التأثير على الآخرين..
إن هنالك مُفارقة بين سلوكيات الآباء والأبناء، فالأبّ قد يكون في درجةٍ عالية من الإيمان؛ ولكنه مشغولٌ بعالمه، حتى أن أسرته لا تستفيد من هذا الإيمان!.. والغريب أن البعض له تأثيرٌ تربوي على الآخرين، وله القدرة على التغيير وعلى الوعظ والنصيحة؛ أما أسرته فلا!.. فهو بذلك كالمصباح الذي يُضيءُ ما حوله إلاّ قاعدته. ولكن هذا الأمر من موجبات المساءلة يوم القيامة، يقول تعالى في سورة “التحريم”: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾، الآية لم تذكر المجتمع؛ لأن من أصلحَ نفسه وأهله فمجموع هذه الجهود تؤدي إلى صلاح المجتمع. ولكن المشكلة هي أن البعض لا يلتفت إلى هذه الآية المذكرة ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾!..
مراحل حياة الأبناء..
يجب على الإنسان أن ينظر إلى حياة الطفل من ولادته إلى أن يتخرج ويتزوج ويُصبح على مستوى الإنسان من حيث الشخصية والتفكير. صحيح أن بعض الأولاد قد يفوقون آبائهم خبرةً وفهماً، فالولد قد يرقى المنبر ووالده يستمع إليه؛ ولكن حياة الأولاد تمر بمراحل، فقد جاء في الحديث الشريف عن النبي (صلی الله عليه): (الولدُ سيدُ سبعِ سنين، وعبدُ سبعِ سنين، ووزيرُ سبعِ سنين).
المرحلة الأولى: إن الطفل إلى سبع سنوات ليس له ذلك الوعي، في هذه المرحلة رب العالمين رفع عنه القلم، لذا يجب تركه في هذه الفترة وعدم التضييق عليه!.. بينما هناك من يضرب الطفل الصغير على أمرٍ تافه لا يستحق، بسبب كسره متاع أو لقوله كلمة لا يعلم معناها!.. وقد يكون الضرب انتقاماً ومن باب تفريغ الغضب الداخلي: كأن يقوم الطفل غير المُكلّف بحركة مثيرة أمام الأب الذي تعرض في ذلك اليوم إلى خسارة في تجارته، وإذا به يصب غضبه عليه. أو عندما يختلف الزوجان وإذا بالزوجة تصبُّ غضبها على الأطفال؛ فالزوجة تنتقم من زوجها من خلال الولد والعكس أيضاً. لو أن الله عز وجل رأى من المصلحة أن يُقدِّم سنوات التكليف لقدَّمها، فهو رفع القلم عنه وأنت لا ترفع القلم؟.. ولكن ليس معنى ذلك الانفلات الكامل؛ كأن:
١. يذهب الأب مع ولده الصغير إلى المسجد، أو إلى بيوت الآخرين، وإذا بهذا الطفل يتلف الأموال، ويعمل ما يُزعِج الناس، ويتركه يعبث بما يشاء بدعوى أنه طفل!..
٢. يُطعُمه طعاماً مُحرّماً.
٣. يتركه في الغرفة يستمع لأنواع الغناء المحرم، فبعض الأفلام المخصصة للصغار فيها موسيقى محرمة. يجب الحذر من بعض الفضائيات المتخصصة بالأطفال.
إن هذا المعنى مرفوض، فعدم الاهتمام بهذه الأمور يجعل الطفل مشبعاً بالمحرمات!.. فهذا الطفل عندما يبلغ يأنسَ بكل ما هو محرم؛ لأنه كان يستمع غناءً مُحرماً مُطرباً، ويأكل حراماً، ويتلف مال الغير!.. لذا من أراد ولدا مميزاً وذرية مميزة؛ عليه المراعاة والانتباه!..
المرحلة الثانية: وهي سنوات ما قبل المراهقة إلى ما قبل البلوغ، فبلوغ البنت بلوغ مبكر، أما بلوغ الولد فإنه يتأخر عن ذلك. في هذه المرحلة يجب على الآباء الاستعداد لبرنامج تربوي مُكثَّف على الأقل قبل سنة من سن التكليف. فبعض الآباء يتفاجأون ببلوغ أبنائهم، ولهذا بعض الآباء يشتكون من تمرد بناتهم: على الحجاب فهي تلتزم يوما وتترك يوماً، وعلى الصيام الذي لا تتحمله، وعلى الصلاة التي لا تلتزم بها. بعض البالغات التاركات للصيام يعلمنَ أنَّ الصيام واجب، فتحلّ عليهن كفارة الإفطار العمد. فالفتاة التي لم تصم إلا عندما وصلت إلى سن الخامسة عشرة، فهذا يعني أنه عليها قضاء قُرابة مئتي يوم، بالإضافة إلى دفع الكفارة الذي هو مبلغ مالي مُرهِق.
فإذن، قبل بلوغ الولد أو البنت بسنة أو سنتين، يجب أن يعقد الزوجان اجتماعا، فهذا الاجتماع أهم من الاجتماعات التجارية التي يعقدها الوالد دائماً لأجل المال، ولكنه ولا يوم من الأيام عقد اجتماعاً طارئاً لأجل أولاده!.. إذ لابد أن يكون هناك جلسات منتظمة مع الأم لمناقشة شؤون الأسرة. فالزوج قبل شهر رمضان المبارك يذهب إلى الأسواق لإحضار أنواع الحلوى والطعام للمنزل، فالأمور المهمة هي ما يخص البطن؛ أمّا ما يَهمّ الفِكر والتربية فكلنا مُقصرّون. هذه السنوات التي هي ما قبل البلوغ، يجب إفهام الأبناء فيها أن هذه مرحلة الانتقال من الطفولة إلى سنوات البلوغ، وأنَّ قلم التكليف حلّ عليهم، إذ لا فرق بين البنت في التاسعة والعجوز في التسعين. شرعاً هذه البنت مع تلك العجوز على حدٍّ سواء، فساعة بعد التكليف حكمها حُكم هذه المرأة الكبيرة.
المرحلة الثالثة: وهي مرحلة ما بعد البلوغ إلى سنواتِ الرُشد -التكليف بالنسبة إلى الفتاة يكون عند بلوغ سن التاسعة، أما بالنسبة إلى الولد فإن البعض يعتقد أنّ البلوغ يكون مع إكمال الخامسة عشرة، ولكن مع هذه الفضائيات والمواقع المثيرة البعض يبلغ في الحادية عشرة أو في الثانية عشرة. فلعل هذا الصغير الذي لا تعترف به صارَ بالغاً وأنت لاتدري- في هذه المرحلة يعاني الآباء من مشكلة المراهقة وفوران الغريزة لدى الأبناء. وهذه الغريزة والشهوة ليست أمراً وهمياً؛ بل هي أمرٌ مادي، إذ يوجد غدد في المخ وأعضاء في البدن تُحفَّز بعض الأوقات. لذا فإن النصيحة والكلام لا ينفع عند ارتفاع منسوب الشهوة في الدم، فهذا ينطبق عليه بيت الشعر القائل:
أَلْقَاهُ فِي اليَمِّ مَكْتُوفًا وَقَالَ لَهُ *** إِيَّاكَ إِيَّاكَ أَنْ تَبْتَلَّ بِالمَاءِ
إن الولد الذي يكون من الصباح إلى الزوال في حال تحفز غريزي، ثم يأتي الأب ويأخذ بيد هذا الولد إلى خطبة الجمعة؛ فلن يكون هناك أي تأثير لهذه الخطب، بل إن أي كلام يذهب أدراج الرياح، فهو كمن يصبُّ إبريقا على نارٍ هائلة!.. هذه الشهوة المشتعلة لا ينفع فيها كلام مثل: هذا لا يجوز، هذا حرام، هذا عاقبته نار جهنم والحيات والعقارب؛ هذا الكلام لا يؤثر في الولد.
فإذن، إن هذه الفترة -فترة البلوغ إلى سنة الرُشد- فترة مصيرية جداً!.. ولهذا فإن معظم الجرائم الأخلاقية تتركز في سنوات ما قبلَ التخرّج من الثانوية العامة. إذ كثيرٌ من الجرائم والانحرافات الأخلاقية تقع في هذه الفترة، حيث الشهوة على أوجّها وليس هنالك ما يُطفئها؛ لذا لابد للأبوين في هذه الفترة من العمل الدائب، وذلك من خلال:
أولا: تجنب مُثيرات الفتن.. هذه قاعدة طبيعية، فالصائم في شهر رمضان المبارك يكون قانعاً صابراً على الصيام؛ ولكن إن ذهب إلى بعض المطاعم -مثلا- أو إلى المطبخ، وشُمّ رائحة الطعام الشهيّ، فإنه يرى في نفسه ميلاً للطعام، هو صائم لا يأكل ولكنه يُنهي ذلك اليوم ويتم الصوم بشيء من المعاناة، بخلاف الإنسان الذي لا يشم طعاماً ولا يرى شيئاً. نفس القاعدة تنطبق على الغرائز: فمن أراد أن يُجنّب ولده الحرام، لا يأخذ بيده إلى مواقع الحرام، كالآباء الذين يأخذون بيد أولادهم المراهقين إلى بلادٍ لا تعرف العفة، إذ إن بعض البلدان لديها ما يسمى بيوم التعري، يخرج الناس كأنهم الحيوانات ليست عليهم قطعة من اللباس؛ هل هذا المكان مزار يذهب إليه؟.. بعض المقيمين في تلك البلدان يهربون من ذلك البلد، لا يتحملون أن يكونوا في مدينة تقام فيها هذه المراسم. أهل البلد يهربون، وأهل البلاد الإسلامية تذهب إليها!.. يجب مراقبة التلفاز والمواقع وكل ما هو مثير بما أمكن.
ثانياً: الحرص على حلية الطعام.. يجب أن يكون الإنسان حريصاً على طعام الولد في هذه الفترة؛ لأنه يؤثر على سلوك الأبناء. فمن أهم الوظائف في هذه الفترة أن يُجنّب الآباء أولادهم هذه المؤثرات.
ثالثاً: السعي.. إن نبي الله نوح (عليه السلام) ما كان مقصراً في تربية ولده، وإنما كان معصوماً، وهو (عليه السلام) أكبر مُربٍّ على وجه الأرض لديه خبرة تسعمائة وخمسين عاما، يقول تعالى: ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا﴾، فالإنسان الذي يُدرّس لمدة عشر سنوات يصبح خبيرا؛ فكيف بنبيّ الله وقد مارس التبليغ هذا العمر المديد؟!.. ومع ذلك بعد انتهاء هذه السنوات الكثيرة، لم يؤثر نوح (عليه السلام) على ولدهِ ﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾، نوح (عليه السلام) أدى ما عليه. فإذن يجب على الإنسان السعي ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى﴾ بغض النظر عن النتيجة.
رابعاً: الصداقة.. آن الآوان في هذه المرحلة كي يكون الأب صديقاً لولده؛ أي يكون هناك بينهما مؤانسة. فمعظم الآباء لا يكلمون أولادهم إلاّ في الجانب الوظيفي وفي الجانب المالي، وبعد زواج الأولاد يذهبون عنهم بعيداً، ثم بعد ذلك قد يكون هناك لقاء عابر في نهاية الأسبوع، وبذلك ينتهي دورهم في حياة الأولاد. فهؤلاء ليسوا أصدقاء لأولادهم!.. إذ إن أغلب الأبناء يبثّون همومهم لأقرانهم، فإذا كان الولد منضبطاً فإنه يبث همومه لإمام المسجد أو لأستاذه. هنا يجب على الأب المبادرة فهو أحرص الناس على ابنه؛ فلمَ يجعله يذهب ليعترف بذنوبه أمام الغير!.. فلو اعترف بمعصيته أمام والده فإن الأمر سيكون أهون؛ لأن الأب شفيق يستر عليه، ويبحث له عن حلّ. لذا ينبغي أن يكون الأب صديقا لابنه ومراقبا له، عليه أن يجمع بين المُراقبة والصداقة. ولكن هنا لابد من ملاحظة مهمة: فالابن الذي يرى خِلافاً عميقاً بين والده وأمه في هذه السنوات؛ فإنه لا يأنس برأي أبويه؛ لأنه يرى أن الأب لو كان تربوياً ناجحاً لَما ظَلمَ أمه!.. لِذا يجب تحاشي كلّ خلاف زوجي أمام الأولاد، فهذا الأمر يُفقد الأب موقعه في الأسرة كأب تربوي مؤثر.
المرحلة الرابعة: بعد سنوات الرشد هناك مشكلة أخرى جديدة؛ فالولد عندما:
أ- كان طفلاً صغيراً؛ كانت مشكلته كسر آنية الغير.
ب- صار مكلفاً؛ صارت المشكلة في الصلاة والصيام.
ج- صار بالغاً؛ صارت مشكلته الشهوة.
د- يذهب إلى الجامعة تأتي المشكلة الفكرية، فهو قد يقرأ مقالاً في هذه الشبكة العنكبوتية، أو يسمع برنامجاً يُشككّ في:
١. أصول الدين: إن هنالك حركة دائبة للتشكيك في العقائد المسلمة، فالأعداء يكفيهم التشكيك في:
أ- المبدأ: إذ يكفي أن يشكّكوا في المبدأ، كالنظرية الداروينية، والتكامل في الطبيعة، والخلية المتكاثرة، والعقل الطبيعي؛ ويجعلون كل ذلك في مقابل الله عز وجل.
ب- الأنبياء: يشكّكون في عُصمة الأنبياء ببعض المتون التي لا نقبلها.
ج- القرآن: البعض كتبَ كتاباً يوحي بأن هناك تناقضا في القرآن الكريم. والقرآن أجلّ من ذلك، فهو كتابٌ ناطق بالحقّ؛ ولكن ربّ العالمين ينوّع في التعبير، فمثلاً في هذه الأية: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾؛ من القابض: رب العالمين أو ملك الموت؟.. يأتي بمثل هذه الشُبه.
٢. فروع الدين: إن الولد يعيش تحت وابلٍ من المُشكّكات إلى أن يصل إلى فروع الدين، مثل:
أ- الطهارة: فلا يقتنع بأن الطهارة تكون بالماء، يقول: هذا الدم إذا جعلت عليه كحولاً معقماً فهو مُطهِّر، ومن يقول خلاف ذلك هو متخلف؛ أيّهما أقوى في التطهير: الماء أو المُعقِّم الكيميائي؟!..
ب- الشعائر: يذهب إلى الحج فيستنكر الشعائر، قائلاً: ما هذه الحركات؟.. ما هذا الرمي؟.. لماذا تذبحون وترمون الذبيحة كي تتلف؟..
ج- التقليد: يبدأ يشكك في كل الجزئيات حتى في التقليد يقول: أنا عربي اللسان، أقرأ الآية والرواية وأستنبط حكماً شرعيّاً!..
فإذن، إن هذه المرحلة من حياة الأولاد خطيرة جداً!.. فالإنسان عبارة عن عواطف وجوارح وفكر: الجوارح تنتهي بانتهاء أيام المراهقة، والعواطف يُسيطر عليها بعد البلوغ؛ أما مشكلة الفكر فماذا نصنع بها؟..
إن زماننا هو زمان الفِكر، ومع ذلك فإن البعض منّا إلى الآن لم يقرأ كتابا في العقيدة. فالمعتقدات التي يؤمن بها والتي هي: الله ربي، الكعبة قبلتي، القرآن كتابي؛ هذه الأمور تعلمها أيام الطفولة، أما وهو كبير السن فإنه لم يقرأ كتاباً واحداً في العقائد!.. علماً أن العلماء -هذه الأيام- جعلوا في كل مرحلة كتابا في العقائد، وهناك كتب معمقة تدرس في الحوزات. فمن المرحلة الابتدائية إلى الحوزات هنالك مناهج عقائدية، لم لا يقرأ الإنسان هذه المناهج من خلال الالتحاق بالدورات الصيفية؟!.. فهذه الأيام كل واحد منا مطلوبٌ منه، سواء كان طبيباً أو مهندسا أو تاجراً، أن تكون له فكرة أولية حول هذه الأمور.. وعلى فرض أن الولد عبقري وفيلسوف كبير يحتاج إلى فيلسوف مثله؛ فليأخُذ بيده وليذهب به إلى الحوزات العلمية، أو إلى عالم من العلماء ليطرح عليه تساؤلاته. إذ لابد من مراقبته فكرياً.
الدرس العملي:
أولاً: بذل الجهد.. من أراد ذرية مميزة إيمانية كما ورد في الآية ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾؛ لابد أن يسلك الطريق الطبيعي في هذا المجال. فكما يُفهَم من بعض الروايات فإن العالَم عالم الأسباب، جاء في الحديث الشريف: (أبى الله أن يجري الأمور إلا بأسبابها). هناك رواية طريفة عن أبي عبدالله (عليه السلام) حيث يقول: (أربعة لاتستجاب لهم دعوة: رجل جالس في بيته يقول: اللهم!.. ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالطلب؟!.. ورجل كانت له امرأة فدعا عليها، فيقال له: ألم أجعل أمرها إليك؟!.. ورجل كان له مال فأفسده، فيقول: اللهم ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالاقتصاد، ألم آمرك بالإلاصلاح؟.. ثم قال: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾، ورجل كان له مال فأدانه بغير بينة، فيقال له: ألم آمرك بالشهادة)؟..
فإذن، من أراد الخلاص من الزوجة؛ عليه أن يطلّقها. ومن أراد المال؛ عليه أن يسعى. ومن أراد أن يسترد ماله؛ عليه أن يكتب. وكذلك من أراد ذرية صالحة؛ عليه أن يسعى في تربيته، لا أن يتركه مع الأمواج والرياح وفي جوف الليل يقول: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾؛ هذا الدعاء لا يستجاب!.. عليه أن يكون كالزارع الذي يجعل البذرة في الأرض، ويحرثها؛ ثم يرفع يديه إلى السماء قائلاً: يا رب أنزل علينا الغيث!.. يقول تعالى: ﴿أَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾، ﴿أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ﴾.
ثانياً: الدعاء.. يجب الالتزام بهذا الدعاء القرآني ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾ خاصة في مواطن الاستجابة، ينبغي للإنسان أن يجعل سهماً لأولاده ولذريته في دعائه. فهذه الآية فيها مضامين راقية، فهي تتحدث عن صفة من صفات عباد الرحمن، في آخر سورة الفرقان يقول تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾. فمن يحب أن يكون مميزاً في هذا الوجود، عليه أن يجعل في نفسه صفات عباد الرحمن بعد البحث فيها. وفي ختام صفات عباد الرحمن يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾.
-﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ﴾: الفعل مضارع. ليس قالوا في يوم من الأيام؛ بل ﴿يَقُولُونَ﴾. المؤمن يجعل هذه الآية في صلاة الليل من ضمن قنوت دعاء الوتر بعد الاستغفار. وإذا ذهب إلى الحج والعمرة، أو إلى الحائر الحسيني (عليه السلام) يجعلها من الأدعية الثابتة.
-﴿هَبْ لَنَا﴾: يا رب أنا أديت ما عليّ؛ ولكن عملي ناقص فـ﴿هَبْ﴾؛ أي أعطني بلا جهد. أنا بذلتُ جهداً، وبذرت بذراً، ولكن أنت الزارع، وأنت المُنزِل للمطر. فتفضل عليّ!.. القضية ليست مقايضة بل هب هبة. وعليه أن لا يفكر في نفسه، فلا يقل: هب لي بل ﴿هَبْ لَنَا﴾!.. يجعل في نيته كل المؤمنين والمؤمنات.
-﴿مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا﴾: إن الإنسان الذي يرى أن ولده متخلِّف إجمالاً، وله حركات لا تُنبىء بخير؛ عليه أن لا ييأس!.. لعلَّ الله عز وجل يخرج من صلبه متميزاً!.. فأمير المؤمنين (عليه السلام) أثناء القتال كان يتجاوز عن البعض لا يقتله، وهو يستحق القتل لأنه يعلم أنّ في صلبه صالحاً!.. فبعض كبار أصحاب الأئمة (عليهم السلام) من أصول غير مسلمة، رغم أن الأب كافر ولكنه أنجبَ ولداً مميزاً. فعندما يقول: ﴿مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا﴾ أي ولو الولد العاشر.
-﴿قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾: إن كل إنسان يبحث عن قرة العين، وعمّا يريحه باطناً. فالراحة في الذرية المميزة، لا بالبنيان ولا بالمال ولا بالشركة. فهو سيأتي عليه يوم لا يشتهي فيه الطعام ولا النساء. سيد الشهداء (عليه السلام) في يوم عاشوراء عندما كان يمشي أمامه عليّ الأكبر كم كان ينتابه من السرور، وهو الذي قال فيه: “اللهم!.. اشهد على هؤلاء القوم، فقد برز إليهم غلام أشبه الناس برسولك محمد خلقاً وخُلقاً ومنطقاً، وكنا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيّك نظرنا إليه” كم كان يلتذّ سيد الشهداء (عليه السلام) عندما يرى عليّاً أمامه!.. فإذن، إن قرة العين تكون بالذرية، لا بالبناءِ ولا بالمُتع النسائية في آخر العمر.
-﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾: يا لها من كلمة!.. تقول: يا رب لا أريد ولدا لا ينظر للحرام؛ هذا أمر مفروغٌ منه. لا أريد ولداً لا يشرب الخمر ولا يزني؛ هذا مفروغ منه أيضاً. إنما أريد مَن يكون للمتقين إماماً، أريد مرجعاً من ذريتي، أريد إنساناً يأخذ بيد الغير. فبعض العلماء الأبرار هم على رأس مدرسةٍ أخلاقية إلى يومنا هذا يُخرجون الصلحاء. يقول النبي (صلی الله عليه): (علماء أمتي أفضل من أنبياء بني اسرائيل)!.. ما المانع أن يطلب المؤمن من الله عز وجل هكذا ولد يكون إماماً للمتقين، لا متقيّاً فحسب!..
ثالثاً: التوسل.. إن الأب الذي يشتكي من انحراف في ولده، عليه أن يذهب إلى بيت الله الحرام، وإلى زيارة النبي (صلی الله عليه)، أو إلى زيارة المعصومين، وليأخذ ولده الذي يشتكي منه، وأثناء الطواف يجعل ولده أمامه ويقول: يا رب!.. أصلح لي أمره، هذا ولدي يطوف حول بيتك. يا رسول الله!.. هذا ولدي في روضتك التفت إليه. يا أبا عبد الله!.. أنا وولدي تحت الحائر. البعض ممن فعل ذلك رجع من السفر وإذا بهذا الولد ينقلب رأساً على عقب، فوفر عليه سنوات من التربية والجهد. فإذن، (إن القلوبَ بين إصبعين من أصابع الرحمن، يُقلِّبها كيف يشاءُ) وهو رؤوف بعباده.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.