– إن على المؤمن في مناسبات أحزان وأفراح الأئمة (ع)، أن يستحضر هذه الحقيقة: وهي أن هنالك جفاء غير متعمد لصاحب العصر والزمان –صلوات الله وسلامه عليه–.. ما الفرق في تعاملنا اليومي بينه وبين أبيه أبي محمد الحسن بن علي العسكري (ع)؟.. هو إمام كأبيه، نعتقد بإمامته، وبعصمته، وبعلمه.. ولكن لا أدري لماذا ينقصنا هذا التفاعل الشعوري، وهو أن نعيش حقيقة قيادته لهذه الأمة، وحياته، ورعايته؟.. ولولا هذه الرعاية -كما نقرأ في التوقيع المعروف- (ولولانا لاصطلمتكم اللأواء، وألمت بكم الأعداء).. والأئمة (ع) يقولون: (لولا الحجة، لساخت الأرض بأهلها).. هذه الحقوق الكثيرة لإمامنا –عليه السلام– ألا تستوجب منا وقفة شكر؟.. كما نشكر بعضنا بعضاً على اليسير وعلى الكثير، فلماذا لا نشكر هذا الوجود المبارك؟.. وما بقاء أتباعه على مر الدهور والعصور بهذا الزخم وهذه القوة، إلا ببركات من يمثله في كل عصر.. ولولا ذلك لكان لنا حالة أخرى، وللتاريخ صورة أخرى.
– إن يوم الجمعة هو يومه المتوقع فيه ظهوره، لذا على المؤمن أن يكرر له الدعاء بالفرج، ويدفع صدقة عن ذلك الوجود الطاهر، لدفع البلاء عنه، وعمن يحبه، والنيابة له في الأعمال، وغير ذلك.. والأهم أن نكون من الدعاة إلى طاعته، والقادة إلى سبيله.. وأن نمهد لدولته الكريمة، بدلاً من التشاغل بعلامات الظهور الظنية، أو الوهمية، أو ما شابه ذلك، والبحث في المتاهات التي ليست لها ثمرة عملية.
– إن علينا أن ننظر إلى تكاليفنا في زمان الغيبة، فعلماؤنا الأبرار جمعوا توقيعاته الشريفة، إنها توقيعات بليغة، توقيعات سلطانية، فهو (عج) يتكلم من موقع السلطنة والزعامة لهذه الأمة، ومن توقيعاته: (فإنّا نُحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنا شيء من أخباركم)، وفي توقيع آخر يقول: (لو أن أشياعنا وفقهم الله لطاعته، على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم، لما تأخر عنهم اليُمن بلقائنا، ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا)، أحد العلماء من عامة المسلمين كان يقول: لا تقولوا: الإمام المُنْتَظَر، بل قولوا: الإمام المُنْتَظِر!.. هو ينتظرنا، ويتوقع منا أن نكون على مستوى المسؤولية.. فالإمام –عليه السلام– لو كان بناؤه أن يقوم بحركة إعجازية، لظهر منذ مدة.. ولكنه يظهر ويُقيم حكم الله –عز وجل– ولكن بالأسباب الطبيعية، ويستعين في حركته بالرعب مسيرة شهر أو عام.
– إن من أهم الوظائف أن نشايعه، كما ندعي المشايعة لعلي –صلوات الله وسلامه عليه– فلا نتقدم عليه، ولا نتأخر عنه كثيراً، (المتقدم لهم مارق، والمتأخر عنهم زاهق، واللازم لهم لاحق)؛ لا نتقدم، ولا نتأخر، بل نمشي خلفه بخطواته ومسلكيته، لا نعترض عليه بقول.. موسى –عليه السلام– كان يمشي وراء الخضر، وهو كاره لعمله، ولكن كان يتابعه بحسب الظاهر، وأخيراً افترقا.. فالخضر (ع) عنده العلم اللدني، وموسى (ع) عنده العلم الظاهري من ظاهر الشريعة.
– إن من أجلّ وظائف زمان الغيبة، أن نثبت المشايعة له في كل دائرة نعيشها: في دائرة الأسرة، ودائرة الجماعة، ودائرة المجتمع الكبير.. ولا شك أن ذلك من أفضل ما يثلج صدره –صلوات الله وسلامه عليه– وكذلك صدر علي –عليه السلام–.. يقول السيد في عروته: أنه من كانت له زوجة علوية سيدة، لا يجوز له أن يتزوج عليها علوية أخرى؛ أي أن يجمع بين فاطميتين -طبعاً الفتوى ليس كذلك- معللا بأن ذلك يبلغ الزهراء -عليها السلام- فيشق عليها.. هذه قاعدة عامة: إن استشراف المعصومين -عليهم السلام- لعالم الشهود -مع كونهم في عالم الغيب- مما لا ينكر عقلا ونصا.. فهذه الذوات المقدسة حقائق ثابتة في هذا الوجود: في الدنيا، وفي البرزخ.. تتألم، وتفرح بما يجري في هذه الأمة من أخبار محزنة أو أخبار سارة.. والإمام الصادق –عليه السلام– يقول: (لا يرى أحدكم إذا أدخل على مؤمن سروراً، أنه عليه أدخله فقط.. بل والله علينا، بل والله على رسول الله (ص))!..
– فإذاً: الذي يرتكب حراماً في خلوة أو جلوة، والذي يظلم من لا ناصر له إلا الله –عز وجل–، والذي لا يحسن فن التعامل الزوجي، والذي له شخصيتان متفاوتتان: أمام الناس بوجه بشوش طلق، ذو سمتٍ إيماني روحاني.. فإذا دخل المنزل، نزع الجلباب، وتلبس بثوبٍ آخر.. فإن أئمتنا –عليهم السلام– وفوق ذلك رب العزة والجلال، لا يرضى بهذا التلون، ولاشك أن هذا التلون والتغير من موجبات الصد عن التبليغ.
– إن عليا –عليه السلام– هذه الشخصية العظيمة، لو ثنيت له الوسادة وحكم الأمة، لكانت البشرية اليوم في حالة أخرى.. هنالك لون واحد يلف حياة علي –عليه السلام– من أوله إلى آخره.. فالنبي –صلى الله عليه وآله وسلم– عانى الأَمرّين في أول الدعوة، ولكن أيام حياته في المدينة كان نبياً متفقاً عليه، وبعد وفاته أيضاً لم يُختلف على نبوته.. ولكن المصيبة وقعت على رأس علي –عليه السلام– الذي رُشح لأن يكون امتداداً لخط المصطفى –صلى الله عليه وآله وسلم– يصل به الحال إلى أن يتمنى الموت في هذه الأمة، ولهذا عندما وقعت تلك الضربة على جبهته الشريفة، أول صيحة أطلقها عبارة: فزت ورب الكعبة!.. وكأن الله –عز وجل– أراد أن يعوض هذه الظلامة لعلي –عليه السلام– فميزه بميزة لم تعهد في تأريخ الأنبياء والمرسلين.. المرأة عندما تضع ولدها، هذه المرأة ممنوعة من الصلاة والصيام والمكوث في المساجد، وإذا بوالدة علي –عليه السلام– فاطمة بنت أسد، تضع عليا لا في فناء المسجد، ولا على سطح المسجد.. وإنما تدخل لتضع ذلك الوليد المبارك في جوف البيت.
– إن مريم (ع) وهي المبتلاة في سبيل الله –عز وجل–، وما هذا الحمل الذي كان عند مريم إلا بقدر إلهي، فهي لم تكن ترغب في ذلك، بل تمنت الموت {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا}، ابتليت في طاعة الله –عز وجل– وحملت بروح الله عيسى (ع)، وهي معتكفة في محراب عبادتها.. وعندما جاءها المخاض، وإذا بالنداء يأتيها: يا مريم!.. اخرجي من بيت المقدس، هذا بيت العبادة لا بيت الولادة!.. وأما حاملة علي، فاطمة بنت أسد -وهي أم لأسد- تضع هذا المولود في جوف الكعبة.. وعلي –عليه السلام– أيضاً رد الجميل لرب العالمين، عندما دخل النبي (ص) فاتحاً، وإذا بمهمة تحطيم الأصنام تلقى على عاتقه.. فمحطم الأصنام تعبير ولقب لشخصيتين: الأول: إبراهيم خليل الرحمن، والثاني: الإمام علي بن أبي طالب.. حيث ارتقى كتف النبي –صلى الله عليه وآله وسلم– ليرد الجميل الإلهي.
– إن شخصية علي –عليه السلام– شخصية كألوان قوس قزح، عند التحليل نرى الألوان المتباينة، وإلا فهو لونٌ واحدٌ: العبودية لله –عز وجل– في كل حركة من حركات حياته، نعرف هذه العبودية المطلقة من خلال سورة “هل أتى”.. فعلي –عليه السلام– قام بعمل -بحسب ميزان المادة- لا قيمة لهذا الأمر، فكم من المسلمين في زمان النبي (ص) تصدقوا بآلاف الدراهم، وأعتقوا الرقاب، وعملوا ما عملوا!.. ولكن علياً –عليه السلام– يتصدق بأقراص من الخبز، لو سُعرت في سوق الخبازين، لكان قيمة ذلك دريهمات.. وإذا بسورة كاملة تقريباً تنزل في تخليد هذه القصة.
– إن سر خلود علي (ع) يفهم من هذه الآية: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا}؛ فعلي (ع) يطعم لوجه الله، لا يريد جزاءً ولا شكورا.. وقاتل لوجه الله، لا يريد جزاءً ولا شكورا.. وعلم لوجه الله، لا يريد جزاءً ولا شكورا.. وتقبل الخلافة على كره، لا يريد جزاءً ولا شكورا.. قدم نفسه للأهوال، لا يريد جزاءً ولا شكورا.. فالإطعام حركة من حركات علي، وعينة من فعل علي.. إن أحدنا يقوم بالأمر، لا يطلب المدح والثناء؛ ولكنه إذا مدح يفرح بهذا المدح، وخاصة إذا كان المدح يصب في طريق الرسالة، لأن فيه دعما لطريقٍ إيماني.. ولكن عليا –عليه السلام– عندما كان يمدح، كان يتألم بحسب الظاهر!.. وكان يُظهر هذا التأذي ويقول: (اللهم!. اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون)!.. نعم، الذي عظم الخالق في عينه، ما قيمة الخلق الفاني لينظر إليه؟..علي -عليه السلام- اختصر الفلسفة والعرفان والكلام والسير والسلوك، بكلمة واحدة، هذا مقياس خلود علي: (عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم)!.. علي –عليه السلام– يريد أن يدلنا على الخلود والارتباط بالخلود.. كل واحد منا مشروع بأن تقبض روحه في كل ثانية وفي كل آن، أحدنا بُعده عن الممات جلطة في المخ، وتوقف في القلب.. وما أكثر موت الفجأة هذه الأيام، للأسباب الظاهرية كالحوادث وغير ذلك!.. وإذا بالإنسان يدخل في نفق مظلم، يختلي بربه في القبر {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وتأتي تلك النفخة، وإذا كل من على هذه الأرض ميت بين يديه ينادي: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}؟.. لا مجيب.. مليارات من البشر، من آدم (ع) إلى قيام الساعة، ولكن لا أحد يُجيب!.. فيجيب رب العالمين: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}!..
– إن عليا –عليه السلام– أراد أن يربطنا بالخلود.. فالإنسان الذي يأنس قلبه بالفاني وبالزائل أي شيء كان، يكون مغبونا في صفقته هذه.. إذ عليه أن يرتبط بهذا المطلق، ليذوق حلاوة الإيمان.. وحسب ترتيب الآية يبدو أن علياً وفاطمة (ع) بلغ بهما الجوع ما بلغ في اليوم الثالث، وإذا بهذه القرص النادرة في عالم الوجود، تكون من سهم ذلك الأسير.. وعندما رآهم رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم– بعد هذه الواقعة، تألم، ولعله بكى، وساءه أن يرى ابنته فاطمة، وقد التصق بطنها بظهرها من الجوع، وشحب لونها.. علي –عليه السلام– لا يرد طارقاً، وإن كان أسيراً كافراً، يقدم له القوت الوحيد الذي لديه، فكيف بنا نحن؟.. من المحال أن يردنا –عليه السلام– من بابه.
– إن عليا –عليه السلام– تابع للوظيفة والتكليف، ليس علي بذلك المزاجي.. فبعض الناس تفتح له بعض أبواب عالم الغيب: لذة في العبادة، أو أنس في الصلاة؛ وإذا به يهجر المجتمع ويعتكف في صومعة!.. ومن قال بأن هذا هو الأنس المطلوب؟!.. إن علاقة النبي (ص) بعلي كعلاقته بالزهراء، هذا المثلث القدسي الملكوتي لم يكن لينفصل.. هذه الرواية تقول: النبي –صلى الله عليه وآله وسلم– طال عهده بعلي، فاحترق شوقاً إلى لقائه فقال: (اللهم!.. لا تمتني حتى تريني وجه علي)!.. ومع ذلك يأتي التكليف: يا علي، اذهب إلى اليمن.. علي (ع) حُرم من جوار رسول الله (ص)، وحُرم من عطاء رسول الله.. والنبي (ص) كذلك حرم من الأنس بعلي: باب سره، وباب مدينة علمه.. ولكنه التكليف!.. (يا علي!.. لئن يهدي الله بك رجلاً، خير لك مما طلعت عليه الشمس وما غربت)، كان بإمكان النبي (ص) أن يبعث أحد أصحابه إلى اليمن، ولكنه أراد أن يعلمنا درساً.. فالبعض يسأل: ما هو سر النجاح في طريق القرب إلى الله؟.. إنها كلمة واحدة: إذا أردت أن تفتح لك الأبواب، فافتح على غيرك الأبواب بما تعلم (كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته).. إذا عملنا بذلك، لكان أمرنا على خير.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.