إن من المفاهيم التي قد لا يستوعبها البعض ، ضرورة التخلق باخلاق الله تعالى كما ورد عن النبي (ص) .. بمعنى أن يكمل الانسان جميع بذور الخير في نفسه ،ليحّولها إلى شجرة نامية في أعلى درجات النمو.. وهذا هو معنى الفناء في الله .. بمعنى أن لا تبقى له خصوصيات بشرية تنافي مقتضى الارادة الالهية في عالم الصفات والافعال..
ان من هذه الصفات الالهية : صفة العفو والتجاوز عن الخطايا .. فإن الآيات الواردة في هذا الباب مذهلة ، ومنها قوله تعالى :{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم }..فلاحظ كلمة ( أسرفوا ) الدالة على تجاوز الحدود في العصيان ، ولاحظ كلمة ( يغفر الذنوب جميعا ) وهذا هو كمال اللطف بحق العباد.. يشعر العبد بالخجل والتذلل.
نلاحظ ان استعمال القرآن الكريم لكلمة ( الرحيم ) ، اكثر من كلمة ( الرحمن) ، والاولى يقال انها دالة على الرحمة الخاصة بالمؤمنين ، في مقابل الرحمة العامة لكل البشر .. مما يستفاد منه اشتداد الرحمة لمن اتخذ الى ربه سبيلا..
ان من اجمل صور الرحمة هو العفو عند المقدرة .. وهذا ما لاحظناه في حياة الرسول الأكرم (ص) عندما فتح مكة.. فدخل فيها منتصرا ، ونحن نعلم ما هي عادة المنتصرين عندما يفتحون مواقع اعدائهم.. إلا ان رسول الرحمة يصدر بيانا قائلا: ( من ألقى السلاح فهو آمن.. ومن أغلق بابه فهو آمن .. ومن تعلق باستار الكعبة فهو آمن ).. ثم ينادي عثمان بن طلحة ليرجع اليه مفاتيح الكعبة، قائلا : ( اليوم يوم بر ووفاء )..
فهل نرى في حياة الفاتحين ، هكذا صورة من السماح والعظمة؟..
ان حالة الشفقة مع العصاة من الخلق حالة معهودة في حياة المعصومين (ع) جميعا .. حيث إن إحساس أولئك العصاة بالحنان والعطف من قبل الدعاة الى الله تعالى لهو نعم المعين لهم على ترك المنكر.. لأن طردهم من المجتمع ، يوجب توغلهم في عالم المعصية .. ومن هنا لزم علينا التعامل مع العصاة بحذر ، واتقان ، وروح تربوية
إن من موجبات العفو عن الآخرين هو التعالي عن الأمور الحقيرة ..فالمؤمن مشغول بعالمه العلوي ، فلا يكاد تشغله الأمور التافهة.. فما قيمة كلام الغير الذي لا يكشف عن الواقع ، ليتخذ منه موقفا عدائيا يسلب منه نعمة العفو والسماح؟!
ان من موجبات العفو هي الرغبة في اصلاح الآخرين .. فإن التجاوز عن اخطاء الطرف الآخر درس عملي للتحلي بمكارم الاخلاق .. فإن الانسان بطبيعته خاضع امام الفضيلة وصاحب الفضيلة من دون ان يطلب ذلك بلسانه.
تتأكد حالة العفو على ذوي الحقوق كالوالدين ، والزوجة ، ومن لهم حق الهداية والارشاد.. فإنه ليس من الانصاف ابداً أن لا ننظر الى الطرف المقابل بمجموع صفاته.. فلا نجعل اساءة واحدة كافية لان تنسينا جميع الحقوق التي ينبغي مراعاتها في ذوي الحقوق.. إن هذا الاحساس – إذاما تحلينا به – كفيل لترطيب العلاقات الاجتماعية والاسرية بما يمنع حدوث المشاكل المختلفة.
ان الذي يرحم العباد ، ويعفو عن الخاطئين منهم ، لهو في معرض الرحمة الالهية الغامرة .. ومن الطبيعي ان ينظر الرحيم الودود بعين الود والرحمة , لمن غرس هذه الصفة الالهية في نفسه الى حد الملكة الراسخة ..
فلنرحم من في الارض ليرحمنا من في السماء..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.