لئن كانت العشرة الأخيرة من شهر رمضان، محطة تركيز على العلاقة الخاصة مع رب العالمين، من الزاوية الفردية للعبادة.. فإن العشرة الأولى من شهر محرم الحرام، تمثل محطة تركيز أيضا على تلك العلاقة من الزاوية الاجتماعية للعبادة؛ تأسياً بسيد الشهداء (ع) الذي مارس أرقى صور العبودية لرب العالمين، من خلال استنقاذ العباد من الجهالة وحيرة الضلالة؛ مجسدا بذلك شعار إحياء الخلق؛ لأنهم عباد الله.. وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله.
إن مسألة إحياء الشعائر، كما قال الإمام الصادق (ع): (شيعتنا خُلقوا من فاضل طينتنا: يفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا)؛ هذه المسألة لها انعكاسات في حياة الإنسان المؤمن.. لماذا يفرح الإنسان بميلاد إمام من أئمة الهدى؟.. ولماذا يتأذى ويتأسف ويحزن عند فقد هذه الذوات المقدسة؟..
إن السبب في ذلك؛ الحب الذي هو عبارة عن السنخية بين المحب والمحبوب.. والحب على قسمين:
الحب الأول: الحب المتعلق بالأمور المادية؛ سواءً كان جسداً جميلاً، أو كان منظراً جميلاً، أو كان متاعاً من متاع هذه الدنيا.. إذن الإنسان الذي يلتفت إلى متاع من متاع هذه الدنيا؛ حياً كان أو جماداً؛ من الطبيعي أن تنقدح في نفسه حالة الحب؛ لأن طبيعة الإنسان تحب الجمال: في طبيعة كان، أو في وجه بشري.. ولكن مشكلة هذا الحب، أنه مبتلى بعدة آفات، منها:
الآفة الأولى: آفة الزوال.. فالوجه الجميل، والمنظر الجميل، والطبيعة الجميلة؛ كل هذه الأمور في طريقها إلى الفناء.
الآفة الثانية: آفة التناقص.. إن الله -عز وجل- جعل الجمال في الوجوه، وهذا في طريقه إلى الأفول، فكل يوم يمر يأخذ من هذا الجمال شيئا، إلى أن ينقلب إلى العكس؛ فيتحول إلى وجه قبيح.
الآفة الثالثة: آفة الشهوة.. هذا الحب المتعلق بالمادة الفانية، عادة يفرز الشهوة، والحركة نحو تلك المادة: حلالاً كان ذلك، أم حراماً.
الحب الثاني: حب المعاني، لا حب الذوات، ولا حب الطبيعة، ولا حب الوجوه الجميلة؛ إنما حب الذوات المتحلية بالمعاني السامية!.. وهذا الحب حب يختلف تماماً عن الحب الأول:
أولاً: الاستمرار.. حب المعاني الكمالية، وحب المعاني الجميلة؛ هذا حب ثابت.. فالذي يحب: التضحية، والكرم، والتقرب إلى الله -عز وجل-، والإيثار، والعبودية؛ كل هذه المعاني المعنوية تبقى ولا تزول أبداً!..
ثانياً: التزايد.. إن الذي يحب المعنى، ويحب صاحب هذه المعاني الجميلة؛ هذا الحب لا ينقص أبداً!.. والشاهد على ذلك ما رأيناه في أصحاب النبي (ص) والأئمة (ع)، عندما كان يدخل الصحابي دائرة الحب الإلهي، وحب النبي (ص)، وحب المعاني المتجسدة في ذات النبي؛ كان يزداد يوماً فيوماً شوقاً إلى هذه المعاني.. فأصحاب الحسين (ع) أحبوا الإسلام من كل وجودهم، أحبوا التضحية بين يدي الله -عز وجل- وكلما اقتربوا من ميدان الشهادة؛ كلما زادوا فرحاً، لأنها ساعة اللقاء مع المليك الأعلى، فسلوكهم ليلة العاشر، سلوك إنسان مقدم على ساعات مؤنسة ولذيذة، فهذا يقينهم!..
ثالثاً: العمل الجاد.. حب المعاني يدعو الإنسان إلى العمل الجاد، الذي يقربه من هدف الخليقة.. حب الوجه، وحب الطبيعة؛ يسوق الإنسان إلى الشهوات.. أما حب المعاني؛ فإنه يدفع الإنسان إلى التأسي بهذه الأمور.. إذ من عشق شيئاً، تبع ذلك الشيء أينما كان.
إن الحسين (ع) بهذه الحركة، أراد أن يجسد لنا المعاني.. إذا أردت أن تعلم معنى للإيثار والتضحية، فاذهب إلى وادي الطفوف!.. إبراهيم الخليل -صلوات الله وسلامه عليه- خُلد ذكره في مكة: نطوف تأسياً بإبراهيم (ع)، نسعى ونهرول تأسياً بزوجته هاجر، ونرمي الجمرات في منى تأسيا بإبراهيم (ع).. وذلك لأن خليل الله، وإسماعيل ذبيح الله؛ اجتمعا لتطبيق الأمر الإلهي، الذي جاء من خلال منام.. وهذا الحسين (ع) يأخذ بيد خير أهل الأرض، وخيرة الأصحاب: شباباً، وكهولاً؛ فيقدمهم قرابين بين يدي الله عز وجل، ألا يكتب له الخلود؟.. ربنا رب شكور: شكر سعي إبراهيم؛ فخلده من خلال الحج.. وشكر سعي الحسين وأصحابه؛ فخلده من خلال عاشوراء.
إن حق الحسين (ع) عظيم على الأمة جمعاء، لأنه أحدث بشهادته هزة عنيفة أيقظت الأمة من سباتها.. وأي سبات أعظم من أن يستبدل خير الخلق إلى الله -تعالى- في زمانه، بشارب الخمور ومستحل الحرمات زاعما إمرة المؤمنين!.. وإن ما آل إليه أمر الأمة، كان نتيجة طبيعية لمخالفة المنهج الرباني، الذي رسمه الله -تعالى- للأمة يوم الغدير.
علينا أن نستلهم الدروس من عاشوراء، والتي منها:
الدرس الأول: الخلود.. الحسين درس من دروس الخلود.. إن الطبع البشري يميل إلى تخليد الذكر، وبقاء الأثر بعد الرحيل من هذه الدنيا الفانية.. ولا سبيل إلى ذلك إلا بالارتباط بمبدأ الخلود، فهو الذي لو بارك في عمل أو وجود ربطه بأسباب الدوام والخلود، كما ورد فيما أوحاه الله -تعالى- إلى نبي من أنبيائه: (إذا أطعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية).. وهو ما نراه متجليا في نهضة الحسين (ع)؛ ففي كل سنة تمر علينا ذكراه، وكأنها ذكرى جديدة.. فمن أراد الخلود، فليذهب إلى أرض نينوى، ليرى كيف أن الله -عز وجل- سجل الخلود لتلك الجماعة الذين أريق دمهم في سنة من السنوات، في زاوية من زوايا الأرض.. ولم يكن يزيد ليتصور أنه سيأتي ذلك اليوم، الذي تتحول فيه كربلاء إلى محطة للعشاق طوال التاريخ.. إذ أن البعض كان يذهب لزيارة الحسين (ع)، ويقدم يديه ثمناً لأجل تلك الزيارة.
الدرس الثاني: البكاء.. هذه الأيام ينبغي أن نتفقه فقه محرم، عن الرضا (ع): (كان أبي إذا دخل شهر المحرم، لا يُرى ضاحكا، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام.. فإذا كان يوم العاشر، كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه ويقول: هو اليوم الذي قُتل فيه الحسين -صلى الله عليه-)؛ لذا علينا أن نعيش هذا الجو.. فصاحب الأمر (عج) يحب مجالس جده الحسين (ع)، ويحب من أحيا ذكر الحسين (ع).. هذه العبارات وإن لم تكن من كلماته المباشرة، فإنه ينقلها صاحب المكيال كما رؤى (ع) في عالم الرؤيا يقول: (إني لأدعو لمن يذكر مصيبة جدي الحسين، ثم يدعو لي بتعجيل الفرج والتأييد).
البعض يستنكر البكاء وإقامة مجالس العزاء، باعتبار أن هذه الواقعة وقعت قبل أكثر من ألف سنة، وقد انقضى زمانها؟..
إن البكاء على سيد الشهداء (ع)، يعتبر مشاطرة لجميع الأنبياء والأوصياء في تأثرهم بمصيبة الحسين (ع).. إذ لم يتحقق على وجه الأرض منذ أن خلق آدم، كارثة جامعة لكل صور المصيبة في: النفس، والعيال، حتى في الطفل الرضيع؛ كمصيبة الحسين (ع).. ومن المعلوم أن هذه الظلامة قائمة، لم يتحقق القصاص منها قبل خروج القائم (ع)، فإن مرور الليالي والأيام، لا يخفف ثقل هذا الرزء الجلل الذي اقشعرت له أظلة العرش قبل أركان الأرض.. فالدم لازال يفور؛ ولهذا الإمام الحجة (عج) عندما يظهر، يستند إلى جدار الكعبة، يرفع الراية وينادي: (ألا يا أهل العالم!.. إن جدّي الحسين قتلوه عطشاناً.. ألا يا أهل العالم!.. إن جدّي الحسين طرحوه عرياناً.. ألا يا أهل العالم!.. إن جدّي الحسين سحقوه عدواناً).. ولا ننسى أن صاحب دعاء عرفة بعرفانه البليغ لرب العالمين، هو الذي وطأته الخيل بحوافرها، وترك على رمضاء نينوى بلا غسل ولا كفن!..
الدرس الثالث: تغيير الذات.. إن الهدف من المجالس الحسينية، هي أن يخرج الإنسان بتغيير جوهري في ذاته.. علينا أن نذهب إلى هذه المجالس، بنية الاستفادة العملية.. وذلك من خلال محاولة تغيير جوهري للملكات الفاسدة في أعماق النفس؛ كرامة لهذه الدموع التي يقول عنها الإمام الرضا (ع): (فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، فإن البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام)!.. فكلام الخطيب الذي يقال في مجلس إحياء عزاء الحسين، هذا الكلام له قوة في التأثير؛ لأن هذا الكلام يصدر من على منبر الحسين (ع)، الذي نصب لتخليد ذلك الدم الذي أريق في سبيل الله عز وجل.
فإذن، إن من أعظم وظائف المحبين هذه الأيام، هو تجسيد الحب، لا من خلال مظاهر العزاء فحسب، بل من خلال الترجمة العملية لهذا الحب!.. إذ أن الحب ما هو إلا التجانس بين المحب والمحبوب، وهذا التجانس لا يتم بالدعوى المجردة، بل بمحاولة التقريب بين الذات المحبة والذات المحبوبة في الصفات والملكات.. وأعظم قربان يقرب إلى الله -تعالى- في هذه الأيام، هو نفي إنية النفس الأمارة: اجتثاثا لملكة خبيثة، أو إقلاعا عن منكر نعكف عليه.
إن الحسين (ع) كان شعاره القرآن، (وبات الحسين وأصحابه تلك الليلة، ولهم دويّ كدويّ النحل، ما بين راكع وساجد، وقائم وقاعد).. فليلهم ليل القرآن، ونهارهم نهار صلاة، (فلم يزل يقتل من أصحاب الحسين الواحد والاثنان، فيبين ذلك فيهم لقلّتهم ويُقتل من أصحاب عمر العشرة، فلا يبين فيهم ذلك لكثرتهم.. فلما رأى ذلك أبو ثمامة الصيداوي، قال للحسين (ع): يا أبا عبد الله!.. نفسي لنفسك الفداء، هؤلاء اقتربوا منك، ولا والله لا تقتل حتى أقتل دونك، وأحب أن ألقى الله ربي وقد صليت هذه الصلاة.. فرفع الحسين رأسه إلى السماء وقال: ذكرتَ الصلاة!.. جعلك الله من المصلين!.. نعم هذا أول وقتها).. يقيم الحسين (ع) صلاته الأخيرة، فيخلط الصلاة بالدم.. يخلط ذكر الصلاة بأصوات السيوف والسهام.. يصلي تلك الصلاة الخالدة، التي قلما صلاها: نبي، أو صديق، أو وصي، على أرض كربلاء.. يقف يصلي صلاة الخوف، فيجعل أمامه جماعة ليكونوا سداً؛ لئلا تتأخر صلاة يوم العاشر من محرم!.. (فقال الحسين (ع) لزهير بن القين وسعيد بن عبد الله: تقدمّا أمامي حتى أصلي الظهر.. فتقدما أمامه في نحوٍ من نصف أصحابه حتى صلى بهم صلاة الخوف، ورُوي أن سعيد بن عبد الله الحنفي تقدم أما م الحسين (ع)، فاستهدف لهم يرمونه بالنبل، كلما أخذ الحسين (ع) يمينا وشمالا قام بين يديه، فما زال يُرمى به حتى سقط إلى الأرض وهو يقول: اللهم!.. العنهم لعن عاد وثمود، اللهم أبلغ نبيك السلام عني!.. وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح، فإني أردت بذلك نصرة ذرية نبيك.. ثم مات رضوان الله عليه، فوُجد به ثلاثة عشر سهماً سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح).. فما عذرنا نحن كي نتكاسل في أمر الصلاة؟..
ليلة الحادي عشر، وما أدراك وما ليلة الحادي عشر!.. تنظر زينب يميناً وشمالاً، ترى تلك الوجوه المطروحة على أرض كربلاء، ومع ذلك تصف قدميها بين يدي الله -عز وجل- لتصلي صلاة الليل، وتدعو في صلاتها لأخيها الشهيد.. روي عن الإمام زين العابدين (ع) قوله: (ما رأيت عمّتي تصلّي الليل عن جلوس، إلاّ ليلة الحادي عشر)، فالجسد يتأثر لكن الروح قوية ومتصلة بالله – عز وجل- لذلك كانت لا تقطع صلاة الليل بل تصليها، ولكن تصليها من جلوس.. فهي ما تركت تهجّدها وعبادتها المستحبّة حتّى في تلك الليلة الحزينة، بحيث أنّ الإمام الحسين (ع) عندما ودّع عياله وداعه الأخير يوم عاشوراء قال لها: (يا أختاه!.. لا تنسيني في نافلة الليل).
نعم هذا ديدنهم!.. ليلة عاشوراء: ليلة قراءة القرآن.. زوال عاشوراء: زوال إقامة صلاة الجماعة.. ليلة الحادي عشر من محرم: ليلة صلاة الليل لزينب (ع).. إذن، كله: توحيد، وتهليل، وتعبد.. فالحسين رمز التوحيد، الحسين جاء ليحطم تلك الأصنام، التي عكف عليها الجاهلون.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.