شحذ الذهن وترويض الفكر :
إن الذي يريد أن يصل إلى المعارف الإلهية الحقة، لابد وأن يمتلك حالة من شحذ الذهن.. يمكن أن نشبه الفكر والذهن والإدراك، بأدوات التنقيب عن النفط هذه الأيام.. فهذه الثروة الهائلة التي في أعماق الأرض، كانت موجودة طوال التأريخ، إلا أن العلم الحديث وصل إلى تقنيات وآليات استخراج هذه الكنوز المدفونة.. وكلما كانت أداة التنقيب والبحث لدى الإنسان أشحذ وأقوى وأدق وأقوى على التغلغل، كلما كان الاستنباط والاستخراج والاستفادة من الكنوز أكثر!.. فالذين يمتلكون حالة من حالات الجولان الفكري والدقة في فهم الأمور، إذا أعملوا فكرهم ونظرهم في علوم التفسير والحديث والكلام وما شابه ذلك؛ فإنهم أقدر من غيرهم في فهم هذه الأسرار في عالم الشريعة ببعديها، سواءً في جانب الفقه الأصغر؛ أي التعامل مع الجوارح، وسوق الجوارح إلى العبادة المتعارفة.. أو في الحركة الأنفسية؛ أي سوق الجوانح إلى عالم التدبر والتأمل والمراقبة.
ومن هنا نلاحظ بأن الأكاديميين الذين درسوا في الجامعات، وأعملوا فكرهم في العلوم الحديثة التجريبية: كالرياضيات، والفيزياء، وغير ذلك.. هؤلاء لأنهم تعودوا نمط البحث، وتعودوا الجلوس ساعات أمام الكتاب، لأجل درك المطالب المتعلقة بعالم الآفاق، فإذا أرادوا وإذا وفقوا للبحث الديني، فإنهم سوف يحرزون التقدم أكثر من غيرهم في هذا الحقل؛ لأن الذهن أصبح ذهناً مستنبِطاً جوالاً مستوعباً.
ولكن -مع الأسف- نلاحظ هذه الأيام بأن الأكاديميين الذين قد يشدون الرحال إلى بلاد بعيدة، لطلب العلم التجريبي، أنهم أهملوا جانب التثقف الشرعي، وجانب التدبر فيما يبقى معهم إلى أبد الآبدين.. نحن لا ننكر ولا نحاول أن نستصغر من قيمة العلوم العصرية، ولكن نحن نعلم أن الذي يتوغل في علوم الطبيعة، أن غاية ما يمكنه أن يعمل، هو ترتيب علاقته بمواد الطبيعة، ومن المعلوم أن هذه الطبيعة، وهذه البيئة بأفلاكها وبمجراتها، آيلة إلى الزوال.. فالإنسان العاقل من المناسب أن يخصص جزءاً من حركته الذهنية في مسألة فهم الأسرار المودعة في هذا الوجود، فيما يتعلق بعالم الغيب.
ومن المناسب أن أنوه أيضاً: بأن هنالك تطورا في العلوم التجريبية، وبموازاة ذلك هنالك أيضاً تطور في العلوم الإنسانية، هناك ما يسمى هذه الأيام بالكلام الجديد.. سابقاً كتب العقائد كانت تتناول مسألة المبدأ والمعاد، وأبحاث النبوة، وأبحاث الولاية، وغير ذلك من الأبحاث العقائدية؛ ولكن هذه الأيام هنالك حركة، سواء كانت حركة طبيعية علمية، أو حركة مشبوهة مشكوكة.. أي هنالك دعم من جهات معينة للتشكيك في بعض الحقول: كقدسية النص، أو كالمناقشة في حجية الظهورات، أو كما يسمى بالقبض والبسط في الشريعة مثلاً.. هذه الأبحاث التي أصبحت رائجة في بعض الأوساط.. فالذي يريد أن يعمل في حقل المجتمع، هداية للآخرين؛ عليه أن يواكب آخر التطورات العلمية في مجال الشريعة، وفي مجال مقارعة الأفكار الأخرى، والتي لم تخل يوماً من الأيام.. فالشريعة كما كانت لها جبهات قتال مع الأعداء الظاهريين على شكل حروب عسكرية، كذلك هنالك حروب علمية كلامية.. كما نعلم أن إمامنا الرضا (ع) استغل ولايته الظاهرية للخلافة الإسلامية، في مواجهة الفرق المختلفة، في مقام تثبيت أصول العقيدة.
ولكن في نفس الوقت ينبغي الابتعاد عن الترف العلمي.. إن الإنسان المؤمن مثله كمثل النحلة: فالنحلة لا تذهب إلى كل شجرة، بل لا تذهب إلى كل وردة، وإنما تذهب إلى ما يمكن أن يمتص رحيقه.. فالمؤمن وقته محدود، وقدراته محدودة.. والإنسان مادام شاباً معافىً صحيحاً مستغنياً آمناً، بإمكانه أن يركز في العلوم، ولكن مع تقدم العمر والتناقص والأفول في الكفاءات المختلفة، فإن الإنسان يجتر ما مضى من معلوماته السابقة.. وعليه، لابد من ترتيب سلم الأوليات العلمية، ليكون مصداقاً لقول الإمام علي (ع) في وصف المتقين: (ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم)!.. إنه تعبير جميل جداً!.. فكما أن هنالك مسجدا يوقف على المصلين، وغير المسلم لا يدخل في ذلك المسجد، والإنسان المبتلى بالحدث يمنع من دخول المسجد مثلاً.. فإن النفس كذلك هي بمثابة المسجد أيضاً، لابد أن نراعي أو نجعل بوابات محكمة على باب النفس؛ لئلا يدخل في الأرضية العلمية والفكرية ما لا يرضي، وقد يضر العبد في مقام التعامل مع المفردات الحياتية.
من الملاحظ أن الذين ينشغلون بالأبحاث العلمية، ولديهم هموم ورؤى فكرية في الوجود، يقل انغماسهم في الشهوات.. وهذه من صفات الإنسان المؤمن، أن له هما شاغلا في هذه الحياة.. فمن سبل الترفع عن الشهوات -غير الإرادة والتذكير بعواقب الأمور-، ومن موجبات التحكم في سلوك الإنسان في تعامله مع المنكر، أن يعيش حالة من حالات الانشغال العلمي والأكاديمي، بالنسبة إلى فهم الشريعة بكل حدودها وثغورها.
قانون تلقي الحكمة الإلهية :
كيف نتلقى الإلهام الرباني في هذا المجال؟..
نحن لا نحيط علماً بشيء من علم رب العالمين، ولكن -من خلال الاستقراء الناقص- نلاحظ بأن الله عزوجل جلت قدرته، بناؤه على عدم التدخل المباشر في حياة الإنسان، بمعنى التصرف في جوارحه أما التصرف في الجوانح -أي التصرف في عالم القلب-، فهذا أمر متعارف جداً في تعامله مع البشر، سواءً مع الحيوانات أو الحشرات كالنحل.. فرب العالمين لا يستنكف أن يستعمل كلمة الوحي -هذه الكلمة التي يُشرف بها الأنبياء.. فالأنبياء شرافتهم أنه يُوحى إليهم-، ولكن الله عزوجل يستعمل التعبير نفسه بالنسبة إلى النحل، حيث يقول تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ}.. كذلك نلاحظ بأن الله عزوجل له صلة من صلات الإلهام والتسديد بأم موسى (ع) -هذه المرأة التي ألقت بفلذة كبدها في البحر؛ امتثالاً للأمر الإلهي- {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}.. وكذلك بالنسبة إلى أهل الكهف، حيث زادهم هدى، وربط على قلوبهم: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ}.
فإذن، إن التصرف الإلهي في القلوب بابه مفتوح دائماً وأبداً.. ولكن كيف نصل إلى هذه المرحلة؟.. إن هذه مزية كبرى: أن يصل العبد إلى مرحلة يتلقى ما يتلقى من قبل الله عزوجل.. فالأمهات في زمان موسى (ع) كثيرات، لماذا رب العالمين اختار أم موسى (ع)، لأجل تسديد فؤادها بما سددها، وأخيراً أرجع لها ولدها سالماً كما وعدها؟..
إن الذي يريد أن يتلقى العلم الإلهي في هذا الإطار، لابد وأن يهيئ الأرضية، فإن رب العالمين يهدي من يشاء.. إن البعض تحير في تفسير كلمة يشاء في القرآن الكريم في أنه من الفاعل؟.. هل المقصود به أن العبد يشاء، أو رب العالمين يشاء.. من هو الفاعل في هذا المجال؟.. لا مانع من أن نقول: أن من يشاء أنه العبد، أو أن يشاء رب العالمين، وكلاهما يعود إلى معنى واحد.. تارة رب العالمين يشاء الهداية، ولكن هذه المشيئة مشيئة حكيمة، فإن رب العالمين لا يشاء جزافاً، وإنما يشاء وفق حكمة بالغة يراها.. فإذا رأى في العبد قابلية وصلاحاً؛ يؤهله لأن يتلقى الفيض الإلهي.. فرب العالمين بابه مفتوح للسائلين، وعطاؤه كالشمس؛ فالذي يريد أن يستفيد من عطاء الشمس، ما عليه إلا أن يخرج ويتعرض لهذا الهدى الإلهي في عالم الطبيعة.. وفي عالم الشريعة كذلك، الذي يريد أن يتلقى هذا الفيض الإلهي، لابد وأن يحقق في نفسه القابلية.. ومن موجبات تحقق القابلية والمسانخة: الإكثار من الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى.. وقد ورد: (استفهم الله يفهمك)!.. في حياة علمائنا السلف كان البعض يشد الرحال إلى بلاد بعيدة؛ طلباً للحكمة.. فكما أن الإنسان المؤمن في عالم تلقي العلوم الظاهرية ينقطع عن أهله، ويذهب إلى بلاد بعيدة، ويتحمل الأذى والمال من أجل كسب العلم.. ما المانع أيضا في أن يحاول الالتجاء إلى ربه، ليفتح عليه باباً من أبواب الحكمة.
ولابد هنا أيضاً أن نلفت إلى حقيقة مهمة، وهي: أن هناك فرقا بين الخواطر الإلهية المطابقة لمراد المولى، وبين الخواطر الشيطانية.. فإن البعض يعول على ما يرد على قلبه من أفكار ورؤى، والشيطان قد يدخل على الخط في بعض الحالات، ليُغري الإنسان، كما ورد في القرآن الكريم: {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}؛ فالشيطان يغلف الأمر بغلاف يغري الإنسان، بحيث يظن أن هذا هو الحق الذي لا جدال فيه، بينما يكون للشيطان دوره في الوسوسة في هذا المجال.
سر تلقي الحكمة :
عندما نقول الحكمة، فإنه يتبادر إلى ذهننا ذلك العبد الصالح الذي آتاه الله الحكمة، ولم يكن -لعله على أقوى الأقوال- نبياً، كان عبداً صالحاً، آتاه الله الحكمة، ألا وهو لقمان.. قال النبي (ص): (حقا أقول، لم يكن لقمان نبيا، ولكنه كان عبداً كثير التفكر، حَسَن اليقين.. أحبّ الله فأحبه، ومنّ عليه بالحكمة).
هناك تعريف جميل للحكمة في كتبنا يقول: بأن الحكمة علم بالمعارف الإلهية الحقة، وانكشاف ما هو تحت أستار الغيب، بالنظر إلى الأنظار العادية.. أي أن يرى الإنسان واقع الأمور من دون لبس وخفاء.. ولهذا من الجميل أن ندعو بهذا الدعاء: (اللهم!.. أرنا الأشياء كما هي).
لماذا اختار رب العالمين لقمان لهذا المقام المنيع، لهذا المقام الذي يتمناه الأولياء والصلحاء طوال التأريخ؟.. الكلام ينحصر في نقطة واحدة، ألا وهي إتيان الحكمة: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ}، وهذا الإيتاء للحكمة أيضاً من مصاديق الحكمة.. فرب العالمين لا يهب هذه الحكمة جزافاً، إلا إذا رأى مورداً قابلاً كلقمان.. وعندما نلاحظ سيرة لقمان في نصوص أهل البيت (ع) -ويكفيه فخراً أن ينقل كلامه من قبل خاتم الحكماء والأنبياء والمرسلين.. وإذا بالنبي وآل النبي (ص) يستشهدون بكلمات من هذا العبد الصالح- نجد أنه من موجباته -كمثال- أن على الإنسان إذا أراد أن يتلقى الحكمة الإلهية، فلابد له من أن يوجد الأرضية المناسبة لذلك، ألا وهو الصمت، والابتعاد عن فضول القول وفضول النظر.. من المعروف أن الذين يريدون أن يصلوا إلى هذا المقام -مقام تلقي الحكمة-، لابد لهم من أن يراقبوا هذا اللسان، الذي كلما أطلقته في الباطل وفيما لا يعني؛ فمن الطبيعي أن تنضب موارد الحكمة في القلب.. نحن في أدعيتنا ندعو أنه: يا رب!.. أجر الحكمة على ألسنتنا للناس.. فهذه الحكمة التي تجري من القلب على اللسان، من الطبيعي أن الأمر يحتاج إلى ضبط للخواطر؛ وضبط الخواطر لا يتم إلا من خلال ضبط مصادر المعرفة: من السمع، والبصر، واللسان.
الالتفات إلى الثمرة اللذيذة من تلقي الحكمة :
إن مشكلة الجميع هذه الأيام هي الفراغ القلبي.. فالإنسان الذي لا يرى جهة يركن إليها، ولا يرى جهة يحبها، وعندما لا يجد محبوباً حقيقياً؛ فإنه يلتجئ إلى محبوب مجازي رغم علمه بأن هذه العلاقة مؤقتة.. في هذه الأيام في بلاد الغرب نلاحظ بأن الشاب يرتبط بفتاة، رغم علمه بأن هذه العلاقة علاقة مؤقتة، كما كانت منقطعة إلى من قبله.. هذه الأيام نلاحظ بأن هذه العلاقات علاقات قائمة على الغرائز والشهوات، فعندما يقضي الفتى أو الشاب وطره، تنفصم هذه العلاقة.. فبرغم علمه بأن هذه العلاقة علاقة مؤقتة، وأمرها إلى الزوال، مع ذلك فإنه يحاول في حياته أن يرتبط بمن يحب.. وهذا يعكس هذه الحقيقة: إن القلب لا يمكن أن يكون فارغاً.. ولهذا -كمثال- لو حاول الإنسان أن يفرغ ذهنه من كل خاطرة لمدة خمس دقائق؛ فإنه لا يمكنه ذلك.. فالذهن لا يمكن أن يكون فارغاً من فكرة أو من خاطرة أو من رؤية.. فإذا كان الفكر كذلك، فالقلب أيضاً لا يمكن أن يكون فارغاً.. القلب لابد أن يحب شيئاً.. هذا القلب إذا لم تربطه بالمبدأ الأعلى، فمن الطبيعي أن يرتبط بما دون ذلك، وإن كان تافهاً.. كالجاهليين قبل الإسلام، نلاحظ بأنهم -كما نعلم- كانوا يصنعون إلهاً من تمر في أول النهار، ثم هذا الإله يُؤكل في آخر النهار!.. فهو عندما فقد الارتباط بالإله الحق -بالله الواحد القهار-، فإنه يؤول أمره إلى محبة ما يؤكل لاحقاً في آخر النهار!.. وكذلك الإنسان -هذه الأيام- إذا لم يملأ الفؤاد بحب من هو مصدر كل خير في هذا الوجود، من الطبيعي أن يرتبط القلب بالأمور التي لا بقاء لها.
ومن المعلوم أن الإنسان المؤمن يبحث عن ربه بدرجة من درجات البحث، وهذه الدرجة محدودة، هناك مستوى من البحث، ولكن ليُعلم بأن الله عزوجل أشد إصراراً منك في هذا المجال!.. هو أيضاً يبحث عنك، ولكن فرق بين بحث الله عن عبده -بحث الفاطر والخالق-، وبين بحث العبد عن ربه.. في بعض النصوص سأل رجلٌ النبي (ص) فقال: ما لنا نجد بأولادنا ما لا يجدون بنا؟.. قال: (لأنهم منكم، ولستم منهم).. وكذلك هذه الخصوصية أيضاً موجودة عند رب العالمين، فهو الخالق الفاطر، والعبد هو المخلوق.. ومن الطبيعي أن تكون حركة الحب للعلة -للفاطر للخالق-، أشد وأقوى من حركة المعلول والمحبوب.
وعليه، فإن الذي يريد أن يصل وأن يرتبط بمبدأ الأنس في الوجود؛ عليه أن يسعى في هذا المجال.. وشتان بين من يبحث عن أنس بنفسه، فيصبح مثله: {كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، بيت ينفخ فيه فيتلاشي ويزول.. وبين من يبحث عن أنس بمبدأ الوجود، فيصبح مثل بيت لحشرة أخرى، وهو النحل، فرب العالمين أمرها باتخاذ منزل: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ}، وإذا بهذا البيت يصبح مصدر كل خير؛ وأما العنكبوت فإن بيتها يضرب به المثل في الزوال والفناء.
شكر نعمة الحكمة بالعطاء الاجتماعي وخدمة الخلق :
إن البعض عندما يتوغل في الجانب العلمي الأكاديمي، أو يحترف الجانب العطائي الفكري؛ فإنه يبتعد عن الناس، ومزاجه يصبح مزاجاً متنافراً مع أمزجة الناس، ويرى أن الناس في عالم، وهو في عالم آخر.. هذه المشكلة الآن موجودة في النخبة من الأمة.. فمشكلة بعض النخبة -النخبة غير الواعية- أنهم -كما يقال في المثل المعروف يعيشون في أبراج عاجية-، يتباعدون عن الناس.. بينما المفروض أن يكونوا كما ذكر القرآن الكريم، إذ جعل ثمرة آية النفر، إنذار القوم إذا رجعوا إليهم: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}.
والملاحظ في تعابير القرآن الكريم، عندما يصل إلى وصف الأنبياء أنه يصف بوصف الأخوة: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا}، وبأوصاف قريبة وحميمة: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}.. فالعلاقة علاقة أخوة، لا علاقة أبوة، ولا علاقة الحاكمية، فرب العالم ما بعث نبياً إلا بلسان قومه.. وكل هذه التعابير تدل على أن الذي يريد أن يوفق في مجال خدمة الغير، لابد وأن يكون قريباً إلى قلوب الناس.. إن النبي الأكرم (ص) بلغ به الأمر إلى أنه كان لا يُميَّز من بين أصحابه في مسجد المدينة، وإذا بالأصحاب يطلبون من النبي (ص) أن يُميَّز في مجلسه، وفي هيأته وفي وصفه، بحيث يمكنهم التفاهم معه على أنه هو النبي.. هكذا كان النبي (ص).. وكمصداق لذلك ما كان عليه إمامنا الحسين (ع).. من المعلوم أن تألم الإمام (ع) أو بكاءه في يوم عاشوراء كان مرتبطاً تارة بما يحل عليه وعلى أهل بيته من أنواع العذاب، وبما لا يمكن ذكره من شدته؛ وفي بعض الحالات كان الحسين (ع) يتألم مما جرى على هذه الأمة التي أخطأت طريقها ودربها.. إن هذا الحنان المشهود في حياة الأنبياء والمرسلين، هو خير ما يمكن أن يقتدى به في العطاء.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.