كيف يستثمر المؤمن شوقه لزيارة أئمته (عليهم السلام)؟
بسم الله الرحمن الرحيم
استثمار شوق الزيارة
من الأمور التي يستثمرها المؤمن أيما استثمار، شوقه الصادق لزيارة الأئمة (ع) الذي يكون في أعلى مستوياته في ذكرى مواليديهم وشهاداتهم. ترى الرجل يتفاجئ بمولد المعصوم قبل مناسبة ميلاده بيوم أو يومين، فلا تجده إلا في مشهد المعصوم قد أتى به شوقه إليه؛ ذلك الشوق الذي أخرجه من بيته وقطع به المسافات الشاسعة ليزور إمامه في يوم ميلاده مهما كلفه ذلك. وينبغي لكل واحد منا أن يحدوه هذا الشوق إلى اتخاذ خطوات عملية ولا يكتفي من بعيد بذرف الدموع.
هبة المعصوم لزائره
والمعصوم مظهر كرم الله عز وجل في جميع الأيام وقد ورد في وصفهم في الزيارة الجامعة: (فِعْلُكُمُ اَلْخَيْرُ وَعَادَتُكُمُ اَلْإِحْسَانُ وَسَجِيَّتُكُمُ اَلْكَرَمُ)[١]، ولكنهم يضاعفون العطايا لمن يزورهم في المناسبات. إنك تدخل إلى الحرم الرضوي على سبيل المثال في يوم مولده الشرف، فترى الورود في كل مكان بفعل العاملين في العتبة الرضوية. فإذا كان أهل الأرض هذا احتفالهم وهذه زينتهم، فكيف احتفال أهل السماء؟
صفة امتاز به الرضا (عليه السلام)
هذا والإمام الرضا (ع) موصوف بالرأفة، ونحن نقول: الإمام الرؤوف. وهي صفة خاصة به وميزة امتاز بها من بين الأئمة (ع). ولعل سر هذه المزية، ما عاناه من بعد عن موطن آبائه ومراقدهم المشرفة ومشقة السفر من المدينة إلى طوس التي أصبحت اليوم بفضل وجود قبره الشرف، مختلف الشيعة والملائكة ولا يعرف الناس غير قبره الشريف. والحال أنه دُفن في ذلك الوقت في مكان معروف تحت القبة الهارونية التي كان لها أهمية كبيرة وما أجدرنا بامتثال قول الشاعر:
قبران فى طوس خير النّاس كلّهم
وقبر شرّهم هذا من العبر
فالقاتل والمقتول في مكان واحد. ولهذا يقرن بعض الزائرين الزيارة بلعن هارون وأتباعه، وجدير بنا التأسي بهم في ذلك.
ماذا لو لم أوفق لزيارة الرضا (عليه السلام) في مولده؟
فمناسبة مثل مناسبة مولد الرضا (ع)، ليست مناسبة يفاجئ بها المؤمن، فيفوت على نفسه البركات العظيمة. ولكن لنفترض أن المؤمن لا يستطيع التشرف لزيارة الرضا (ع) في مولده لسبب من الأسباب كتعذر الإجازة أو كثرة تكاليف السفر أو ما شابه ذلك، فما عساه أن يفعل؟
لو لم يوفق أحدنا لزيارة الرضا (ع) في يوم مولده، فإليه هذه الطريقة التي تنفعه عند عدم التوفيق لزيارة أي معصوم، وهي التجرد. تارة تكون الزيارة إدخال البدن إلى الحرم الشريف وقد لا تختلف هذه الزيارة عن إدخال الجنائز التي يطاف بها حول الضريح المطهر؛ حيث لا تكون للميت أي إرادة في الدخول أو الخروج. فهل يقال: زار الميت؟ أم أنه يقولون: طافوا به أو زوره؟ بالطبع إن الإمام (ع) لا يُخرج الزائر خالي الوفاض ولكن الأرقى من زيارة الأبدان، لقاء الإمام (ع) لقاء روحيا.
أدخل الروح في الحرم بموازاة البدن
بعبارة أخرى: حاول بموازاة إدخال الجسم في الحرم، ملامسة روح المعصوم بمعنى من المعاني. وعلامة ذلك أن تجد بعد الزيارة رقة في قلبك وزيادة في إيمانك، وعدم الشعور بالملل ولو مكثت في الحرم ساعات الطويلة، لأنك تجد شيئا مميزا وإن لم تكن تعرفه بالتفصيل ما هو. وقد أستطيع تقريب ذلك بالشاشة التي يتسمر أمامه الطفل وإن لم يكن يعلم تفصيلا ماذا يُعرض فيها. إنه بحسب الظاهر ينظر إلى زجاجة ولكن خلف هذه الزجاجة من البرامج الشائقة والملونة الكثير مما يجذبه ويشده إليها. وليست تفاصيل البناء وفخامة المكان هو ما يشدك للبقاء في الحرم الشريف؛ بل هي الإشراقات التي تنعكس على قلبك وروحك.
إشراقات منزلية…!
وبإمكانك نيل هذه الإشراقات وأن في مكانك في منزلك أو في محل عملك أو في أي بقعة من الأرض كنت وذلك بما ذكرته آنفا؛ التجرد. التجرد هو أن يصل الإنسان إلى درجة، بمجرد أن يغمض عينه يجد نفسه تحت القبة الشريفة في كربلاء مثلا، فعندها لا فرق بين أن يسلم على الإمام (ع) من بعيد أو يسلم عليه في مشهده. ولذا ورد أن من زيارات الحسين (ع) أن تصعد إلى السطح وتنظر يمنة ويسرة ثم تقول: السلام عليك يا أبا عبدالله، فتكتب لك زيارة حتى وإن كنت في القطب الشمالي. وهذه الزيارة لا تحتاج إلى تأشيرة وتذكرة؛ ولكن ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا. ما أحسن الزيارة إذا كانت تجردية وفي حرم الإمام المعصوم.
هذا وقد ورد عن الرضا (ع) في فضل زيارته: (مَنْ زَارَنِي عَلَى بُعْدِ دَارِي أَتَيْتُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِي ثَلاَثِ مَوَاطِنَ حَتَّى أُخَلِّصَهُ مِنْ أَهْوَالِهَا إِذَا تَطَايَرَتِ اَلْكُتُبُ يَمِيناً وشِمَالاً وعِنْدَ اَلصِّرَاطِ وعِنْدَ اَلْمِيزَانِ)[٢]، وهي تشير إلى فضل الزيارة من قرب. فلذا لا ينبغي أن يكتفي بالزيارة عن البعد، من يجد إلى مشهد إمامه سبيلا.
ما هو الأثر الذي يبقى معك بعد الزيارة؟
لقد شبه النبي الأكرم (ص) الصلاة بالنهر الذي يغتسل منه الإنسان كل يوم خمس مرات، فقد روي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال في فضل الصلاة: (إِنَّهَا لَتَحُتُّ اَلذُّنُوبَ حَتَّ اَلْوَرَقِ وَتُطْلِقُهَا إِطْلاَقَ اَلرِّبَقِ وَشَبَّهَهَا رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ بِالْحَمَّةِ تَكُونُ عَلَى بَابِ اَلرَّجُلِ فَهُوَيَغْتَسِلُ مِنْهَا فِي اَلْيَوْمِ وَاَللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَمَا عَسَى أَنْ يَبْقَى عَلَيْهِ مِنَ اَلدَّرَنِ)[٣]. ويُمكن القول قياسا بهذه الرواية الشريفة؛ أن الزيارة النموذجية الفاعلة هي التي تؤثر في تغيير سلوكيات الإنسان. لا يخلو الزائر من خطايا وهفوات في حياته وسلوك خاطئة لابد وأن تتغير بعد رجوعه من الزيارة. ليطلب المؤمن من الإمام أن يريه ملكوت الحرام.
إذا رأى المؤمن ملكوت الغيبة وهو أكل لحم الميتة هل يغتاب أحدا في حياته؟ هل ينظر إلى النساء وهو يعلم أن ملكوت هذه النظرة سهم من سهام إبليس؟ هل تجد عاقلا يضع علينه على فوهة بندقية معدة للإطلاق؟ وإذا استطعت الوصول إلى هذه الدرجة، استطعت الإقبال في صلاتك. وغاية المنى أن يصل الإنسان بعد الزيارة إلى ملكوت الحرام.
وينبغي المحافظة على مكتسبات الزيارة بالمراقبة المتصلة التي هي كلمة جامعة لمن يريد السير إلى الله عز وجل كما ورد عن أحد العلماء. فلا تنفع المراقبة التي تقتصر على أيام الحج والعمرة، أو أيام الزيارة. إننا في خصومة شديدة مع الشيطان ولو غفلنا لحظة واحدة لنفذ إلى قلوبنا، كما ينفذ العدو إلى البلاد التي لا تراقب حدودها ولا تحميها. إن الشيطان لا يتوقع منا الغفلة المطبقة، فهذا لن يحصل مع المؤمن الذي له ما له من حالات الذكر في جوف الليل أو في غيره، ولكنه يتربص بنا ساعة الغفلة.
المراقبة المتصلة بعد الزيارة
والمراقبة المتصلة أمر يرتبط بالزائر وثمة أمر آخر مرتبط بالمعصوم وهو التوسل به والتضرع إليه وتوديعه بانكسار. خاطب الإمام وقل له: صيرني من همك لتكون في عين رعايته أينما كنت في هذا العالم ولو كنت في أوروبا أو أميركا مثلا. ولو أصبحت من هم الرضا (ع) لنظر إليك نظرة ولائية من سنخ تلك النظرة التي نظر الحسين (ع) بها إلى الحر، فتاب الله عليه. ألسنا نقرأ في وداع الأئمة (ع): (يا ولي الله إن بيني وبين الله عز وجل ذنوبا قد أثقلت ظهري ومنعتني من الرقاد وذكرها يقلقل أحشائي)[٤]. اذكر المعاصي والآفات التي ابتليت بها من الحسد والكبر والحقد وغلبة الشهوة وغيرها كما تذكر أمراضك وتريد من الإمام أن يشفيك منها.
إن الإمام يُكرمك بنجاح طلبت من شفاء مرض أو سد حاجة مالية أو الحصول على زوجة وما شابه ذلك ولكن ليس هذا كل شيء ولا ما ينبغي أن يكون من أكبر همك. لقد بُعث النبي الأكرم (ص) ليتمم مكارم الأخلاق، فاطلبها عند المعصوم. واطلب منهم أن يستنقذوك كما تقرأ في زيارة البقيع: (هَذَا مَكَانُ مَنْ أَسْرَفَ وَأَخْطَأَ وَاِسْتَكَانَ وَأَقَرَّ بِمَا جَنَى وَرَجَا بِمَقَامِهِ اَلْخَلاَصَ وَأَنْ يَسْتَنْقِذَهُ بِكُمْ مُسْتَنْقِذُ اَلْهَلْكَى مِنَ اَلرَّدَى)[٥].
هكذا زر الرضا (عليه السلام)
يتحدث بعد الزوار الذين يمكثون أحيانا شهرا عند الإمام (ع) عن الأماكن السياحية التي زاروها والمصائف التي قضوا فيها أوقاتا ممتعة والطعام الهنيء وما شابه ذلك. ولكن للأسف الشديد لا نجد من يتحدث عما تعلمه من سيرة الرضا (ع). لماذا لا يستثمر الزائر وقت الاستراحة في محل الإقامة لقراءة كتاب في سيرة الرضا (ع) مثلا؟ فإن لم تملك مالا على سبيل المثال لشراء الكتب، فابحث في جوالك الذي قد أتم عليك وعلى جميع البشر الحجة…! لا تحتاج اليوم أن تصطحب معك مجلدات ضخمة في الطائرة؛ بل يكفي أن تبحث في هاتفك لتجد أمهات الكتب بكبسة زر أمامك. اكتب: سيرة الإمام الرضا (ع) من كتاب البحار أو من كتاب عيون الأخبار واقرأ عنه واقرأ كلماته.
كلمة رضوية منقوشة في الحرم
إن من كلماته التي زُين بها الحرم الشريف، ما روي عنه (ع): (مَنِ اِسْتَغْفَرَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَنْدَمْ بِقَلْبِهِ فَقَدِ اِسْتَهَزَأَ بِنَفْسِهِ)[٦]. والسفيه هو الذي يسخر من نفسه، فلو رأيت أحدا يأكل خبزا يابسا مثلا ويقول: إنني أتناول اللحم الطري، لشكك في صحة عقله، وهكذا الذي يستهزئ بنفسه بالاستغفار والعودة. فهو المستهزئ وهو المستهزَئُ منه.
من هؤلاء الذين يستهزئون بأنفسهم؛ من ينظر إلى النساء في الجامعة أو في الأسواق أو في الهاتف ثم يستغفر الله عز وجل. لا يُمكن أن تعتكف على الحرام إلى الصباح، ثم تستغفر الله ثم تعود ليلا، وكما يُقال: عادت حليمة إلى عادتها القديمة.
خلطنا بين اللسان والجنان وبين الجوارح والجوانح
إننا خلطنا بين اللسان والجنان وبين الجوارح والجوانح. ثمة أمور جوانحية أو قلبية كالحب. فإذا قلت لزوجتك التي تعلم أنك تكرها: إنني أحبك، فستقول لك: أ تستهزئ بي؟ لو قلتها ألف مرة لما صدقتك ما لم تبين لها ذلك عمليا من خلال شراء هدية أو ما شابه ذلك.
إن الحركات اللسانية تشبه الصكوك التي قد كُتب فيها مبالغ كبيرة ولكن من دون توقيع. فهذه الصكوك لا تتجاوز قيمتها قيمة ورقة المنديل. إن استغفارنا وتوكلنا وقولنا: حسبي الله، أتوكل على الله وأمثال ذلك عبارة عن صكوك بلا رصيد، والله عز وجل لا يغش ولا يخدع كما قال عز من قائل: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَخَادِعُهُمْ)[٧].
الاستغفار الحقيقي
ولا يحتاج الاستغفار الحقيقي إلى لفظ يتلفظ به التائب، فيكفيه الندم كما ورد في مناجاة الإمام زين العابدين (ع): (إِلَهِي إِنْ كَانَ اَلنَّدَمُ عَلَى اَلذَّنْبِ تَوْبَةٌ فَإِنِّي وَعِزَّتِكَ مِنَ اَلنَّادِمِينَ)[٨]. والصحيفة السجادية مليئة بهذه المضامين وهو كتاب لا ينبغي أن يخلو منه بيت مؤمن. إن القرآن الكريم وكتاب مفاتيح الجنان، لا يخلو منهما بيت مؤمن تقريبا ولكن نحن بحاجة إلى إضافة كتابين مظلومين هما؛ الصحيفة السجادية ونهج البلاغة وهما يتضمنان معاني سامية وجميلة. إذا اشتهى أحد لحما كبابا مثلا، لا يشبعه أن يلهج بحب الكباب؛ بل يذهب إلى المطعم ويشتري. فلا ينبغي أن يخالف اللفظ باطن الإنسان، فيقول: توكلت على الله وعينه على البشر، أو يستغفر الله وهو ينوي معاودة الذنب.
أفضل طريقة لزيارة الرضا (عليه السلام)
إن أفضل طريقة تزور بها الرضا (ع) أن تغتسل بالإضافة إلى غسل الزيارة، غسل التوبة ثم تصلي عنده ركعتين تستغفر الله بعدهما سبعين مرة ثم تطلب من الإمام (ع) الشفاعة وتقول له: وقع لي على هذه التوبة وصيرني من همك واذكرني عند ربك. فإن فزت بهذه الطلبة، فقد فزت بخير الدنيا والآخرة وكنت بألف خير.
خلاصة المحاضرة
- من الأمور التي يستثمرها المؤمن أيما استثمار، شوقه الصادق لزيارة الأئمة (ع) الذي يكون في أعلى مستوياته في ذكرى مواليديهم وشهاداتهم. ترى الرجل يتفاجئ بمولد المعصوم قبل مناسبة ميلاده بيوم أو يومين، فلا تجده إلا في مشهد المعصوم قد أتى به شوقه إليه.
- إن الحركات اللسانية تشبه الصكوك التي قد كُتب فيها مبالغ كبيرة ولكن من دون توقيع. فهذه الصكوك لا تتجاوز قيمتها قيمة ورقة المنديل. إن استغفارنا وتوكلنا وقولنا: حسبي الله، أتوكل على الله وأمثال ذلك عبارة عن صكوك بلا رصيد، والله عز وجل لا يغش ولا يخدع.
- يتحدث بعد الزوار الذين يمكثون أحيانا شهرا عند الرضا (ع) عن الأماكن السياحية والمصائف التي قضوا فيها أوقاتا ممتعة والطعام الهنيء وما شابه ذلك. ولكن للأسف الشديد لا نجد من يتحدث عما تعلمه من سيرة الرضا (ع). لماذا لا يستثمر الزائر وقت الاستراحة في محل الإقامة لقراءة كتاب في سيرة