ان الاهتمام بتربية ذرية صالحة ، يعد من أفضل و أضمن صور الاستثمار ، لو اراد الانسان ان يفكر بمنطق استثماري !.. فان من ابهج عناصر الدنيا ان يرى الانسان ثمرة وجوده واثر تربيته ، يمشي أمامه على وجه الارض ، عامراً للبلاد ومصلحاً للعباد . وخاصة عندما يقترب من نهايته ، فيرى ان دوره على وشك الانتهاء فى الحياة الدنيا ، لتبدأ ذريته بدور جديد من الحركة التكاملية ، والتى تعود اثارها اليه وهو فى القبر ، حيث يتنظر ادنى رصيد يرجح كفة حسناته ، حيث انقطع العمل وبدأ الحساب !!
القرآن الكريم عندما يعبر عن طلب الأنبياء وغيرهم للذرية الصالحة فانه يعبر بلفظ ( الهبة ) ، ومعنى ذلك ان الانسان لا يطلب من الله تعالى هذه العطية الكبرى باستحقاقه ، وانما يريد من الله تعالى ان يتفضل عليه بذلك . فانه مهما بالغ في التربية فانه لا يحقق امانيه بسعيه ، فان خيوط الامر كثيرا ما تخرج عن يده !! .. و يا ترى كم من الفضل العظيم توجه الى ابراهيم بمثل اسماعيل ، والى زكريا بمثل يحيى ، والى مريم بمثل المسيح عليهم السلام .. وكم من المناسب ان يدعو احدنا – بإلحاح – ان يمن عليه بمن يصلح به المسلمون فى مستقبل هذا الزمان ، حيث عز النصير لهذا الدين الذي عاد غريبا كما بدأ غريبا !!
ان ولي الامر فى الاسرة – شاء ام أبى – يعد رأس الهرم التربوي ، الذى بفساده تفسد القاعدة .. فان الولد لا يرى في سنوات تربيته الأولى مربيا سوى والديه . وعليه فليس من الرياء أبداً ان يظهر الأبوان شيئا من طاعاتهما تشجيعا له ، وان يخفيا معاصيهما لئلا يسقطا من عينه ، وخاصة اذا لم يكن يتوقع منهما الولد ذلك .. و من المؤسف حقا ان الولد عندما يكبر ويعود الى رشده ، فانه يحس في أعماق وجوده حالة من الكره لهما ، بحيث يجره الى العقوق جرا ، لما يعيشه فى باطنه من الاحتقار لهما ، و ذلك اذا كانا سببا في افساده !!
ان من الاخطاء التربوية الشائعة هو اكثار الوالدين من النهى والزجر الى درجة تبرم الولد ، وبالتالي الميل الى التمرد على الاوامر ، والحال انه لا بد من تقديم البديل الصالح عند كل نهي .. فالشاب الذي يعيش الفراغ الروحي والفكري ، فانه يتوجه الى كل ما يملأ ذلك الفراغ ، فلا بد من إشباع وقته بما يصلح به امره .. والشاب الذي يأنس مع رفقه السوء ، لا بد من اقتراح من يسد أنسه من الصالحين .. والبالغ الرشيد الذي تدفعه الغريزة الى ارتكاب السوء ، لا بد من السعي لتحصين نصف دينه ، والا اشترك الابوان في وزره كما يفهم من بعض الروايات .
ان من موجبات افساد الاولاد : اختلاف الابوين فى نمط التربية ، اذ ان من الخطأ الفادح ان يتقمص احد الابوين دور الشفيق المدلل ، والاخر دور الحازم القاطع . فان الولد يميل بطبعه الى الاول ، وبالتالي تتحقق فى صغره حالة من الجفوة تجاه الثاني .. ولا بد من الالتفات هنا الى ضرورة التوسط بين حالتى : الدلال والحزم ، فلكل من الاسلوبين حسناته وسلبياته ، ولكل عمر طبيعته الخاصة به ، ولا بد من التفريق بين الخطأ الذي لا يصل الى حد الحرام فيكفي فيه الارشاد ، وبين الخطأ الذي يساوي المنكر فلا بد فيه من الوقوف بحزم وقوة ، والا ذابت هيبة الحرام في نفس الناشىء ، ليتدرج من صغيرة الى كبيرة ، ومن كبيرة الى موبقة !! .
اذا اردنا ان نفترض ضرة للابوين ، فان من يمكن ان يكون كذلك هم أصدقاء الولد ، فان تقارب السن ، واشتراك الاهتمامات ، واتحاد الدوافع الغريزية ، وتهييج وسائل الاعلام المفسدة : كل ذلك من العوامل التي تسوق الولد سوقا الى اتخاذ بطانة سوء ، بهم تذهب أتعاب سنوات من التربية أدراج الرياح .. ومن الغريب حقا ان يجنب الابوان كل ما فيه اضرار بصحته الظاهرية ، بل البعض يبالغ في الاهتمام ببشرة الولد مثلا ، والحال انهما يتركانه لينقش صديق السوء ، ومظاهر الافساد في الشارع : كل مفردات الافساد في نفسه .. ولو كشف الغطاء للعبد لتمنى حرمانه من ذرية ، تكون سببا للتعاسة في الدنيا ، والشقاء في الآخرة !!
ان من المناسب ان يذكر رب الاسرة نفسه ، بان ماله و ثمره كده وجهده في سنوات طويلة ، سيصب اخيرا في حساب ولده ، وخاصة اذا كان هذا المال نتيجة صرف سنوات من ريعان شبابه في اشق المهن كالغوص في البحار، بحثا عن لقمة العيش !! .. أوليس من المنطق ان يفكر الانسان – تفكيرا منطقيا – فيمن سيستلم ثمار سنوات الكدح !.. وذلك في ليلة واحدة : أي ليلة موته لينتقل الى عالم مجهول موحش . والحال ان الولد قد يعيش بتلك الثروة – نفسها – منتقلا من لذة الى أخرى ، ناسيا ان أباه المسكين ، يستصرخه في إهدائه حسنة واحدة من عرق جبينه ، لينقذه من عذاب اليم !!
ان من الملفت حقا ان يكون إنبات بذرة الى مرحلة الاثمار ، محتاجا الى علم وتخصص في سنوات بما يعرف بالهندسة الزراعية ، ليتم التعرف على شيء من أسرار عالم النبات ، و الذي لا يعد شيئا امام تعقيدات النفس الانسانية .. افلا تستحق تربية من هو بمثابة الجزء الذي لا ينفك من الإنسان ، الى دراسة وبحث ولو على مستوى العموميات ؟!.. ولماذا لا نحاول – وخاصة الطبقة المثقفة – ان يكون لنا رصيد يعتد به في هذا المجال ، إذ كيف يمكن تحقيق التربية النموذجية ، من دون علم بأدنى قواعد هذا العلم ، الذي يتناول أعز شيء في عالم الوجود ، الا وهي النفس التي بين الجنبات ؟!
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.