– إن السعي إلى مواطن التعلم، وخاصة في ساعة متأخرة من منتصف الليل، حيث أن الإنسان بإمكانه أن يشغل نفسه بأمور كثيرة: جلوساً مع أهله، وإذا كان متزوجا مع زوجته وأولاده، ويستمتع بصور مختلفة من متع الحياة.. ولكن البعض يأتي في مثل هذه الساعة، وينتظر الحديث في الليل، وفي المسجد، وفي هذه الجلسة المتعبة التي هي من أسوأ الجلسات من الناحية الطبية.. إنسان يجلس ساعة أو ساعتين ليتعلم شيئاً من معالم دينه، وما يقربه إلى الله -عز وجل- وخاصة إذا كان في بيت من بيوت الله عز وجل.. إن هذا السعي إلى بيت الله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}.. ذكر الله ليس بالسبحة فقط، وإنما كل ما يذكرك به، ولو كانت محاضرة نافعة وبليغة.. إن هذا السعي وهذا الإحياء في مواطن العبادة، من موجبات التدخل الإلهي في القلوب.
– إن في عالم الطب هناك عمليات جراحية، تسمى بجراحة القلب المفتوح.. وفي عالم القلب الباطني لله أيضاً عمليات جراحة: المفتوحة تارة، والعملية غير المفتوحة تارة أخرى.. أي أن لله -عز وجل- أيضاً عمليات في القلب الباطن: هنالك قلوب رب العالمين يتدخل في تغيير صماماتها، وفي علاجها علاجا جذريا.. هذه الأيام يعالج الأطباء القلب الميت بالصدمات الكهربائية، حتى يعود إلى نبضه السابق.. وقلب المؤمن في بعض الحالات، قد يبتلى بهذه الحالة من الموت.. وعلامة موت القلب، أنه لا يتفاعل مع عالم الغيب.. وعالم الغيب معنى واحد: منه المناجاة مع رب العالمين، والتأثر بمصائب أهل البيت (ع)، والفرح في مواليدهم، والرفقة على المخلوقين؛ كل هذه من علامات حياة القلب ونبض القلب.. يصل العبد بعد مرحلة من مراحل الإدبار، أن هذا القلب يموت فلا يلتذ بذكر الله عز وجل.. إن البعض قد يكون في مسجد، وفي ليلة القدر، والناس يضجون بالبكاء والنحيب والدموع على خدودهم.. وهو يعيش حالة الذهول والسرحان، ويفكر في طعامه وشرابه.. ولعل البعض يستذكر صوراً محرمة في حياته، ويعيش حالة معاكسة للمؤمنين.. المؤمنون يعيشون التحليق الروحي، وهو يعيش التسافل الأرضي، بينهما بعد المشرقين!.. هذا القلب قلب ميت، والقلب الميت تارة يستغفر، فيربح جائزة.. وهناك قلوب ختم الله عليها {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا}، هذا الوجود لا قلب فيه.. لو اجتمع أنبياء الله على أن يحيوا هذا الإنسان، لا تنفع شفاعتهم {وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}؛ حتى كلام النبي (ص) لا يؤثر في وجودهم {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}.
– إن بعض القلوب تحتاج إلى إعادة نشاط، وإلى تنشيط، وإلى إعادة فعالية.. والتواجد في بيوت الله -عز وجل- في حد نفسه، هو من موجبات إعادة هذا النشاط.. وصلاة الجماعة كذلك من هذه الموجبات.. ولهذا جبرائيل يتمنى أن يكون إنساناً لخصال -جبرائيل سفير الله في الأرض، الذي ما من نبي ولو على الأقل أنبياء أولي العزم، إلا وكان معهم في كل تقلباتهم.. والذي كان مع النبي في المعراج، إلا في منطقة معينة، قال: (لو دنوت قيد أنملة لاحترقت)!.. جبرائيل الذي بهذه المزية، حتى أن رسول الله (ص) لعله كان يخاطب جبرائيل بأخي-!.. جبرائيل يتمنى أن يكون بشرا، ليتمتع بمزايا الإنسانية، ومنها صلاة الجماعة، وتشييع الموتى، وخدمة الحجاج في الحج.. إن هذا التواجد من موجبات فتح الله -عز وجل- لمسارب القلب.. قد يقرأ الإنسان فكرة في كتاب، لا تهز وجوده.. أو يسمعها من تلفاز، فلا يتأثر بها.. ولكن عندما يأتي إلى المسجد، وينتظر ساعة، ويأتي المتكلم ويتكلم، فإن التأثير يكون مؤكدا.
-إن البعض يظن بأن هذا الخطيب خطيب ماهر يحرك القلوب، والحقيقة أن هنالك مقلب القلوب.. فرب العالمين يبارك في المجلس، لا كرامة للمتكلم، وإنما كرامة للجو العام الذي يكتنف الجمهور.. ومن هنا قال (ص): (إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد، يكتبون الأول فالأول، ومثل الهجر –أي المبكر إلى الجمعة– كمثل الذي يهدي بدنه، ثم كالذي يهدي بقرة، ثم كبشًا، ثم دجاجة، ثم بيضة.. فإذا خرج الإمام، طووا صحفهم وجاءوا يستمعون الذكر).. والجميل في هذه الرواية أن الملك يجلس ليستمع إلى خطبة الجمعة.. يا له من منصب!.. لذا على الإنسان أن يستفيد من هذا السبيل، هذا السبيل من الثقافة التي فيها سعي، وفيها مجاهدة.. ولهذا -مع الأسف- البعض هذه الأيام يعول على الفضائيات وعلى التلفاز، بحمد الله ينتقلون من محطة إلى محطة، هنا دعاء توسل، وهنا مناجاة، وهنا مجلس حسيني.. ولكن يبقى للمسجد، وللحضور تأثيره.
– إن من كلمات الإمام علي (ع) البليغة في النهج، في خطبته القصيرة هذه الكلمة.. علي (ع) لا يمن علينا بكلامه، هو إمام الأمة، وهو الشفيق بالخلق عامة، فكيف بشيعته؟!.. في اليوم الثالث طوى جوعاً هو والزهراء (ع)، وقدما قرصهما للأسير الكافر.. اليتيم مسلم، والمسكين مسلم؛ ولكن قوت علي وفاطمة، هذا القوت النوراني من أحل الأموال، وأفضل الأموال، يقدم إلى أسير كافر!.. ولكن مع ذلك في هذه الرواية يقول: (أوصيكم بخمس، لو ضربتم إليها آباط الإبل لكانت لذلك أهلاً: لا يرجون أحد منكم إلاّ ربه، ولا يخافن إلاّ ذنبه، ولا يستحين أحد منكم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: «لا أعلم»، ولا يستحين أحدا إذا لم يعلم الشيء أن يتعلمه، وعليكم بالصبر!.. فإن الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس معه، ولا في إيمان لا صبر معه).
– إن كلمات أهل البيت (ع) كالقرآن الكريم، ليس فيه تعقيد.. انظروا إلى مقامات العارفين!.. ابن سينا له فقرات في العرفان والأخلاق، ولكن هذه الفقرات معقدة وتحتاج إلى شرح، من كلامه: (كلما قرع سمعك من العجائب، فذره في بقعة الإمكان، حتى يذودك عنه ساطع البرهان).. له كلمات حكمية معقدة!.. ولكن أسلوب القرآن، وحديث أئمة أهل البيت (ع) فيه بيان للناس.. فالمخاطبون هم أهل الإبل، وأهل الماشية، وأهل البوادي.. كما أن المخاطب بذلك: أبو ذر، وسلمان، والمقداد.
– إن عليا (ع) في هذه الوصايا الخمس، يذكر أمورا وكأنها بديهية!.. ولكن علياً (ع) يؤكد على هذه الوصفة: (لا يرجون أحد منكم إلا ربه)!.. هذه الكلمة على اختصارها، تحتاج إلى مقدمات كثيرة.. من السهل أن يقول الإنسان: أنا أرجو ربي!.. وثقتي بالله!.. عوام الناس يقولون: الثقة بالله، أو الأمل بالله عز وجل، ولكنها لقلقة.. إذا كانت الثقة بالله -عز وجل- فلماذا هذا الاضطراب في أمور المعيشة؟!.. ولماذا هذا التحير في دروب الحياة المتشعبة؟!.. الثقة بالله، والتفويض إلى الله -عز وجل- هو تفويض أم موسى، عندما جعلت فلذة كبدها في المهد، في ذلك التابوت الخشبي، وألقته في اليم.. هل هناك أم تلقي بولدها في اليم؟!.. ولكن الله -عز وجل- يقول: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}؛ رب العالمين أراها كيف يكون التفويض.. فالقضية تحتاج إلى بلوغ فكري وعقلي، وتحتاج إلى حالة من النمو الباطني.
– إن الذي يسلم ملفه القضائي إلى محام قدير وخبير، يرجع إلى المنزل وينام تلك الليلة مرتاح البال، لأن المحامي ملم بقوانين المحاماة وبتفريعات القانون.. وإذا كان هذا المحامي له صلة وثيقة بالقاضي، فإن باله يرتاح تماماً.. لماذا؟.. لأنه فوض الأمر إلى عليم وقدير.. إذن هناك صفتان: عليم بمهنته، وقدير له وساطة في الجهاز القضائي مثلاً.. هذا الإنسان يقال: إنسان فوض أمره للمحامي، لأنه على علم بمهارته وقدرته.. والذي يريد أن يفوض أمره إلى الله عز وجل، لابد وأن يكون على هذا المستوى من اليقين.. ونحن طالما صلينا، وطالما حججنا واعتمرنا وصمنا؛ امتثالا لأوامر الله عز وجل.. ولكن هل استشعرنا الوجود الإلهي في يوم من الأيام، كاستشعارنا لوجود الزوجة والأولاد والمنزل والأرض والسماء؟.. هل استشعرنا بهذا الوجود الذي هو مصدر الوجود؟.. نحن أنسنا بآثاره، ونسينا المؤثر صاحب الأثر، كما يقول الحسين (ع) في يوم عرفة: (ألغيرك من الظهور ما ليس لك، حتّى يكون هو المظهِر لك؟!.. متى غبت حتّى تحتاج إلى دليلٍ يدلُّ عليك؟!.. أو متى بَعُدتَ حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟!.. عميت عين لا تراك ولا تزال عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبدٍ لم تجعل له من حبك نصيبا)!.. الإنسان يحتاج إلى دليل العلة والمعلول.. والمؤمن يحتاج إلى دليل آخر، إلى مرحلة أخرى من المشاهدة الباطنية: (لا تدركه العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان)!..
– إن على المؤمن أن يحاول فتح عيون الباطن، هاتان العينان ترى ظواهر الطبيعة، ولا ترى بواطنها.. إن المكان مليء بأمواج الفضائيات، ولكن أين هذه الأمواج؟.. حتى الأمور المادية في الحياة الدنيا، لا ترى بالعين!.. فأشعة الليزر وأمواج الكهرباء وما شابه ذلك لا ترى، فكيف بما وراء الطبيعة؟!..
فإذن، كيف يتوقع أحدنا أن يرى ما وراء الطبيعة؟.. إن ذلك يحتاج إلى سعي، وإلى جهد باطني.. الإنسان في بطن أمه قطعة لحم، منظره قبيح، كالضفدعة: رأس كبير، وذيل قصير؛ منظر لا يتحمل، وتستمر هذه البشاعة لأشهر.. وله عينان كعيني السمكة، في جسم هلامي؛ ولكن رب العالمين يشق هذا البصر.. وجمال الإنسان في وجهه، وجمال الوجه في العينين؛ ولهذا بعض العلماء يستشكل في النقاب من هذه الناحية.. -في بعض الحالات لبس النقاب يلفت النظر أكثر، لأن من خلاله تبرز العينان.. والنقاب هو مرحلة وسطية بين الغطاء الكامل، وبين الكشف الكامل-.. وعليه، فإن الله -عز وجل- هو الذي شق في الإنسان البصر الجميل، ولكنه أوكل أمر عين الباطن إلى الإنسان.. يقول: أنا في بطن أمك علي بشق البصر الحسي، وأنت شكراً لهذه النعمة، حاول أن تفتح بصرك الباطني.
– كيف نفتح البصر الباطني؟..
الجواب هو في هذا الحديث الأخلاقي المروي في كتب الفريقين: قال رسول الله (ص): (إن الله -تعالى- قال: … ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها.. ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه).. الواجبات مفروضة علينا، نحن نؤدي الواجب خوفاً من عذاب الله عز وجل، كم من الناس يصومون في رجب وشعبان؟.. إنها قلة قليلة!.. أما في شهر رمضان حتى الأطفال الصغار يصومون؛ لأن الصوم في شهر رمضان إلزام.. وكذلك بالنسبة إلى صلاة الليل، لأنه ليس فيه إلزام؛ ولهذا فإن الذي يلتزم بالنوافل، هذا له إصرار باطني، يريد أن يقول: يا رب، أنا أعمل ما لم تفترضه علي، على أمل أن تفتح لي الأبواب.. عندما يصلي الإنسان صلاة الليل، ويغلب عليه النعاس، فيسجد وإذا في السجود يغط في نوم عميق، ويرى من الأحلام ما يرى.. إن رب العالمين يباهي الملائكة بهذا المنظر، عن رسول الله (ص): (إنّ ربّك يباهي الملائكة بثلاثة نفر:… ورجل قام من الليل يصلّي وحده، فسجد ونام وهو ساجد، فيقول: انظروا إلى عبدي!.. روحه عندي، وجسده ساجد لي).. إذا التزمت بالنوافل، عندئذ يفتح بصرك الباطني.
– إن الإنسان عندما يؤدي النوافل، يسمع أمورا لا يسمعها الآخرون.. أتى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بقيع الغرقد فوقف على قبرين فقال: أدفنتم ها هنا فلاناً وفلانة، أو قال: فلاناً وفلاناً؟.. قالوا: نعم.. فقال: (قد أقعد فلان الآن يضرب.. ثم قال: والذي نفسي بيده!.. لقد ضرب ضربة ما بقي منه عرق إلا انقطع، ولقد تطاير قبره ناراً، ولقد صرخ صرخة يسمعها الخلائق، إلا الثقلين: الجن، والإنس.. ولولا تمريج في صدوركم، وتزييدكم في الحديث لسمعتم ما أسمع)؛ أي أن القلب الذي لا قوام له، ويفكر في كل حق وباطل، من الطبيعي أن لا تفتح له الأبواب.
فإذن، إن على المؤمن أن يحول إيمانه ويقينه بالله -عز وجل- من إيمان فلسفي رياضي، قائم على أساس برهان العلة والمعلول، إلى برهان وجداني يعتمد على أساس شهود المولى في كل حركة من حركات الحياة؛ تأسيا بذلك بأمير المؤمنين (ع)، حيث يقول: (ما رأيت شيئاً، إلا ورأيت الله: قبله، وبعده، ومعه).
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.