• ThePlus Audio
Layer-5-1.png

كيف يتأسى المبلغ برسول الله (صلى الله عليه وآله)؟

بسم الله الرحمن الرحيم

آية المبلغين

إذا أردنا أن نبحث آية تخص المبلغين وخادمي الشريعة، فهي قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا)[١]. إنها تتضمن جميع مواصفات المبلغ الناجح. وقد نزل القرآن بلغة إياك أعني واسمع يا جارة، وهي وإن كانت تخاطب النبي (ص)، إلا أنها تشمل جميع المبلغين. إنها أوصاف لكل من أراد التأسي بالنبي (ص) في دعوته.

إن الله عز وجل تارة يقول: (إني) وتارة يقول: (إنا). ولو تأملنا في الآيات الشريفة وجدنا (إني) تُستعمل في مقام الدلال والقرب كقول الله عز وجل لموسى (ع): (إِنِّيٓ أَنَا۠ رَبُّكَ فَٱخۡلَعۡ نَعۡلَيۡكَ إِنَّكَ بِٱلۡوَادِ ٱلۡمُقَدَّسِ طُوࣰى)[٢]، ولكنه في مقام العظمة يقول: (إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحࣰا مُّبِينࣰا)[٣].

وهذه الآية الشريفة في مقام التعظيم وبيان أهمية الموضوع، فقال سبحانه فيها: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ). وإن كلمة أرسلناك تتضمن معنى الاصطفاء والانتخاب؛ فالمُرسِل ينتخب المُرسَل أولا، ثم ينتخب المُرسَل إليهم، ثم يجمع بينهما. وإذ شبهنا الأمر بالسفراء في البلدان، فإن السفير ينتخب من بين الطبقة المثقفة، ثم يستسفر. وقد اصطفى الله عز وجل السيدة مريم (س) فقال: (يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ)[٤]. ولابد أن يجعل المبلغ نفسه في دائرة هذا الجذب وهذا الاختيار. وهو سبحانه لم يختر مريما (س) جزافا وإنما اختارها لقابليات فيها. فالذي يُريد أن يكون مبلغاً ناجحاً، لابد وأن يكون في دائرة الاصطفاء الإلهي.

كن شاهدا كالنبي (صلى الله عليه وآله)

كما أن الله سبحانه يصف النبي (ص) بأنه شاهد، يشهد أعمال الأمة؛ كذلك ينبغي أن يكون المبلغ شاهدا على ما يجري من حوله. بالطبع إن شهادة النبي (ص) هي شهادة بالمعنى الخاص وهو قول الله عز وجل: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)[٥]، وشهادة المبلغ هو أن يحضر في المجتمع ولا ينعزل عنه ويشهد ما يجري من حوله. وهو ما روي عن الإمام الصادق (ع): (اَلْعَالِمُ بِزَمَانِهِ لاَ تَهْجُمُ عَلَيْهِ اَللَّوَابِسُ)[٦]؛ فإذا كان المبلغ يعيش في بيئة مغلقة وفي السراديب المظلمة وفي المكتبة في معزل عن الناس لا يعلم ماذا يجري حوله في العالم، كيف يستطيع أن يُغير وأن يكون مؤثرا؟ بالطبع لن يكون كالنبي (ص) شاهدا؛ فالنبي (ص) صاحب علم حضوري والمبلغ صاحب علم حصولي.

ومن صفات النبي (ص) أنه مبشر، والبشارة قبل الإنذار. إننا نجد من الخطباء من خطبه إنذار من بدايتها حتى نهايتها، ولذا نرى من الشباب من يشتكي من هذا الخطيب فيقول: إنه يخوفنا بعذاب جهنم وبالنار ليس إلا. إن الإساس هو عنصر البشارة والجذب، فإن لم تنفع البشارة أضاف إليها الإنذار.

المبلغ العطار…!

وهذا الذي يقال: أن المؤمن بين الخوف والرجاء، لا يعني: أن حالة الرجاء والخوف عنده متساوية وإنما ككفتي الميزان، قد تزيد كفة على أخرى. ولذا على الخطيب أن يرى أي الكفتين قد رجحت ليُعيد التوازن بالخوف أو الرجاء. كالعطار الذي يصف لكل مريض علاجا يختلف عن الآخر. إنني تأتيني رسائل من بعض الأشخاص يذكرون لي فيها مشاكلهم ومعاصيهم التي هم مبتلون بها.

فكتب لي أحدهم ذات يوم: يا فلان، إنه ليس من منكر إلا وقد ارتكبته. كيف يجدر بي التعامل مع هكذا إنسان؟ إذا كان هذا العاصي قد وصل إلى اليأس من رحمة الله عز وجل بسبب معاصيه، فأقول له: إن يأسك من روح الله من أكبر الكبائر، فعد من حيث انحرفت. وأقول له: إن معاصيك الخالقية أشبه بملف تجمع فيه كذا من الجيجابايت فإذا أردت التخلص منه، مسحته بكبسة زر واحدة. إن رب العالمين يجمع لك مخازيك في ملف واحد ويمحوها لك إن طلبت منه ذلك بصدق في مشهد من المشاهد المشرفة عند أمير المؤمنين (ع) أو تحت القبة الشريفة على سبيل المثال.

أداء حقوق الخالق والمخلوق

وأما حقوق الخلق، فرد مظلمة من تعرفه ومن لا تعرفه فردها بعنوان مجهول المالك، فلماذا تتحير بعد ذلك؟ أن هذه الذنوب محصورة عقلا في ذنبين؛ خالقي ومخلوقي. أما الخالقي فعلاجه الاستغفار والندامة، وأما المخلوقي ما ذكرت. هذا وبعض الذنوب التي ترتبط بالمخلوقين كالغيبة لا تحتاج إلى التحلل ممن اغتبته إذا كان يوجب لك مفسدة إضافية. لا داعي للاعتراف له بما قلت خلفه، بل يكفي أن تستغفر الله وتستغفر له الله. وهذه الأمور المبشرة وثمة أمور منذرة.

لا تنذر الغربيين…!

وإنني لا أذكر الإنذار عادة عند السفر إلى البلاد الغربية كضغطة القبر ومنكر ونكير وإلى آخر ذلك. أقول للرجل منهم: أنت تريد السعادة، وهذه السعادة تُسلب منك بارتكاب المعاصي وتكون لك معيشة ضنكا. أنذرهم بمعيشة الضنك، فهذا الذي يؤثر فيهم أكثر من تخويفهم بالنار وما شابه ذلك. قل له: عندما تتزوج زوجة غير صالحة في عفافها أو في حجابها، فلن تتحقق السعادة التي ترجوها من هذه الزيجة. لقد تزوجتها لتسعد معها ولتنجب منها ذرية طيبة وهذا الاختيار لا يُحقق لك ما تريد وهو نقض للغرض. اذكر لهم الآثار العاجلة من ضيق القلب والتبرم وإلى آخر ذلك. فإن لم يكن ممن يؤمن بالأصل بالمبدأ والمعاد والكتاب الكريم، فمن المؤكد أنه يعتقد بهذه المضامين.

هل حصلت على الإذن بالتبليغ؟

وقد قلنا من صفات النبي (ص) أنه داع إلى الله عز وجل بإذنه. وهنا أقول للمبلغين والخطباء: ضعوا خطاً فسفورياً على كلمة بإذنه. فما لم يكن لك إذن فوقاني، فأنت لست مؤهلا للتبليغ. نعم، قد تجد طبيبا حاذقا في عمله من باب الخبرة وكثرة الممارسة لتخصصه ولكنه لا يملك شهادة رسمية ولذلك يمارس المهة في خفاء لأن غير مأذون وإن كان كفوئا في عمله. وهذا ما روي عن الإمام الصادق (ع) حول الخطيب الكفوء غير المأذون: (تَجِدُ اَلرَّجُلَ لاَ يُخْطِئُ بِلاَمٍ وَلاَ وَاوٍ خَطِيباً مِصْقَعاً وَلَقَلْبُهُ أَشَدُّ ظُلْمَةً مِنَ اَللَّيْلِ اَلْمُظْلِمِ وَتَجِدُ اَلرَّجُلَ لاَ يَسْتَطِيعُ يُعَبِّرُ عَمَّا فِي قَلْبِهِ بِلِسَانِهِ وَقَلْبُهُ يَزْهَرُ كَمَا يَزْهَرُ اَلْمِصْبَاحُ)[٧].

إنك تجد رجلا خطيبا على حسب القواعد الفنية ومن أحسن الخطباء ولكن قلبه كالليل المظلم. وتجد في المقابل من يتلجلج ويتلعثم ومن يجهل قواعد الخطابة ولكن يربي الناس بنظراته. يُقال: أن أحد العلماء السابقين ذهب إلى منطقة في شمال إيران المعروفة بجمال طبيعتها، فقال لهم: أنت بحق من أهل الجنة…! فأما بلادكم فهي من أجمل البلاد وهي كالجنة وأما من حيث التكليف فأنت كأهل الجنة لا صلاة ولا صيام…! إنه كان يُعرض بهم بالطبع.

من أين تحصل على الإذن وتجد علامة القبول؟

إن الطبيب أو المهندس يأخذ شهادته وإذنه من الجامعة التي تخرج منها والعالم في الحوزة يزكيه عالم آخر، ولكن من يُزكي الخطيب؟ نجاحه في عمله دليل على إذنه. لقد سألت أحد العلماء الموفقين وكانت له أعمال خير كثيرة، وقلت له: ما علامة قبول الأعمال؟ فقال: نجاح العمل واستمراره. قال لي: إنني لا أعلم الغيب ولكنني إذا وجدت نجاحا في عملي، ففتحت مؤسسة أو حوزة أو مكتبة ثم نجحت، فأعلم أن الله عز وجل قد قبل مني وأذن لي. فالعمل المقبول من الله عز وجل لا يُبتر بحال من الأحوال.

كن سراجا لا قمرا

وقال عز من قائل: (وَسِرَاجًا مُنِيرًا)، ولم يقل: قمرا منيرا، لأن القمر يكتسب نوره من الشمس، ولكن الشمس نورها منها. كالطاهر والمطهر هي الشمس، نيرة ومنيرة والقمر مستنير. وهذه صفة من صفات المبلغ، أن يكون كن كالشمس المنيرة لا كالقمر المستنير. الخطيب الذي يقرأ كتبا من هنا ويلخص مواضيع من هناك ويلفلف المطالب ثم يصعد المنبر، يكون كالقمر لا كالشمس. إذا أردت أن تكون كالشمس، فلابد أن تكون مشرقاً بنفسك.

كيف تكون خطيبا ملهَما؟

لقد نقل لي أحد الخطباء الموفقين جداً من الذين قل نظيرهم بين الخطباء وكان مفسرا للقرآن الكريم لا خطيبا بالمعنى المتعارف، فقال: إنني في ظرف معين صليت صلاة الاستغاثة بالحجة بتكرار إياك نعبد مائة مرة وقلت: يا الله، أعطني قدرة على البيان والخطاب لا أحتاج معها إلى كثير تحضير. إنه طلب من ربه أن يكون سراجا منيرا لا قمرا، وقد نال ما أراد. قال لي: رأيت نفسي أرتقي المنبر وتترا علي المطالب وتأتيني تباعا من دون جهد. وقد قبلت عدة مجالس في عشرة محرم، حيث كنت أخطب كل يوم في أربعة مجالس؛ أي أربعين خطبة في عشرة أيام. وقد فطن أحدهم إلى ما لدي، فقال لي: أ تسمح أن أكون سائقك في هذه الأيام؟ فقلت له: على الرحب والسعة. فقال لي السائق بعد الانتهاء من المجالس كلها: لقد حضرت معك المجالس كلها ولم أرك تُكرر مطلبا إلا المقتل.

إن الأمثال تُضرب ولا تقاس، فلا أتوقع من الخطيب أن يكون كهذا الخطيب الذي ضربت مثله. ولكن لا ينبغي أن يستغني المؤمن عن الإلهام والتسديد والإلقاء في الروع، فهو عالم متاح للصالحين. إن الطريق الطبيعي هو التحضير والاستعداد ثم الاتكاء على الإلهام. إن الشاعر يأخذ ورقة ويكتب خمسين بيتا في مجلس من دون تحضير ويقول: إنني ألهمت هذه الأبيات. إن الذي يُلهم الشعر هو الذي يُلهم النثر. ولهذا يقال: شيطان الشعر أو ملك الشعر بحسب ما يوحى إلى الشاعر.

الخطيب المهدوي

ولو تأمل الخطيب في هذه الفقرات من دعاء العهد: (اَللَّهُمَّ اِجْعَلْنِي مِنْ أَنْصَارِهِ وَأَعْوَانِهِ وَاَلذَّابِّينَ عَنْهُ وَاَلْمُسَارِعِينَ إِلَيْهِ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِ)[٨]، لوجد أنه بدفع الشبهات المهدوية التي تثار هذه الأيام وبتفنيده الادعاءات الباطلة وإبطال المدارس الزائفة يكون متصفا بهذه الصفات.

[١] سورة الأحزاب: ٤٥-٤٦.
[٢] سورة طه: ١٢.
[٣] سورة الفتح: ١.
[٤] سورة آل عمران: ٤٢.
[٥] سورة التوبة: ١٠٥.
[٦] الکافي  ج١ ص٢٦.
[٧] الکافي  ج٢ ص٤٢٢.
[٨] بحار الأنوار  ج٩٩ ص١١١.
Layer-5.png
Layer-5-1.png

خلاصة المحاضرة

  • كما أن الله سبحانه يصف النبي (ص) بأنه شاهد، يشهد أعمال الأمة؛ كذلك ينبغي أن يكون المبلغ شاهدا على ما يجري من حوله. بالطبع إن شهادة النبي (ص) هي شهادة بالمعنى الخاص، وشهادة المبلغ هو أن يحضر في المجتمع ولا ينعزل عنه ويشهد ما يجري من حوله ليصف العلاج بما يناسب واقع الناس.
  • إن الطبيب أو المهندس يأخذ شهادته وإذنه من الجامعة التي تخرج منها والعالم في الحوزة يزكيه عالم آخر، ولكن من يُزكي الخطيب؟ نجاحه في عمله دليل على إذنه. لقد سألت أحد العلماء الموفقين وكانت له أعمال خير كثيرة، وقلت له: ما علامة قبول الأعمال؟ فقال: نجاح العمل واستمراره.
Layer-5.png