إن الخوف الغامض المسيطر قد يكون حالة مرضية، فالخوف الزائد يصنف ضمن الأمراض النفسية.. وهنالك بعض من الناس يغلب عليهم الأمل والرجاء، أي أنه يملك ثقة غير منطقية بالشفاعة، كما يقول الشاعر:
سودت صحيفة أعمالي *** ووكلت الأمر إلى حيدر
نعم، الإنسان قد يسود صحيفته، ولكن ليس عمدا، ثم يتوب إلى الله -عز وجل- ويطلب من الله ومن أوليائه الشفاعة ومحو الماضي.. إن الذين مروا -كما يقال- بفترة الجاهلية، منهم من يبقى أسبوعا، ومنهم من يبقى شهرا، والبعض سنوات ما قبل البلوغ وهو يعيش الجاهلية.. بعض الناس ذهبوا إلى بلاد الغرب، وطول فترة بقائهم هناك عاشوا في الجاهلية؛ ولكنهم الآن تابوا وندموا وأصبحوا من كبار المؤمنين ويشار إليهم بالبنان.. ولكن الشيطان يستثمر هذا الماضي، وكلما أراد الإنسان أن يتقدم يقول له: أنت الذي عملت كذا وكذا!.. أين أنت وأين هذه المقامات؟.. فلا تفكر أن تصل لهذه المراحل!.. وبالتالي، فإنه في أحسن التقادير، يبقى الإنسان كما هو ولا ينمو.
إن البعض يريد أن يذهب إلى بلاد الغرب، بعضهم على أحسن التقادير يوضع على مفترق طريقين ثم يرجع إلى وطنه كما كان.. والخوف العظيم أن يرجع كما كان، لأن البعض يتذكر هذا الماضي الأسود؛ وهذا معناه أنه ليس مهيئا لأن يصل إلى درجة كمالية.. والحال بأن الله -عز وجل- حسن التجاوز، وكريم الصفح: حسن التجاوز يختلف عن التجاوز، وكريم الصفح يختلف عن الصفح.. هذه الأيام إذا إنسان اتهم بجريمة معينة؛ فإن اسمه يكتب بالكمبيوتر: هذا عنده الجريمة الفلانية.. ثم عندما يعفى عنه، يكتب في مقابله: أنه لا يؤخذ بهذه الجريمة، وبالتالي يتحرك بحرية.. ولكن ما هو الصفح الجميل؟.. الصفح الجميل هو أن هذه المعلومة تحذف من الكمبيوتر أساسا، وكأنه لم يفعل شيئا!.. وهذا الذي نفهمه من روايات أهل البيت (ع): (التائب من الذنب، كمن لا ذنب له).. في بعض الأوقات الذنوب الماضية بعد الاستغفار، تتحول إلى سلم من التكامل، وإلى منصة انطلاق إلى عوالم أخرى.. وذلك لأن هذا الإنسان الذي عاد وعنده ذنوب، يصبح عنده حالة الخجل من الله عز وجل، وهذه الحالة لا تقدر بثمن.. فالإنسان الذي يدل على الله بعمله، ويستقوي به، وإن كان ذلك مع نفسه، ويعتقد أنه في حماية دائمة، والجنة مضمونة له؛ فإنه يعيش الارتياح.. هذا جيد، ولكن قد يجره ذلك إلى الأمن من مكر الله.. بعض العصاة الذين تابوا عندما يسمع ذكر الله يبكي، وعندما يسمع ذكر أهل البيت يبكي.. والله -عز وجل- يبحث عن هذا الخجل بحثا (أنين المذنبين أحبُّ إلى الله من تسبيح المسبّحين).
إن القرآن فيه الكثير من {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ}؛ ولكن من الذي يحبه الله؟.. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}.. رب العالمين يبدل هذا الماضي إلى حسنات، في عالم التكوين رب العالمين عمل بقوله: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}، وهذا موجود، والجميع رأى هذه الحركة الإلهية: في مزارع الورد، بعض الروائح تسكر الإنسان: كالياسمين، والنرجس.. ولكن انزل قليلا إلى الساق، ثم إلى الجذور، ثم إلى التربة؛ وإذا برائحة العفن والقذارة والعذرة.. فمن الذي حول عصير القذارات إلى هذه الرائحة الفواحة؟.. بُعد الوردة عن الجذور في بعض الأوقات لا يتجاوز الشبر، هو شبر واحد، وإذا بالعذرة تتحول إلى وردة الياسمين!.. في عالم الطبيعة هذا موجود، أما في عالم الأنفس فإن رب العالمين يقول في كتابه الكريم: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ} رب العالمين؛ صاحب الياسمين، أيضا يحول هذه السيئات إلى حسنات؛ فالأمر يعود إليه.
إن الإنسان يتفاعل مع مصيبة الإمام (ع) وكأنها مصيبة شخصية.. في أيام محرم وعزاء أهل البيت، لو أمكنك أن تحول العزاء إلى عزاء شخصي!.. لو أن الإنسان قد أخبر عن وفاة والده أو أخيه كيف يتفاعل؟.. (أنا وعلي أبوا هذه الأمة)، المؤمن وفي كل سنة في مثل هذه الليلة، هو مفجوع بأبيه.. ومن هنا شعاره في شهر محرم، هذا البيت الذي هو من أروع ما قيل في سيد الشهداء (ع)؛ لأن فيه حبا عميقا جدا:
تبكيك عيني لا لأجل مثوبة *** ولكن عيني لأجلك باكية
تبتل منكم كربلا بدم ولا *** تبتل مني بالدموع الجارية
إن أحد المؤمنين ذهب إلى بلاد الغرب وكان عمره ثلاث عشرة سنة، وبقي حوالي خمس وعشرين سنة هناك.. في هذه الفترة نسي العربية، ونسي الدين، وأصبح غربيا بكل معنى الكلمة.. ولكن في يوم من الأيام كأن هنالك هاتفا باطنيا، وكأنه يقول له: كفى، انتهى ما أنت فيه، ارجع إلى الحظيرة التي كنت فيها، ثم سمع هاتفا آخر، وكأنه يعلمه تفاصيل وأسس الشريعة (الصلاة، والوضوء، و….الخ).. وساق الله -عز وجل- له زوجة في بلاد الغرب، وأصبحت أستاذة له في طريق الخير.. الله -عز وجل- بعث زكريا (ع) لمريم (ع)، ولكن هنا انعكست الآية: بعث مريم لزكريا!..
لماذا خصص بهذه النعمة؟.. ولطف به الله -سبحانه- هذا اللطف العظيم؟..
إن سبب ذلك -كما قال- هو الحب العميق لأهل البيت (ع).. ذلك الحب الذي بقي في قلبه، رغم بعده وغربته، هذا الحب مازال في قلبه ودمه، إلى درجة عندما كان يسمع باسم الإمام (أي إمام) وبتعبيره: (قلبي كان يرف حبا له).. الذي بقي عنده في هذه السنوات، هو هذا الرأسمال.. وهي ليست محبة عادية، بل عميقة!..
فكيف إذا كان هذا الحب معه عمل؟.. وكيف إذا كان معه دعوة لدين الله؟.. وكيف إذا كان عند الإنسان مجلس يقيم فيه ذكرى أهل البيت(ع)؟.. نحن مشكلتنا ليست في المقتضيات، بل في الموانع.. الموانع لدينا قوية جدا، كيف نرفع هذه الموانع؟.. إذا رفعت هذه الموانع انتهى الموضوع!.. مثل شخص سيارته جاهزة للسير، وفيها كل شيء، وبمجرد أن يرفع رجله عن الفرامل ستمشي.. ونحن كذلك لا مشكلة لدينا، كل شيء جاهز للحركة، ولكن الهوى والمعصية؛ منعتنا من السير.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.