إن علياً (ع) في كلماته القصيرة في نهج البلاغة، يعالج مسألة قد نتبلى بها في حياتنا، وهي أن الإنسان قد يختلف مع أحد ما في مرحلة من مراحل حياته، وقد يكون في حالة خصومة مع زوجته من أول يوم في حياتهما الزوجية إلى أن يفترقا.
أولاً: إن الاختلاف في وجهات النظر أمر طبيعي، فرب العالمين لم يخلق العقول متشابهة.. الأبدان من حيث المظهر الفسيولوجي متشابهة في وظائفها، ولكن: العقل، والتفكير، والإدراك، والمزاج؛ كل هذه أمور لكل إنسان بصمته الخاصة فيها.. فكما أنه لا تعدد في بصمة يد الإنسان، كذلك لا تطابق في أفكاره.
فإذن، ليس الحل في أن يحاول الإنسان جعل الناس كلهم كما يريد هو!.. بعض الآباء له تصوراته الخاصة، ويريد أن يطبق ذلك على من حوله من الزوجة والأولاد، إن رضوا بها فأنعم وأكرم!.. وإلا دخل معهم في معارك وخصومات.
ثانياً: يقول الإمام علي (ع): (من بالغ في الخصومة أثم، ومن قصر فيها ظلم، ولا يستطيع أن يتقي الله من خاصم).
(من بالغ في الخصومة أثم).. إن الجو الذي فيه خصومة واختلاف؛ لابد أن تزول التقوى منه.. وأول درجة من درجات زوال التقوى، أن يتكلم الإنسان على من يخاصم بغير وجه شرعي، فقد يغتاب في غير موارد جواز الغيبة، وقد يبالغ في بيان ظلامته.. حيث أن البعض يتمسك بقوله تعالى: {لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ..}.. ولكن هذا لا يعني المبالغة في ذكر الظلامة، وتحريف الكلام عن مواضعه؛ فهذا لا يجوز!.. والذي يعيش جو الانفعال؛ لا يمكن أن يتقي الله عز وجل.. وإذا لم يكن هناك حل، فمهما بالغ الإنسان في النقاش، سوف لن يصل إلى حلّ.. لذا يجب ألاّ يبالغ الإنسان في الخصومة، لأن الطرف الثاني إذا كان عاقلاً؛ تكفيه الإشارة.. وغير العاقل، لا تكفيه المنارة.
(ومن قصر فيها ظلم).. قد يقول قائل: معنى هذا الكلام: كلما كان الحق معي، والغير لا يعترف به؛ أنسحب.. وبالتالي، تضيع الحقوق؛ فهل الشارع المقدس يرضى بذلك؟.. هذا الكلام غير صحيح.. يقول علي (ع): (ومن قصر فيها ظلم).. والقرآن الكريم يقول أيضاً: {لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ}.. فرق بين إنسان يحاول أن يرفع الظلم عن نفسه، وبين إنسان يريد أن ينتقم من الطرف المقابل.. ولكن نحن بعض الأوقات نخلط الأمور، مثلاً: تارة أنا أتكلم حتى أُفهم الشخص أنه على خطأ، وأبين خطأ تفكيره، وتارة أريد أن أنتقم منه.. فإذا كان الهدف هو الانتصار، فرب العالمين أعلم بالنوايا، {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}.
قواعد الخصومة:
القاعدة الأولى: عدم الجزم بأحقية الرأي.. المؤمن عندما يخاصم أحداً في رأي، لا يجزم أن الحق معه.. تارة هناك مسألة شرعية بديهية، مثلاً: هو يقول: أن صلاة الفجر ركعتان، والطرف المقابل يقول: ثلاث ركعات.. هنا لابد أن من الوقوف عند الرأي؛ ولكن في القضايا الحياتية، لا يستطيع أن يجزم أن الحق معه؟.. مثلاً: الأم تحبذ سياسة الرفق بالأولاد، والأب يحبذ سياسة العنف.. قد يكون الحق مع الأب، وقد يكون الحق مع الأم؛ فلماذا يستميت الأب في رأيه؟..
فإذن، إن القانون الأول في الخصومة، أن لا تجعل لنفسك الحق بشكل مطلق، بل دائماً احتمل الخلاف قل: أنا على حق، وأحتمل أن غيري مخطئ، وقد يكون غيري مخطئاً، ويمكن أن يكون الصواب معه.
القاعدة الثانية: دراسة الهدف من الخصومة.. لابد أن يدرس الإنسان الهدف من الخصومة، إذا كانت الخصومة فيها فائدة، لا بأس بذلك، أما إذا كان من يخاصمه متمسكاً برأيه، ولا تنفع فيه مواعظ الواعظين؛ فلماذا يدخل المؤمن معه في نقاش؟.. يقول تعالى في سورة المنافقين: {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}.
فإذن، إن الإنسان المتعنت ينبغي ألا يدخل المؤمن معه في جدال.. قد يقول قائل: ولكن هذا الشخص المتعنت هي: زوجتي، أو أخي، أو أبي.. لذا فليسأل الله -تعالى- أن يلين القلوب!.. فرب العالمين يحول بين المرء وقلبه.
القاعدة الثالثة: التفويض.. إن الشخصية الإيمانية في جوف الليل، تطلب من الله -عز وجل- أن يكون محامياً ووكيلاً عنها.. نحن عادة هذه الآية نقرأها قراءة، ولا نعمل بها {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}.. مثلاً: يقول الزوج في جوف الليل: أوكلت أمر زوجتي إليك، يا رب أنت المنتصر!.. ولكن إذا جاء النهار: رفع صوته، وضرب، وكسر، وغيره.. أين التفويض، وأين الفعل؟.. فالمفوّض أبرد من الثلج، ما دام فوّض الأمر بعد أن سعى سعيه؛ عليه أن ينتظر دفاع رب العالمين.. إن الله -عز وجل- يقول في كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}، لا عن الذين أسلموا، ولا يدافع عن الإنسان الغافل عن ذكر الله عز وجل.. إنما عندما يصير الإنسان مؤمناً؛ رب العالمين يكون أكبر المحامين عنه، وقال جلّ من قائل: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}؛ إن كان من المؤمنين فالنصر له، سواء كان فرداً أو أمة.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.