد لتفتتح بها صلاتك
لقد اختار رب العالمين هذه السورة لتكون هي الواجبة من بين سور القرآن في صلواتنا، فلا صلاة إلا بفاتحة الكتاب. ولابد أن نعلم أن الذي ركب أجزاء العبادات حجاً وصلاة وصوماً وغير ذلك؛ هو الذي ركب أجزاء الوجود. إن هذه الكتلة الأرضية الثقيلة التي تزن ملايين الأطنان؛ هو الذي جعلها تتحرك بشكل دائب ورتيب حول الشمس، وهو الذي وضع النجوم في مواقعها وهو الذي جعل الأفلاك في مساراتها، وهو الذي رتب لنا هذه الصلاة، ورتب لنا فيها الأذان والإقامة. ثم إن لكل حركة في الصلاة معنى. إن مهندس الكون هو مهندس العبادات، واليد الفاعلة في عالم التكوين هي اليد الفاعلة في عالم التشريع. فلابد أن نعلم قدر هذه العبادات ونعلم عظيمة منة رب العالمين علينا أن جعلنا أهلا للحديث معه.
ما المانع من أن يطلب رب العالمين منا إجمالا أن نعبده من دون أن ينزل قرآنا أو يشرع صلاة أو صياماً أو حجاً؟ ثم كيف سيكون هذا الإسلام من تشريع؟ تصور إسلاما لا صلاة ولا حج ولا أي تشريع آخر فيه؟ فمن يصلي متثاقلاً أو من يصوم متثاقلا؛ لا يعرف روح الشريعة.
سورة هي عدل القرآن الكريم
ثم إن سورة الحمد عدل القرآن الكريم، وقد جعل رب العالمين هذه السورة بمثابة الصلاة؛ فلا تتم الصلاة إلا بها. والآيات في هذه السورة واضحة من الناحية اللغوية بخلاف السور التي تحتوي على بعض الكلمات المبهمة كسورة الفلق. وهي مع وضوحها تحتوي من المعاني العظيمة التي لا يحيط أمثالي بها علماً؛ إلا أن ذلك لا يمنعنا من أن نحوم حواماناً حول معاني هذه السورة العظيمة لنخرج من الجهل المطلق ونحصل على العلم الجزئي بها والذي هو خير من الجهل الكامل. ومن لم يفقه سورة الحمد؛ لم يفقه مفتاح الصلاة. إنك بعد التكبير تقرأ الحمد، وبعد الحمد تركع وأنت بين البداية وبين الركوع لابد أن تكون متفقهاً في هذه السورة.
ما هو معنى مالك يوم الدين؟
يقول سبحانه في هذه السورة: (مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ)[٢]. إن من الصفات الإلهية ما تتجلى تتجلى في الدنيا كما تتجلى في الآخرة منها صفتي الرحمن والرحي. فلولا الرحمة لما خلق الله الخلق، ولولا الرحمة لما أنزل الكتب وأرسل الرسل. إلا أن هناك من الصفات ما تتجلى في الآخرة ومنها: مالك يوم الدين. لماذا ذكر رب العالمين بعد صفة الرحمة صفة مالك يوم الدين؟ لأن بدء الخليقة من الرحمة ومنتهى الخليقة الرحمة التي يجليها مالك يوم الدين، وهذه الدنيا هي مزرعة الآخرة والتي سنعمل فيها إلى أن نواجه ذلك اليوم. ولماذا قال سبحانه مالك ولم يقل ملك؟ نعم، هناك قرائة أخرى لهذه الكلمة، ولكننا نتحدث عن القراءة التي نقرأ فيها هذه الكلمة مالك. يقول البعض: أن مالك أبلغ من ملك؛ فقد يكون ملك في بلد لا يملك منها شبراً؛ ولكن المالك له ملك وله حكومة على ما يملك. إن بيتك تتصرف به كيف ما تشاء؛ فأنت ملك البيت ومالكه.
إن رب العالمين يتصرف في يوم الجزاء كيف ما يشاء. ونحن في كل فريضة أو نافلة نذكر أنفسنا بهذه الحقيقة، وهي: أننا سنواجه يوماً ما ملك يوم الدين ويوم الجزاء. فإن استوعبنا هذه الحقيقة؛ سننضبط في الحساب. تدخل السوق فشتري ما تشاء لأنك مالك المال وملك المال ولكن لا تنسى أنك ستُسأل عن هذه الفواتير التي تأخذها من صاحب المحل وترميها في سلة المهملات. لما اشتريت وهل هذا إسراف وتبذير؟ بأي حق تتصرف في مال الله الذي جعلك خليفة عليه؟ إن البعض منا يشتري ما يُرضي به زوجته، والحال أن الله أحق أن يرضيه ويخشاه. لماذا صرفت مالاً وأنت غير مقتنع بالصرف تزلفاً إلى زوجتك أو إلى خطيبتك؟ ومن يعتقد بحقيقة مالكية الله يوم القيامة؛ ينتبه إلى كل كلمة يقولها وإلى كل فعل يصدر منه.
محاسبة النفس على كل حركة وسكنة
لقد رأيت بعض الصالحين من العلماء عندما كان يريد أن يكلمني؛ يلوك كلامه وهذه تأتة مرضيةح فهو يختار كل جملة بعناية لاعتقاده بقوله عز وجل: (مَّا يَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَيۡهِ رَقِيبٌ عَتِيدٞ)[٣]. فمن يرى أنه سيحاكم على الفواتير وعلى الكلام وعلى النظرات ويعتقد أنه سبحانه: (يَعۡلَمُ خَآئِنَةَ ٱلۡأَعۡيُنِ وَمَا تُخۡفِي ٱلصُّدُورُ)[٤]، ومن يرى أنه إذا حسد أخاه أو حقد عليه أو تكلم عليه؛ سينضبط في سلوكه وفي جميع أحواله. إن لرب العالمين حساب دقيق، ولهذا عندما تسمع أن المواقف يوم القيامة قد تستغرق آلاف السنين فهي من أجل هذه المعاني.
ما المانع من أن يقول لك رب العالمين: سنحاكمك على هذه الكلمة اليوم، وبعد سنة على الكلمة الثانية، وبعد سنة على فاتورة الشراء الفلانية، وهلم جرا؟ إن محاكمنا في الدنيا قد تطول سنوات، وكذلك قد يفعل بك رب العالمين ليذيقك بعض العذاب في عرصات القيامة.
هذا الإنسان لا يحتاج إلى رقيب خارجي
ولكن الذي يعتقد بحقيقة يوم الجزاء؛ لا يحتاج إلى رقيب خارجي، ويكون في المحاسبة والمراقبة دائما وهو يُعد العدة ليوم الجزاء، ويُحاسب نفسه حتى على مضمرات القلوب وهذر القول. تارة يتحدث الإنسان إلى أحدهم من دون أن يصرف مالا، فهو وإن كان يهذر ولكنه لا يُحاسب كمن يحاسب الذي يُنق أمولا على شراء الرصيد فيتحدث به باطلا ويهذر هذرا. إن هذه الأجهزة في جيوبنا تكون وبالاً علينا يوم القيامة. حاسب نفسك لترى كم تكلمت كلاماً باطلا ودفعت عليه مالا؟ أليس في هذا حساب؟ تمزح بلا وجه وتتكلم بلا وجه ثم في آخر الشهر تدفع فاتورة طويلة عريضة على المكالمات الهاتفية التي ينبغي أن تُعد لها جوابا يوم القيامة.
ذكر القيامة وأثره على حياة المؤمن
إن مما يُحساب به البشر الذين يعيشون في أيامنا هذه هي هذه الأموال التي تهدر هدراً على المكالمات الهاتفية. ولهذا عندما أسمع من يسترسل في الكلام لعلى هذه الأجهزة، أقول له: يا فلان، انتبه..! إنك تدفع مالاً على كلامك هذا، وعليه حساب وكتاب. وليت هذه الأجهزة التي يتمتع بها الإنسان أيام قلائل ثم في الآخرة تكون وبال عليه؛ لم تُخترع ولم يهتدي البشر إليها. إن ذكر القيامة هو بمثابة المغناطيس الذي ينظم برادات الحديد على الورق؛ فهو ينظم لك الباطن ويجمع لك ما تشتت من أمورك.