الإمام جعفر بن محمد (ع) هو سادس أئمة الهدى (ع)، ولقّب بالصادق لصدقه في مقاله، وهو صاحب أكبر مدرسة علمية عبر العصور، وفضله أشهر من أن يذكر.. ولكننا نحاول أن نستخلص درساً بليغاً في حياته، وذلك ببيان صور تكشف مدى عبوديته لرب العالمين:
– إن من أعظم المكاسب أن يصل الإنسان إلى حالة وجدان نفسه عبداً مملوكاً لله عزوجل، وهي مشاعر باطنية، لا تلمس، ولا تشم، ولا ينكرها إلا من لا عقل له.. مثلها مثل تلك المشاعر التي تنتاب الإنسان في شؤونه الحياتية: مشاعر الأمومة، والزوجية، والوظيفة، وما شابه ذلك.
– إن هذا الإحساس يجعله منضبطاً في سلوكه، مؤدياً لحقوق الخالقية والمخلوقية، يسلم بكل ما جاءت به الشريعة بلا حرج أو تبرم : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}، {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}.. نحن في مقام الاعتراف نقر بأننا عبيد، لنا مالك، ولسنا بأحرار، إذ نقول: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.. ولكن مع الأسف، في مقام العمل هل نحن نعيش حالة العبيد !..
ولكن الذي يدعي العبودية، لابد وأن يقدم شهادة إثبات، كما هو ديدن أولياء الله، وأنبيائه على مر التأريخ، حيث كانوا يقدمون قرابين تثبت تلك العبودية الحقة لله عزوجل.. فهل فكرت يوماً ، ما هو القربان الذي تثبت فيه أنك عبدٌ لله تعالى؟!..
– من صور العبودية في حياة إمامنا الصادق (ع) :
* أنه (ع) كان يركز على أهمية الصلاة.. حتى وهو في حال الاحتضار وعند الموت، جمع جميع أقاربه ثم نظر إليهم وقال: (إن شفاعتنا لا تنال مستخفاً بالصلاة).
* لقد كان يعيش حالة الإنابة الدائمة لله عزوجل، ويتضح ذلك جلياً في نقش خاتمه: (ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، أستغفر الله(.
* وكذلك كان يعيش حالة التسليم بين يدي الله، وهذه الرواية مصداق لذلك: قال موسى بن جعفر (ع): نُعي إلى الصادق جعفر بن محمد (ع) ابنه إسماعيل بن جعفر، وهو أكبر أولاده، وهو يريد أن يأكل وقد اجتمع ندماؤه، فتبسم ثم دعا بطعامه، وقعد مع ندمائه، وجعل يأكل أحسن من أكله سائر الأيام، ويحثّ ندماءه، ويضع بين أيديهم، ويعجبون منه أن لا يروا للحزن أثرا، فلما فرغ قالوا: يا بن رسول الله .. لقد رأينا عجباً، أُصبت بمثل هذا الابن، وأنت كما نرى؟.. قال: (وما لي لا أكون كما ترون، وقد جاءني خبر أصدق الصادقين: أني ميت وإياكم، إن قوما عرفوا الموت فجعلوه نُصب أعينهم، ولم ينكروا من تخطّفه الموت منهم، وسلّموا لأمر خالقهم عز وجل( .
– وقد (ع) كان يجمع بين حقوق الخالق وحقوق المخلوق:
* فترى في هذه الرواية مدى عطفه على الأمة: خرج الصادق (ع) في ليلة قد رشّت السماء، وهو يريد ظلّة بني ساعدة، فاتّبعته فإذا هو قد سقط منه شيء، فقال: بسم الله، اللهم ردّه علينا!.. قال: فأتيته فسلّمت عليه فقال: معلّى؟.. قلت: نعم، جعلت فداك!.. فقال لي: التمس بيدك، فما وجدت من شيء فادفعه إليّ.. قال: فإذا أنا بخبزٍ منتشر، فجعلت أدفع إليه ما وجدت، فإذا أنا بجراب من خبز، فقلت: جُعلت فداك أحملهْ عليَّ عنك، فقال: لا، أنا أولى به منك، ولكن امض معي!.. قال: فأتينا ظلّة بني ساعدة، فإذا نحن بقوم نيام، فجعل يدسّ الرغيف والرغيفين تحت ثوب كل واحد منهم، حتى أتى على آخرهم ثم انصرفنا.. فقلتُ: جعلت فداك!.. يعرف هؤلاء الحق؟.. فقال: لو عرفوا لواسيناهم بالدّقة!.. والدّقة هي الملح .
*وهذه الرواية تدل على مدى علاقته وارتباطه بالخالق سبحانه وتعالى: قال الراوي: كنت مع الصادق (ع) بالمدينة وهو راكب حماره، فنزل وقد كنا صرنا إلى السوق أو قريباً من السوق، فنزل وسجد وأطال السجود وأنا أنتظره، ثم رفع رأسه.. قلت: جعلت فداك!.. رأيتك نزلت فسجدت!.. قال: إني ذكرت نعمة الله عليّ، قلت: قرب السوق، والناس يجيئون ويذهبون؟.. قال: إنه لم يرني أحد.
* وهذه الرواية تظهر شدة رأفته ورحمته بالجواري والضعفاء: دخل سفيان الثوري على الصادق (ع)، فرآه متغير اللون فسأله عن ذلك فقال: كنت نهيتُ أن يصعدوا فوق البيت، فدخلتُ فإذا جارية من جواري ممن تُربي بعض ولدي قد صعدت في سلم والصبي معها، فلما بصرتْ بي ارتعدتْ وتحيّرتْ وسقط الصبي إلى الأرض فمات.. فما تغير لوني لموت الصبي، وإنما تغير لوني لما أدخلتُ عليها من الرعب!.. وكان (ع) قال لها: أنت حرة لوجه الله، لا بأس عليكِ.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.