- ThePlus Audio
لمحات من قصة النبي يونس (عليه السلام)
بسم الله الرحمن الرحيم
لمحات من قصة النبي يونس (عليه السلام)
إن القرآن الكريم في كثير من قصصه يبين لنا بصورة مختصرة ونافعة قصص الأنبياء السابقين (ع) والذين ما قص القرآن الكريم قصصهم إلا لعبرة فيها ولتأسي المؤمنين بهذه الصفوة من الخلق ومن هؤلاء الأنبياء هو النبي يونس (ع) الذي قص الله سبحانه نبأه في مواضع مختلفة من كتابه وسماه في بعض الآيات بذي النون وصاحب والحوت وهذه الأسماء هي إشارة لأهم حادثة وقعت في حياة هذا النبي وهو التقامه من قبل الحوت.
التأسي بقوم يونس (عليه السلام) قبل فوات الأوان
والقرآن الكريم يحث الأمم والحضارات على التأسي بقوم يونس (ع) في قوله تعالى: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)[١]، فالرجوع إلى الله سبحانه واللجأ إليه والتضرع يرفع العذاب عن الأمم والشعوب فقوم يونس (ع) رغم شركهم وكفرهم بالله وتكذيبهم لنبي الله عز وجل رفع الله عنهم العذاب لذلك على الرغم من أن الشرك من الذنوب التي لا يغفره الله عز وجل لقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)[٢].
رفع الله العذاب عن هذه الأمة ببركة النبي محمد (صلى الله عليه وآله)
وقد يكون ما أصاب القرون الغابرة من الخسف والمسخ والتدميـر والطوفان وما شابه ذلك، سببا في التخفيف من عذابهم يوم القيامة؛ لأنهم عذبوا في الدنيا، ولكل شيء حسابه عند الله عـز وجـل، وهذه الأمة الخاتمة، ببركة نبيهم الخاتم (ص) لم تعجل عقوباتهم في الدنيا. ولعل ما حل بهؤلاء الأقوام من هذه العقوبات كانت نعمة من حيث أنها أنهت حياتهم، ولم يستمروا في المنكر مما يخفف عنهم العذاب يوم القيامة.
بداية القصة وهجره لقومه
وتبدأ قصة هذا النبي (ع) من قوله تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ)[٣]، وقوله ابتداء وذالنون من دون فعل مسبق يعني: أذكر ذالنون أي صاحب الحوت، وقد ترك قومه بعدما رأى بشائر العذاب وقرب نزوله من دون أمر إلهي بذلك وكأن تكليفه انتهى فقد كان يظن أنه قد دعى قومه وأنذرهم ولكن من دون جدوى والآن يبدو أن العذاب أصبح قريبا وقوعه فلا بأس في ترك هؤلاء والخروج من بلدهم، وهذا ولم يسبق أمر من الله عز وجل بالبقاء فيهم، فخرج وهو يظن أن لن يقدر عليه الله عز وجل.
فظن أن لن نقدر عليه..!
وجل ما يؤاخذ هذا النبي عليه هذا المقطع من الآية؛ حيث اختلف المفسرون في تحديد مراد الآية فقال البعض: أنه اعتقد أن الله سبحانه لا يقدر عليه وهذا اعتقاد لا يعتقد به أدنى المؤمنين درجة فكيف بنبي من أنبياء الله؟ وذهب آخرون إلى أنه يعني: أن الله سبحانه لن يضيق عليه وكان من اللازم تأدباً بين يدي الله عز وجل، أن ينتظر الأوامر لحظةً بلحظة، فإذا قيل له: إذهب، يذهب، وإذا قيل له: أقم فعليه الإقامة؛ حتى لو أن بشائر العذاب وجدت، فهذا لا يعني أن يترك القوم. ولكنه رغم كل هذا ترك القوم واتجه إلى البحر وركب في السفينة.
وقد وصف الله سبحانه خروجه هذا بخروج العبد الآبق الفار من مولاه فقال عز من قائل: (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)[٤]، وقد ركب في السفينة فاعترتها الأمواج العاتية وشملها الطوفان حتى استقر رأيهم أن يلقوا أحد الركاب من خلال القرعة في البحر للتخلص من بعض الأثقال التي قد تغرق السفينة بأجمعها وهو قوله تعالى: (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ)[٥] ، ولم تخرج القرعة بعد تكرارها لمرات إلا على يونس (ع).
تهيئة المقدمات لحلول البلاء..!
ولو أراد سبحانه أن يبتلي العبد هيأ لذلك المقدمات؛ فيونس (ع) توجه نحو البحر ولو أخذ طريق البحر لما ابتلي بالحوت، وقد ركب في السفينة في وقت هائج كثير الأعاصير ولو أنه ركب والريح طيبة لوصل بسلام إلى وجهته، وكانت السفينة محملة بالأثقال ولو كانت فارغة وقوية البنيان لما كانت الحاجة تقتضي إلقاء أحد منهم في البحر.
وكأن الله سبحانه ساقه سوقا نحو الغرق وهنا لا بد من الالتفات إلى أن النعم منه سبحانه إن شاء حولها إلى نقمة؛ فالأمواج التي تسوق موسى (ع) بأمر الله عز وجل وهو صبي في المهد إلى قصر فرعون هي نفسها الأمواج التي تسلم يونس إلى الغرق وإلى بطن الحوت. فالفضاء والهواء والأرض والسماوات كلها بيده سبحانه وطوع أمره وهو قوله تعالى: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)[٦] ويؤيد ذلك ما ورد في الأدعية الشريفة: (وَلاَ يُمْكِنُ اَلْفِرَارُ مِنْ حُكُومَتِكَ)[٧]، وينبغي للمؤمن أن يطيع ربه في جميع الأحوال حتى يدفع عنه الهلكات كما دفعها عن أنبيائه العظام كموسى (ع) ولو أراد الرد لخرجت القرعة في اللحزة الأخيرة باسم شخص آخر.
الذكر اليونسي
ولكن الله سبحانه كان رؤوفا به فجاءه حوت وفتح فمه واستقر في بطنه من دون أن يصيبه بأذى وهو قوله سبحانه: (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ)[٨]، ولكن يونس قد علم أن الأجواء مظلمة وأن الأمارات تشير إلى عدم الرضا الإلهي، فبدأ يونس (ع) بمناجاة الله سبحانه في ظلمات ثلاث: ظلمة الليل وظلمة جوف الحوت وظلمة أعماق البحر. وهذا الذكر الذي كان يناجي به يونس (ع) ربه والذي عرف بالذكر اليونسي أصبح من أهم الأذكار في أوساط الأولياء والصالحين وهو قوله: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)[٩].
وقد اشتمل هذا الذكر اليونسي على عناصر ثلاثة: التهليل وهو: (لا إله إلا أنت) أي أن الله سبحانه الملجأ والمفزع الوحيد الذي يتوجه إليه يونس (ع) ولأنه المعبود في كل زمان ومكان. التسبيح وهو: (سبحانك)؛ أي أنزهك عن كل نقص أو عيب، فأنت الحكيم في صنعك، فأنت الذي أرسلت العذاب على قومي وأنت الذي رفعته عنهم في الوقت الذي شئته أنت وأنت الذي ابتليتني ببطن الحوت وكل ذلك أمرك الذي لا اعتراض لي عليه.
ولهذا فإن على أحدنا إذا ابتليَ ببلية، فالخطوة الأولى بعد التوحيد والتهليل، أن لا ينسب النقص والظلم إلى الله عز وجل من حيث لا يشعر. فعندما تتمنى خلاف ما أنت فيه فقد اتهمت الله، وبمجرد أن تقول: لو كان كذا لكان هو الأفضل، قولك هذا هو في قبال المشيئة الإلهية، وكأنك تقول: يا رب أنت غير حكيم، وغير رؤوف، وغير لطيف بعبادك.
ثالثا: الاعتراف بالظلم، فبعد أن هلل وسبح الله عز وجل، قال أيضا: (سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) فإن حسنات الأبرار، سيئات المقربين وظلم النفس أعم من المعصية؛ ويعقبها حرمان من بعض الدرجات والامتيازات؛ فنبي الله آدم (ع) بأكله من الشجرة، حرم نفسه من امتياز العيش في الجنـة، فهذا ظلم لنفسه، وكذلك يونس (ع) حرم في هذه الفترة أن يكون في قومه مبلغا فحرم الأجر بذلك وغشيه من البلاء ما غشيه.
من منا لم يظلم نفسه؟
ومن منا لم يظلم نفسه بهذا المعنى؟ فمن منا يدّعي أنه في جميع اللحظات، كان يقوم بأفضل ما يمكن القيام به من وظائف العبودية؟ وقد نصلي، ونقرأ القرآن، ونجاهد، ونسبّح ولكن لا تكون هذه الأعمال الأفضـل، ومن الممكن أن لا يعيش الإنسان من بلوغه إلى وفاته دقيقة أو لحظة قد عمل فيها بتكليفه الواقعي، فهذا هو ظلم النفس. فكيف إذا اشتغل بالمكروه؟ وكيف إذا اشتغل بالحرام؟ فكل ذلك من مصاديق الظلم.
ويبدو من قوله تعالى: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ)[١٠] بدل القول: ثم استجبنا له أن الاستجابة في هذه الطريقة من الدعاء تكون سريعة، وتقول الآية: (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)[١١]، ويتبين من هذه المقطع من الآية الشريفة أن هذه العناية الإلهية بيونس (ع) ليس مما يختص به هو فقط وإنما كل من يعيش مشاعر يونس (ع) وفي ظلمات تشبه تلك الظلمات وقد تكون هذه الظلمات هي ظلمات الجهل أو زلمات غيبة الولي أو ظلمات الشهوة الملحة أو ظلمات المجتمع الذي يحيط به فما عليه إلا أن يقول كما قال يونس (ع): (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، ولا داعي للالتزام بعدد معين، فلو قالَها مرة واحـدة بصدقٍ وإخلاص، لكان من الفائزين.
نجاة يونس (عليه السلام)
وحان الوقت لخروجه من بطن الحوت قال تعالى: (فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ)[١٢]، ومن الطبيعي أن يكون سقيما قد رق جلده لطول استنقاعه في الماء وهو في العراء لا يعلم مذهبه وينتظر المدد ولكن يد العناية واللطف الإلهية لم تتركه وظلت تقلبه من مكان لآخر.
ثم أنبت سبحانه عليه شجرة تظله ويستفيد من ثمرتها ولعلها الثمرة التي تناسب وضعه الصحي قال تعالى: (وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ)[١٣] ويبدو أن هذا الإنبات تم سريعا. ثم وجهه سبحانه مرة أخرى إلى قومه: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ)[١٤] لأنه كان صادقا في نيته ففتح الله له أبواب التعويض، فرجع إلى قومه، فاستقبلوه أيما استقبال، بعد أن كُشف عنهم عذاب كان وشيكا نزوله بهم.
وقد عوض يونس (ع) بفضل ربه ما فات واجتباه سبحانه فرفعه إلى درجة لم يحزها من قبل: (فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ)[١٥]. فطالما كانت بعض الذنوب، سبباً لأن يكون الإنسان من أولياء الله عز وجل، فلا تخف من الذنب، ولا تخش المعصية، إذا أعقبتها الإنابة الصادقة.
وإليك هذه القاعدة المهمة في عالم السير إلى الله عز وجل
إن المدبر المعرض الآثم العاصي، إذا رجع إلى ربه بصدق، لا يعوّض الماضي فحسب؛ وإنما يحرز درجات من القرب لم يكن ليصل إليها مع طاعة وهو مـدل على ربه، ويمن عليه ولا تنس قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)[١٦].
[٢] سورة النساء: ١١٦.
[٣] سورة الأنبياء: ٨٧.
[٤] سورة الصافات: ١٤٠.
[٥] سورة الصافات: ١٤١.
[٦] سورة الفتح: ٧.
[٧] مصباح المتهجد ج٢ ص٨٤٤.
[٨] سورة الصافات: ١٤٢.
[٩] سورة الأنبياء: ٨٧.
[١٠] سورة الأنبياء: ٨٨.
[١١] سورة الأنبياء: ٨٨.
[١٢] سورة الصافات: ١٤٥.
[١٣] سورة الصافات: ١٤٦.
[١٤] سورة الصافات: ١٤٧.
[١٥] سورة القلم: ٥٠.
[١٦] سورة البقرة: ٢.
خلاصة المحاضرة
- قد ينسب المؤمن النقص والظلم إلى الله عز وجل من حيث لا يشعر. فعندما يتمنى خلاف ما هو فيه فقد اتهم الله، وبمجرد أن يقول: لو كان كذا لكان هو الأفضل، قوله هذا هو في قبال المشيئة الإلهية، وكأنه يقول: يا رب أنت غير حكيم، وغير رؤوف، وغير لطيف بعبادك.
- ولو أراد سبحانه أن يبتلي العبد هيأ لذلك المقدمات؛ فيونس (ع) توجه نحو البحر ولو أخذ طريق البحر لما ابتلي بالحوت، وقد ركب في السفينة في وقت هائج كثير الأعاصير ولو أنه ركب والريح طيبة لوصل بسلام، وكانت السفينة محملة بالأثقال ولو كانت فارغة قوية البنيان لما ألقي أحد منهم في البحر.
- لا بد من الالتفات إلى أن النعم منه سبحانه إن شاء حولها إلى نقمة؛ فالأمواج التي تسوق موسى (ع) بأمر الله عز وجل وهو صبي في المهد إلى قصر فرعون هي نفسها الأمواج التي تسلم يونس إلى الغرق وإلى بطن الحوت. فالفضاء والهواء والأرض والسماوات كلها بيده سبحانه وطوع أمره.