إن من الحكمة الإلهية أن جعل التكامل بشكل تدريجي ، ففي عالم الأجنة هناك العلقة ، والمضغة … ، وفي عالم النبات هنالك البذرة ، والساق ، والأوراق… ، وكذلك فإنه في عالم الأرواح هنالك قانون التدرج.. أي أن تكامل الأرواح هو أيضاً له مراحل ، إلا ما ورد ذكره من النوادر التي ذهبت مثلاً في التأريخ ، مثل ذاك الذي كان على أسطح المنازل في جوف الليل، حيث الناس في عبادتهم وهو كان يتلصص ، وإذا به سمع نداءً خفياً : {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} ، فصرخ صرخة في باطنه : بلى قد آن ، وتحول إلى عابد من العباد.. وكذلك كان بشر الحافي ، الذي ركض وراء إمامنا موسى بن جعفر(ع) حافياً ، حيث انقلب رأساً على عقب في لحظة واحدة ، من قمة في الضلال إلى قمة في الهدى.. إن هذه من النوادر ، وإلا فالبناء الطبيعي هو التدرج في التكامل .
– من المعلوم أنه في عالم النبات أن فصل الربيع ثلاثة أشهر ، كذلك أيضاً بالنسبة للأرواح فإنه ربيعها هذه الأشهر المباركة الثلاث : رجب ، وشعبان ، ورمضان ؛ إذ الملاحظ في هذه الأشهر هو كثرة العبادة والذكر صباحاً ومساءً ..
فإذن، إن المؤمن ربيعه هو هذه الأشهر الثلاث ، فتراه يسعى جهده بدءاً من شهر رجب ، استعداداً لاستقبال الضيافة الإلهية الكبرى في شهر رمضان ، فيستثمر أوقاته أيما استثمار ، ليظفر بأمنية الأماني وهي رضوان الله عزوجل ، فهو لا يقنع بمجرد المغفرة ، فتلك أمنية الضعاف أصحاب الهمم غير القوية .
– بمناسبة ميلاد إمامنا الجواد (ع) ، لنا أن نقف وقفة مع أنفسنا لنفكر كيف نتأسى بإمامنا الجواد (ع) في صفة الجود.. إن للجود ثلاثة أقسام :
* الجود بالمال : وهو أقسام ، ومنه الجود بالمقدار الواجب من المال ، وهو في حد ذاته لا يعد جوداً ، بل هو حق الله ورسوله : {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ}.. ومن المعلوم أن إخراج الخمس من موجبات المغفرة والرضوان الإلهي ، والبركة والنماء في المال ، والتخلص من الأمراض المفاجئة والموت المفاجئ .
* جود بالنفس : الإنسان المؤمن إذا وصل إلى مرحلة من التكامل ، فإنه يرى بنظرة دقيقة فاحصة أن ذهاب نفسه في سبيل الله لا يعد جوداً ، بل أنها صفقة رابحة ؛ إذ أن هذه النفس المحبوسة في ضمن إطار البدن والجوارح ، تتحرر وتصعد عند مليك مقتدر .
*الجود بالطاقات : وإذا لم يمكن بذل النفس في سبيل الله ، فإنه بإمكان كل إنسان أن يصب ما لديه من طاقات في رضا الله عزوجل.. ومن مصاديق قوله تعالى : {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} هو توجيه الطاقات والقدرات في سبيل الله ، بأن يجعلها من أجل بناء المجتمع الإسلامي الذي يريده صاحب الأمر (ع) ، من قضاء لحاجة مؤمن ، ونشر لهدى في أمة ، وتفريج لكربة مكروب ، وإغاثة لملهوف وغير ذلك من وجوه البر.
– إن أئمتنا (ع) هم أعلام الهدى ، ومنابر النور ، وأن أرواحهم طاهرة ومقدسة ، وهي مظهر لتجلي الصفات الإلهية ، سواء إن كانوا في عهد الصبا أم في عهد الرجولة ، فإن هذا من عوارض البدن وهم الذين كانوا أنوار محدقة في العرش.. ومن هنا لا غرابة في كون إمامنا الجواد (ع) تسلم مقاليد الإمامة وهو في سن التاسعة.. ولم نجد نفيراً من شيعته ومحبيه ، حيث كان الأمر طبيعياً جداً.. وهو عندما كان يقف موقف الفتيا والحديث ، فإنه لا يكاد يميز بينه وبين أبيه الرضا (ع).. إذ كيف أن المسيح عيسى (ع) يتكلم وهو في المهد ، إمامنا الجواد كذلك ، حيث كان يبهر قلوب الناس والعلماء ، عندما يتحداه المتحدون في مسألة فقهية وغير ذلك .
فإذن، ينبغي علينا أن نلتفت إلى هذه الحقائق النورية في زيارتنا لهم (ع) ، حيث لا فرق في أرواحهم (ع) ، بين أن نتوسل بهم أينما كانوا ، وفي أي جهة ، وعلى أية حالة ، فإن البدن ما هو إلا دابة ، بينما هذه الأرواح المقدسة كانت موجودة قبل خلقة آدم وبعدما خلق : (كنت نبياً وآدم بين الماء والطين) .
– بعد أيام نحتفل بميلاد علي (ع) ، ولنا أن نقف وقفة أخرى مع النفس أنه كيف نتأسى به (ع) ، وهو صاحب تلك الروح العظيمة.. الذي لم ينس حتى قاتله (لع) ، حيث أشركه في طعامه.. وهو الذي طوى ثلاثاً هو والزهراء ، حيث قدم قوته لذلك للفقير والمسكين ، بل أيضاً حتى ذلك الأسير الذي لم يكن مسلماً لم يرده صلوات الله وسلامه عليه.. فكيف يهملنا ونحن الذين نحمل له هذا الحب الجامح، ومنذ أن ولدتنا أمهاتنا نهتف باسمه، ونفرح لمولده، ونبكي في استشهاده ؟!.. فكيف يتركنا في عرصات القيامة في حالة العطش والخوف والهلع والجزع؟!.
– إن علياً (ع) هو الشخصية الوحيدة في تأريخ البشرية الذي أعطاه الله عزوجل هذه المزية الكبرى التي لم يكتبها لأحد ، من لدن خلق آدم إلى أن تقوم الساعة.. حيث أراد الله تعالى أن يجعل حياة علي (ع) بين البيت والبيت.. ولادة في الكعبة ، واستشهاداً في مسجد الكوفة.. ومعنى ذلك أن حياة علي ، حياة التوحيد.. حياة علي ، حياة تحطيم الأصنام ، أياً كان صنماً مادياً أو معنوياً .
– إن الولاية لا تنحصر بالفكر والاعتقاد : بأن يًعتقد أن الوصي والخليفة هو علي (ع).. ولا بالمشاعر القلبية : بأن نهتف باسمه ، ونفرح يوم ميلاده ، ونحزن يوم استشهاده.. ليس الأمر ليس كما يقول السيد رضا الهندي (رحمه الله) : سودت صحيفة أعمالي — ووكلت الأمر إلى حيدر..
إذ إن هناك حركة ثالثة وهي أن يشايع علياً (ع) قولاً وفعلاً ، أن يضع قدمه على قدم علي ، أن ينظر إلى ما قاله علي وأولاده في كل شأن ويتبع سنتهم.. ومن هذه السنن أنهم في زمان الغيبة جعلوا هنالك حلقة بين الأمة والأئمة ، ألا وهم مراجع التقليد : (من كان صائناً لنفسه ، مطيعاً لمولاه ، مخالفاً لهواه ، فعلى العوام أن يقلدوه).
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.