الحصن..
إن معظم زائري الإمام الرضا (عليه السلام) تقريباً يعرفون هذه الرواية التي تقول: (لما وافى الرضا (عليه السلام) نيسابور، وأراد أن يخرج منها إلى المأمون، اجتمع عليه أصحاب الحديث فقالوا له: يا بن رسول الله!.. ترحل عنا ولا تحدّثنا بحديث فنستفيده منك -وكان قد قعد في العماريّة- فأطلع رأسه وقال: “سمعت أبي موسى بن جعفر يقول: سمعت أبي جعفر بن محمد يقول: سمعت أبي محمد بن علي يقول: سمعت أبي علي بن الحسين يقول: سمعت أبي الحسين بن علي بن أبي طالب يقول: سمعت أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول: سمعت رسول الله (ص) يقول: سمعت جبرائيل يقول: سمعت الله جلّ جلاله يقول: لا إله إلا الله حصني، فمَن دخل حصني أمن عذابي”.. فلما مرّت الراحلة نادانا: “بشروطها وأنا من شروطها”).
الورود..
إن هناك من يعتقد أن مجرد التلفظ بكلمة “لا إله إلا الله” كافٍ لدخول الحصن الإلهي!.. صحيح أن الذي يتلفظ الشهادتين هو بمعنى من المعاني دخل الحصن، فالإنسان اليهودي أو النصراني الذي ينطق بالشهادتين؛ يدخل حصن الإسلام العام.. ولكن هذا الذي دخل الحصن الإسلامي العام، قد يدخل نار جهنم؛ فجهنم فيها: الكفار، والمنافقون، والعصاة من المسلمين؛ فهي خُلقت لمن عصاه!.. فإذن، هناك أمور أخرى تجعل الإنسان في الحصن بمعناه الكامل، أي تجعله في جنّة من النار، فيدخل الجنة دون أن يجتاز نار جهنم؛ لأن هناك كثيرين ممن يدخلون الجنة، ولكن بعد سنوات من التعذيب، ألا يقول تعالى: ﴿إِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا﴾!..
١. عن رسول الله (ص) قال: (يرد الناس النار ثم يصدرون بأعمالهم: فأولهم كلمع البرق، ثم كمر الريح، ثم كحضر الفرس، ثم كالراكب، ثم كشد الرجل، ثم كمشيه)؛ أي أن الكل يمر على نار جهنم.
٢. ورد في تفسير الميزان: “واعلم أن ظاهر بعض الروايات السابقة، أن ورود الناس النار، هو جوازهم منها، فينطبق على روايات الصراط، وفيها أنه جسر ممدود على النار، يؤمر بالعبور عليها البر والفاجر، فيجوزه الأبرار ويسقط فيها الفجار”.. فالبعض يسقط، والبعض يجتاز.. ومن يسقط على قسمين: قسم يسقط في النار مخلداً كالكفار، وقسم يسقط في النار مؤقتاً.. ولعل هناك من يسقط في النار ساعة من الزمان؛ ليصفو ثم يدخل الجنة!..
المعنى الكامل لكلمة “لا إله إلا الله”..
إن الإنسان يدخل الجنة بجناحين: الالتزام الكامل، والاعتقاد الصادق..
أولاً: الالتزام العملي.. إن أهل البيت (عليهم السلام) بعضهم يفسر كلام بعض، فالإمام الرضا (عليه السلام) لم يفصل في الرواية السابقة، ولكن هذه الرواية عن أبي عبد الله (عليه السلام) تقول: (من قال: “لا إله إلا الله” مخلصاً؛ دخل الجنة.. وإخلاصه أن تحجزه “لا إله إلا الله” عما حرّم الله عز وجل)..
-(وإخلاصه أن تحجزه “لا إله إلا الله” عما حرم الله عز وجل).. إن الإنسان عندما يريد أن يأكل مالاً من حرام، أو ينظر نظرة محرمة، أو يستمع إلى غناء محرم؛ هنا الهوى هو الذي يدعوه للحرام؛ فكل حرام فيه شهوة!.. روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: (الجنة محفوفة بالمكاره، والنار محفوفة بالشهوات).. وفي رواية أخرى عنه (عليه السلام): (الجنّة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في الدنيا؛ دخل الجنة!.. وجهنم محفوفة باللذات والشهوات، فمن أعطى نفسه لذتها وشهواتها؛ دخل النار).. وعليه، هل هناك عاقل يرتكب الحرام فيأكل طعاماً متعفناً مثلاً، إذا عد هذا الطعام من الخبائث؛ فإنه يُحرم أكله!.. ولكن هل هناك إنسان يتعفف عن أكل حشرة ويقول: أنا جاهدت نفسي؟.. عادة الحرام مقرون بالمشتهيات، الهوى يقول لي: اسمع!.. وكل!.. وخذ المال الحرام!.. وانظر إلى الحرام!.. بما أن الهوى يأمرني، فهو في حكم الإله؛ لأن الله عز وجل يأمر، والهوى يأمر، يقول تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾!.. فإذن، إن الهوى إله يُعبد، وزبائن الهوى أكثر من زبائن الله عز وجل؛ فعُبّاد الهوى أين عددهم، وأين عُبّاد الهدى؟.. هم الأقلون عددا!..
-(“لا إله إلا الله”).. أي أيها الإنسان!.. الهوى ليس بإله، رب العالمين هو الذي يأمر وينهى، رب العالمين يقول: لا تأكل.. والهوى يقول: كل!.. فكلمة “لا إله إلا الله” تعني: يارب، أنت الإله المطاع، والهوى لا نطيعه.
ثانياً: الاعتقاد الصادق.. إن الإمام الرضا (عليه السلام) قال بعد أن ذكر الحديث (بشروطها وأنا من شروطها).. طبعاً إذا جاءت الإمامة الصحيحة، جاءت النبوة، وجاء التوحيد.. فمن جاء بالمائة جاء بالثمانين، والذي جاء بالولاية، جاء بالتوحيد والنبوة الصحيحة.
فإذن، إن دخول الجنة بإخلاص بـ: “لا إله إلا الله” يكون بجناحين: الاعتقاد الصحيح، كما في رواية الإمام الرضا (عليه السلام) في نيشابور.. والعمل الصحيح، كما في رواية الإمام الصادق (عليه السلام).
بطاقة دخول الجنة..
إن الدخول إلى بعض الدور كالمسارح وغيرها -هذه الأيام- يحتاج إلى بطاقة لأصل الدخول، وبعض الأوقات يحتاج بطاقة للجلوس في مكان مميز في الصف الأول مثلاً.. كذلك الأمر بالنسبة إلى دخول الجنة؛ فإن لها بطاقات، قال رسول الله (ص): «أكثر ما يدخل الجنة: تقوى الله، وحسن الخلق»..
-(أكثر ما يدخل الجنة).. ما أجمل هذه الرواية!.. تجعل كل الشروط لدخول الجنة، منطوية ومندرجة في شرطين، هما:
-(تقوى الله، وحسن الخلق).. قد يكون الإنسان متقياً: أي يترك الحلال والحرام، ولكن ليس له خلقٌ حسن.. هنا لابد من التفريق بين اصطلاحين: حسن الخلق، والبشاشة.. إن البشاشة من حُسن الخلق، فكل بشاشة هي حُسن خلق؛ ولكن ليس كل حُسن خلق هو البشاشة.. وبتعبير المنطقيين: بينهما عموم وخصوص مطلق، أي كل بشاشة من حُسن الخلق، ولكن ليس حُسن الخلق منحصراً بالبشاشة.. فحُسن الخلق يعني حُسن الباطن، مثلاً:
١. إن الإنسان الذي يُخمس أمواله؛ هذا إنسان ملتزم بالتقوى؛ ولكنه قد يكون بخيلاً.. هنا البخل قبح باطني، هو في مقام العمل أدى ما عليه.
٢. إن الإنسان الذي يمتنع عن غيبة المحسود؛ خوفاً من الله عز وجل، ولكن حالة الحسد موجودة في باطنه؛ هذا إنسان ليس له خلق حسن!..
فإذن، من يريد أن يدخل الجنة، عليه بالخصلتين معاً!.. لأنه إذا كان مطيعاً، وخلقه ليس حسناً؛ كالحسود الذي يمسك لسانه في مقام العمل، هذا إنسان على حافة الهاوية، وذلك للأسباب التالية:
أ- إن الحسد يأكل حسناته كما تأكل النار الحطب، عن النبي (ص) قال: (إياكم والحسد!.. فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)!..
ب- إن هذا الإنسان ليس له قلب سليم ينفعه يوم القيامة، يقول تعالى: ﴿يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.
ج- إن الذي ليست له ملكة باطنية وخلق حسن، فإنه في يوم من الأيام يفلت منه الزمام.. فالذي يحسد من الممكن أن يجاهد نفسه ويقاوم في يوم أو يومين، في موقف أو موقفين، ولكن في يوم من الأيام هذا الخلق الباطني؛ يؤثر أثره.. يمكن تشبيه الحالة ببعض النباتات الجذرية، كمزرعة النعناع -مثلاً- عندما يُقص الورق، بعد أيام الجذور تنتشر في مكان آخر، هنا النعناع نبات طيب .
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.