- ThePlus Audio
كيف نتدبر في سورة الفاتحة؟
بسم الله الرحمن الرحيم
قد يكذب أحدنا في صلاته وهو لا يعلم…!
إننا ندعي ادعاء عظيما عندما نقول في صلاتنا: (إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ)[١]، والمؤمن عندما يصل إلى هذه الجملة يقول في نفسه: يا رب، إنني أتلوا القرآن ولا أتحمل المسئولية، فأي عبادة وأي استعانة هذه التي أتحدث عنها، والحال أن الملائكة على طول انشغالهم بالعبادة يقولون: (ما عبدناك حق عبادتك)[٢].
ومن لم يتفقه في الدين هو مقصر. وقد تمت الحجة هذه الأيام علينا جميعا لوجود وسائل التواصل والفضائيات والمواقع والكتب التي أصبحت في متناول الجميع. لا تقل: إنني جاهل بالمسائل جهلاً معذراً أو جهلاً قصورياً، فلو اغتسل الرجل عشرين سنة واكتشف خطأ في الغسل بعد عشرين سنة من حياته ثم أتى يوم القيامة وعاملوه معاملة تارك الصلاة؛ لكان الأمر في محله.
كيف نُصلح بواطن العبادة؟
وليست المشكلة في ظاهر العبادة؛ فالعبادة صحيحة، وإنما المشكلة في باطن العبادة. فقد يُقال لك يوم القيامة: صحيح أنك عبدتنا ولكنك مع ذلك عبدت هواك. إننا نقول: إياك نعبد؛ أي عبادة حصرية، وهذا نفهمه من القاعدة العربية التي تقول: إن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر؛ فالجملة أصلها: نعبدك.
من يدعي أنه عبد الله حصراً؟ أو لم تأكل يوما طعاما زائدا؟ أليست هذه الزيادة عبادة البطن؟ ألم تطع الزوجة في ما لا يرضي الله، وكنت ممن ورد بحقهم: قبلتهم نسائهم؟ ألم تصرف المال في غير محله؟ لو فتشت في حياتك لرأيت الهوى معبوداً في مساحات كثيرة؛ فلا تقل إياك نعبد إلا وأنت مطأطئ الرأس خجلا، وإلا لأتاك النداء: يا كذاب، أتخدعني أو تكذب علي؟
وقد يتوفق البعض في قوله: إياك نعبد، ويقول: إن رب العالمين شاهد علي بأنني ما عبدته إلا مخلصاً لا رئاء الناس؛ ولكن المشكلة في قوله: إياك نستعين. عندما تذهب للطبيب وأنت تعتقد أن للطبيب تأثيرا في فلاجك وأنه هو المعالج وهو المشافي؛ فأنت لم تستعن بالله عز وجل، وإنما عينك على المخلوق مثلك.
بل اذهب إلى الطبيب أو إلى المهندس أو إلى من تريده للتجارة وقل: يا رب، أجر الخير على يده، فبيدك الخير، واذكر قول إبراهيم (ع): (وَإِذَا مَرِضۡتُ فَهُوَ يَشۡفِينِ)[٣]. ونحن لا نستبعد أن إبراهيم (ع) كان يراجع الطبيب، وهذه سنة من سنن الأنبياء عموما، إذ يُقال: أن أحد الأنبياء مرض ولم يراجع طبيباً أو راجع ولم يأخذ العلاج الذي وُصف له؛ فنزل عليه الوحي قائلا: اذهب وخذ الدواء فهذا عالم الأسباب. وقد جيء لأمير المؤمنين (ع) بعد الضربة بطبيب ليكشف على جرحه. ولكن من منا يراجع الأسباب وعينه على مسبب الأسباب؟ ألسنا نقول: يا سبب من لا سبب له، ويا سبب كل ذي سبب، ويا مسبب الأسباب من غير سبب؟ أين نحن من هذه المفاهيم الراقية؟
من الطبيعي أن يستعين الإنسان بأخيه الإنسان ولكن ينبغي له أن يعلم أنه مجرد سبب من الأسباب التي يسرها الله عز وجل له، وقد قال سبحانه: (لَا تَمُدَّنَّ عَيۡنَيۡكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّنۡهُمۡ)[٤]؛ فلا تجعل عينك على الآخرين، فهم لا يملكون لك شيئا.
مما ينبغي أن نتدبر فيه في سورة الفاتحة
لو تأملنا في هذه الآيات لوجدنا كثيرا من الأمور التي تحتاج إلى توضيح وبيان. فعلى سبيل المثال: لماذا وردت الآيات في سورة الفاتحة بصيغ الجمع كإهدنا وإياك؟ و لماذا لم يُجمع الصراط في القرآن ولم يثنى؟ فليس عندنا صراطان ولا صرط؛ بينما نجد كلمة السبيل مجموعة في القرآن قوله تعالى: (وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَا)[٥]؟ لماذا السبيل يُنسب إلى الله عز وجل تارة ويُنسب إلى المؤمنين تارة في قوله تعالى: (وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ)[٦]؟ لماذا جعل الله في مقابل من أنعم عليهم؛ غير المغضوب عليهم والضالين؟ وما هو الفرق بينهما؟ أليس كل مغضوب عليه ضال، وكل ضال مغضوب عليه؟ وهناك أسألة كثيرة في هذه الآيات الأخيرة من سورة الحمد؛ ولكن دأب هو الحومان حول هذه الآيات لا الغوص فيها.
ثم بعد الثناء وادعاء العبودية والاستعانة؛ كأن الله عز وجل يعطينا إذناً بالطلب وهو الذي يُعلمنا ما ينبغي لمثلنا طلبيه من مثله. إن صاحب السبع المثاني هو الذي يُعلمك الدعاء؛ فأنت لا تعلم كيف تدعو. إن أحدنا لو تُرك أمر الدعاء له، لدعا بدعاء ناقص؛ ولكن الله سبحانه في هذه السورة قد اختار أبلغ الأدعية. وبإمكانك أن تدعو بهذا الدعاء في مواطن الاستجابة إذا رق قلبك في الحائر مثلا أو في الروضة أو تحت الميزاب، فقل عندها: يا رب، اهدنا الصراط المستقيم ولا تبخل وتقول: اهدني الصراط المستقيم، واشمل بدعائك جميع المؤمنين والمؤمنات؛ فالفرق حرف واحد.
إن تلمسته بجهدك وبحثت عنه في طيات الكتب؛ لا تظن أن هذا يعينك فتكتفي به ولكن قل: يا رب، اهدنا الصراط المستقيم، والنبي (ص) كذلك يهدي إلى صراط مستقيم لقوله سبحانه: (وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ)[٧]. وإذا لم يستجب لك ربك ولم يجعلك على الصراط المستقيم؛ فاعلم أنك إما مغضوب عليك أو ضال. متى يستجاب لك؟ إن دعوت بشرطها وشروطها؛ إذا ليس هذا الطلب يساوق الاستجابة؛ فأنت تقدم طلباً والطلب يُدرس في العرش إن صح التعبير، عندها قد تُهدى وقد لا تُهدى. فمن يدعو بهذا الدعاء ولم يُحقق شروط الإجابة لا يهتدي إلى صراط مستقيم.
ما هو الفرق بين الصراط والسبيل؟
هب أنك رب العالمين قد هداك إلى صراط مستقيم؛ فهل تظمن أن الأمر قد انتهى؟ لو جائك الآن جبرئيل سفير الوحي وقال: يا فلان بن فلان، أنت على صراط مستقيم؛ فهل تنام قرير العين؟ أبداً، لا تنام قرير العين إذ أن هناك مشكلة أخرى وهي البحث عن السبيل الأقوم. إن الطرق السريعة هذه الأيام تحتوي على عدة خطوط تصل في بعض البلدان إلى ستة خطوط يكون الأوسط هو الأقرب إلى السلامة. فأنت قد تكون على الصراط ولكن على الحافة، وغفلة واحدة منك تُرديك في الوادي. نعم، أنت في الصراط ولكن لست في السبيل الأقوم.
متى تكون في السبيل الأقوم؟
قال تعالى: (وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَا)[٨]. فأنت الآن قد تكون تاجرا كبيرا وموفقا قد بنيت عشرات المساجد؛ ولكنك في أيام الشباب لو ذهبت إلى حوزة من الحوزات وصرت عالماً فقيها لأخذت بيد الآلاف من التائهين ولربيت أئمة للمساجد؛ فأين هذه الطوابيق الجامدة وأين النفوس الناطقة؟ أنت على الصراط ولكن فاتك ما فاتك من الأجر العظيم. أيها الشباب قل: يا رب اجعلني على السبيل الذي تريده أنت.
ما الفرق بين جاهدوا فينا وبين جاهدوا في سبيلنا؟
إن جميع التعبيرات في القرآن الكريم هي في غاية الدقة والحكمة، ولنبين الفرق بينهما نضرب مثال من العشاق. إننا دائما في الحب إما في الحب الإلهي وفي الطريق إلى الله عز وجل وإما في حب الفانيات. فالشاب يهوى الفانيات، وولي الله يهوى الباقيات؛ ولكن الهوى هو الهوى، والقلب هو القلب، والحبل هو الحبل؛ فهذا أوصل حبله بامرأة وذاك أوصل حبله بالحي الذي لا يموت. أما الإنسان الذي يريد أن يصل إلى من يحب وسار في الطريق الذي يوصل إليها ثم رأى الأشواك والألغام، سيحاول أن يجاهد ويبتعد عن هذه الموانع، وعينه على الطريق إلى أن يصل أخيرا إلى من يحبها. ولكن من شغفها حب الحبيب كزليخا التي شغفها يوسف (ع) حبا؛ لا تكون عينها على الطريق وإنما عينها على يوسف (ع) مباشرة. تقول: إن عيني هي على ذلك المقصود وأريد منه هو أن يُسددني في طريقي إليه فإن مزاجي لا يلائم النظر إلى الجزئيات وقلبي مشغول به.
دعه هو يأخذ بيدك إليه
إن عامة المؤمنين كالمقاتلين في الميادين في سبيل الله أو من يطبع كتاباً أو يتكفل يتيماً؛ عينهم على الطريق. إلا أن الخُلص عينهم على ذي الطريق أو على صاحب الطريق أو على المولى، ويقولون في أنفسهم: يا رب، نريدك أنت؛ فما لنا والطريق؟ يا رب، عيني عليك وإليك؛ فأنت سددنا في مقام العمل، إن اللام في قوله تعالى: لنهدينهم هي لام التأكيد والنون نون التأكيد. إن رب العالمين هو الذي يختار لهم طريق الخير. إن المؤمن الصالح هو يبحث هنا وهناك ليبني مسجداً أو يطبع كتاباً أو يفعل ما يفعل من الخير بحساباته البشرية؛ ولكن المخلصين يقولون: يا رب، اخترنا لنفسك وصيرنا في أقرب الطرق للوفود عليك وغير ذلك من مضامين مناجاة إمامنا زين العابدين (ع)، والتي منها: (سُبْحَانَكَ مَا أَضَيْقَ اَلطُّرُقَ عَلَى مَنْ لَمْ تَكُنْ دَلِيلَهُ، وَمَا أَوْضَحَ اَلْحَقَّ عِنْدَ مَنْ هَدَيْتَهُ سَبِيلَهُ)[٩].
هل تعلم أنك في أقرب السبل إلى الله؟
ألا ترجو بعد أربعين سنة مثلا من قولك في كل ركعة: اهدنا الصراط المستقيم وفي صلاة الليل وفي النافلة وخلف المقام في حائر الحسين (ع) أن يجعلك رب على الطريق المستقيم؟ واعلم أن هذا الصراط هو صراط علي وأولاده المعصومين (ع)؛ فهم أقرب الطرق للوفود إليه؛ فاشكر الله عز وجل أن رزقك أفضل الأديان وهداك إلى أفضل السبل الموصلة إليه.
خلاصة المحاضرة
- من يدعي أنه عبد الله حصراً أولم تأكل يوما طعاما زائدا أليست هذه الزيادة عبادة البطن ألم تطع الزوجة في ما لا يرضي الله، وكنت ممن ورد بحقهم: قبلتهم نسائهم؟ ألم تصرف المال في غير محله لو فتشت في حياتك لرأيت الهوى معبوداً في مساحات كثيرة فلا تقل إياك نعبد إلا وأنت مطأطئ الرأس خجلا.