Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
عناوين المحاضرة
عناوين المحاضرة
Layer-5.png
Layer-5-1.png

كيف تستثمر أيام العزاء الحسيني للتقرب إلى الله عز وجل؟

بسم الله الرحمن الرحيم

في مجالس الحسين (عليه السلام)؛ حدد محور الحركة نحو الله

لا ينظر المؤمن إلى مجالس الحسين (ع) على أنها مجالس البكاء واللطم وإنما هي مجالس تغيير الباطن والذائقة والجوهر. إن الإنسان إذا اعتاد على طعام محدد لا يستطيع أن يستسيغ الأطعمة التي لا تناسب مزاجه. ولابد للإنسان الذي عزم على السير إلى الله سبحانه والقرب منه أن يعمل على تغيير الجهة التي كان قد اعتاد أن يسير نحوها. وبتعبير أحد كبار العلماء: تغيير مبدأ الميل؛ فكل حركة دائرية لها محور، فحتى الكرة الأرضية تدور حول محور وهمي.

يطوف الحاج عند وصوله إلى مكة المكرمة حول الكعبة المشرفة، وهذا يعني أنه لابد أن تكون الكعبة محور الحاج في الطواف. ولكن لا ينبغي أن تكون الكعبة محورا لجسم الحاج فحسب؛ وإنما محورا لروحه، فالطواف البدني الظاهري ينتهي، ولكن لا ينتهي طواف المؤمن القلبي والروحي حول محور التوحيد إلى آخر حياته.

ولهذا تذهب الحج اول ما تذهب اول ما تذهب تطوف حول الكعبة اجعل الكعبة محورك لا في الطواف الطواف ينتهي لا تجعل الطواف محوراً لجسدك هذا طواف ظاهري رب العالمين يريد منا أن نجعله محوراً لطواف ارواحنا هو المحور بيته في العمرة والحج محور ولكن يريد منا أن نجعله هو المحور لا بيته الأرواح تدور حول محور التوحيد.

لا تستقل لبس السواد في مجالس الحسين (عليه السلام)

ثم إن إحياء مجالس الحسين (عليه السلام) ولبس السواد هو في ضمن هذه الحركة وهي من شعائر الله سبحانه التي  قال الله عز وجل عنها: (ذَٰلِكَۖ وَمَن يُعَظِّمۡ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقۡوَى ٱلۡقُلُوبِ)[١]. إن هذا السواد الذي يرتديه أغلب من يرتاد هذه المجالس هو دليل على أنها أصحاب مصيبة؛ فنحن نرى من الناس من لا يرتدي السواد دهره ولكنه يرتدي السواد في المصائب تماضيا مع ما يفرضه عليه العرف. فالسواد إذن دليل حزن ومصيبة، وارتدائه ليس بأقل من الغنم التي تُساق إلى منى وتوضع في عنقها علامة لكي تُعرف أنها للكعبة فلا تُمس، فهي قد جعلها الله سبحانه من شعائر الله في قوله: (يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡيَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰٓئِدَ)[٢].

أربعينية العاشر من محرم

ويستثمر المؤمن الأربعينية التي تبدأ من يوم عاشوراء وتنتهي باليوم الأربعين من استشهاد الحسين (ع)؛ فهي فرصة للتكامل، وللتخصص وهي فرصة لا نجد لها نظيرا في سائر الشهور والأيام. متى ترجو التغيير الباطني إن لم تتغير في شهري محرم وصفر؟ هل ترجو ذلك في الربيع أم في الجمادي؟ إذا لم يُغيرك الحسين (ع) ومجلسه والبكاء عليه ولم يؤثر عليك، فما الذي سيؤثر عليك؟ تصور أن تكون في الدوامة وأنت تستغيث وتستنج، فتأتي سفينة النجاة ثم لا تركبها؛ فهل ترجو النجاة بعدها أم أنك تجد نفسك في قاع المحيط؟ إن الحسين (ع) هو مصباح هدى في جميع الأيام والليالي ولكن السفينة تكون قريبة منك في هذه الأيام وفي هذه المجالس.

ولابد أن تكون عالي الهمة، قوي الإرادة، تجتنب الكسل الذي يولد الفشل عادة. وكما قال الشاعر:

ومن لا يحب صعود الجبال
يعش أبد الدهر بين الحفر

استعاذة من الفشل والكسل

ولذا نجد في الأدعية الشريفة استعاذة من الفشل والكسل، وكأنهما صديقان مقترنان. أينما تجد الكسل، تجد الفشل إلى جانبه. وقد يكون سبب الكسل عضويا، فقد سألت أحد الأطباء عن البعض يكون كسولا جدا، فقال لي: قد يكون ذلك من فرط نشاط الغدة الدرقية. وأي يكن سبب الكسل، فلابد أن يهتم المؤمن بعلاجه وبعلاج أي مرض يُعيقه عن القيام بالعبادات المطلوبة. إن المؤمن يهتم بصحته؛ فصحة البدن ضرورية للوصول إلى الكمال. لو مرضت قبل الحج بأسبوع، لن يسمحوا لك بالحج، وهذا حرمان لا ذنب لك فيه؛ كما أن الدابة التي تسافر عليها إلى الحج قد يُصيبها الخلل، فتقطع بك. ولذلك نجد المؤمن أحرص الناس على صحة جسده.

من صور تقوية العزيمة والهمة؛ المصارعة مع النفس. ومن هذه المصارعة التي يكون ميدانها غرفة النوم؛ مصارعة النوم. النوم هو السلطان الأكبر، وهو أكبر شيء يخدرك ويمنعك من قيام الليل. ونحن لم نسمع عن ولي من أولياء الله لم يكن من أهل القيام. وهؤلاء تتجافى جنوبهم عن المضاجع، وأبدانهم تجفو المضجع؛ فهم يكرهون النوم في تلك الساعة المباركة.

كيف تتدرج في قيام الليل؟

وعندما نتحدث عن قيام الليل لا نعني القيام لساعات، وإنما يكفي أن يستيقظ المؤمن في البداية خمس دقائق قبل أذان الفجر، فيسبغ الوضوء ويُقيم صلاتي الشفع والوتر وكل ذلك لا يستغرق أكثر من خمس دقائق؛ فالطريق الألف ميل، يبدأ بخطوة. ستكون هذه الخمس دقائق مقدمة لما هو أعلى. بل بإمكانك التخفيف عن نفسك أكثر من ذلك، فلا تصلي حتى؛ لأن مجرد قيامك من الفراش بطولة؛ فإن صليت فهي بطولة بعد بطولة. يكتفي أن تجلس في زاوية وتفكر في أمر الله وفي نفسك أو تستمع إلى القرآن وتتدبر فيه. لقد سمعت عن بعض من مشى في هذا الطريق أنه بدأ بالتفكر من الدقائق لينتهي بأربع ساعات؛ فهو كالمسمار المثبت في الحائط لا يتحرك في تلك الساعات ويكتفي بالتأمل والتحدث إلى ربه وهو يعيش – بحسب تعبيره –  في عالم لا يوصف يُدرك ولا يوصف.

قصة الشاب المدني في روضة النبي (صلى الله عليه وآله)

لقد رأيت ذات يوم في عمرة من العمرات في البقيع شاباً له سيماء مميز. ودأبي في مثل هذه الحالات أن أتقدم وأفتح مع هؤلاء الحديث، فقلت له: ما شأنك؟ قال: إنني رجل من أهل المدينة، وأنا أشكو فقد الأستاذ المربي والعالم المرشد. فقلت له: كيف تبحث عن المربي وأنت في جوار رسول الله (ص) وأئمة البقيع (ع)؟ فقال: وماذا تُريدني أن أصنع؟ قلت له: تصور أنه أستاذك ولك دوام يومي ينبغي أن تحضر عنده؛ فاذهب إلى الروضة كل يوم واجلس مؤدباً بين يدي رسول الله (ص)، وقل: يا رسول الله، علمني. ألسنا نرى اليوم أن المعلومات الكثيرة تنتقل بسرعة كبيرة من خلال أجهزة الهاتف من دون أن يكون هناك اتصال ظاهري بين المرسل والمرسل إليه؟ وهكذا بإمكان النبي (ص) أن يوصلك من العلم ما تحتاجه. تصور أنك كأصحاب النبي (ص) الذين كانوا ينتظرون الأعرابي يأتي ليسأل النبي (ص) فيتعلموا.

مرت الأيام وزرت البقيع مرة أخرى، والتقينت بالشاب وقلت له: أين وصلت؟ فقال لي: حصلت على الذي كنت أبحث عنه. فقد وصلت إلى درجة من التوجه الشديد بين يدي رسول الله (ص) لا أريد أن أفارقه، فلا أشتهي الطعام ولا أي شيء آخر مع أن منزله قريب من الروضة. وأضاف: إن رجلي لا تطاوعني أن أخرج من الروضة، فأنا أشعر أنه يحدثي في قلبي، وإذا أردت الخروج فإن حالي هو حال الطائرة التي تهبط تدريجيا لتستقر أخيرا على مدرج الطيران.

وقد التقيت به في سفرة أخرى وسألته عن حاله مجددا، فقال لي: إنني أرى الله معي في كل مكان. لقد بدأ من الرسول (ص) ووصل إلى مرحلة يشعر بالمعية الإلهية في كل آن. لقد واعدته ذات يوم في محل وقوف السيارات في البقيع، فدنوت منه ورأيته متمسر خلف مقود السيارة وكأنه أصيب بجلة، فنبتهته إلى حضوري، فقال: يا فلان، انتابتني حالة من التوجه فلو تحركت قليلا ولو لتغيير الغترة على رأسي لذهبت هذه الحالة؛ فهو كالذي ينظر إلى نقطة محددة ويمشي على الحبل، فلو اختل تركيزه سقط.

الفرق بين الإمام الحي والشهيد

وينبغي أن نعلم أنه لا فرق بين الإمام الحي والشهيد؛ فكلاهما أحياء والفرق بينهما هو الفرق بين الراكب والراجل ليس إلا. إن الفرق بين الإمام الحسين (ع) وإمام زماننا (عج) هو أن إمامنا حي يعيش بين أظهرنا، والحسين (ع) قد استشهد. إن الجيش منه ما يكون راجلا ومنه ما يستقل المدرعات فيسمونه راكبا. إن بدن الإمام هو مركوبه الذي يترجل منه ساعة الشهادة لتلتحق روحه بالرفيق الأعلى، ويتنقل من مكان إلى آخر ومنها وادي السلام؛ مجتمع أرواح المؤمنين حيث نلتقي بهم هناك.

إن الأرواح هي كالمادة؛ لا تفنى وإنما تنتقل من صورة إلى أخرى. ولهذا عندما نقول: اللهم رب هذه الأرواح الفانية؛ لا نعني بالفناء إلا الانتقال من هذه النشأة. ثم إن الذي كان يعيش في زمن الإمام الصادق (ع) في الهند مثلا؛ كان الإمام بالنسبة إليه إماما غائبا كزماننا اليوم. فالإمام الحجة (عج) موجود ولا نصل إليه والإمام الصادق كان موجوداً ولم يستطيعوا الوصول إليه لبعد المسافة. ولذلك نقول: إن باب الكمال والتكامل، وباب العروج والتهذيب والتزكية، وباب الارتباط بأهل البيت (ع) مفتوح دائما وأبداً. أغمض عينيك وقل كما قال الحر: يا أبا عبدالله، هل لي من توبة؟

لا يحول بينك وبين الإمام ضريح ولا قبر

هل تظن أن الضريح أو القبر يحولان بينك وبينه؟ ولذلك حاول ألا تركز كثيرا في الضريح والنقوش؛ بل أغمض عينيك وأطلق الروح لتلقي بالإمام (عج). ليس الحرم إلا بناء وجدرانا وقبة ومنارة وقبرا وصندوقا وإلى آخر ذلك وإنما حقيقة  الحرم هو الإمام. وقد كان أحد علمائنا يقول: دع الحرم يأتيك كما تذهب إليه؛ فليس نهاية الطريق الوصول إلى الحرم، وإنما مجيئ الحرم إليك؛ ويعني بذلك أن يسكن الإمام في قلبك وأن يكون كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء. لقد التقيت بطالب علم مجتهد فقال لي: إن لي حجرة في إحدى المدارس الدينية وأنا لا أذهب إلى الدرس إلا بعد أن أبكي على الحسين (ع) فبذلك يطمئن قلبي وترتاح نفسي.

عجيبة هي هذه الدمعة التي تبعث على السرور…!

وحقا عجيبة هي دمعة الحسين (ع)؛ التي توجب لك السرور والفرح. انظر بعد انتهاء المجلس الحسيني إلى الجماعات الخارجة كيف تعلو الابتسامة وجوههم؛ الابتسامة التي لا تجدها حتى في الأعراس . تخرج من مجلس الحسين وكلك سرور، والكل يأخذ حاجته، ويشعر بالبركة التي تعم الأرواح. ما الذي يجعلك تمشي في هذا الطريق في أيام الأربعين في  الحرارة العالية؟ لقد سمعت عن أحد المسئولين الكبار أن زائرا أتاهم في الأربعين فأصيب بحادث في ظهره وكان طريح الفراش إلى قابل ولكنه تهيأ للزيارة مرة أخرى قائلا: لا أفوت زيارة مولاي حتى وإن سرت إليه زحفا، وبافعل أتى إلى الزيارة وهو يتوكئ على عكازة له.

إن زيارة عاشوراء مدرسة وقيل: إنها حديث قدسي.  وكأن الله سبحانه يريد أن يكلمنا من خلال هذه الزيارة. وهي مروية عن المعصوم فهي زيارة مأثورة. ولعلمائنا قديماً وحديثاً علاقة بهذه الزيارة خاصة جدا. وعدوا من طرق التكامل الالتزام بهذه الزيارة؛ إن كانت الزيارة عن وعي لا مجرد قراءة بصوت جميل.

من المعاني التي وردت في هذه الزيارة؛ ثار الله. وهو معنى عميق؛ أي أن الله سبحانه هو الذي يثأر للحسين (ع) وهو صاحب المصيبة. إن صاحب المصيبة في الدنيا وصاحب الثأر هو الإمام زين العابدين (ع) باعتباره ابن الإمام الحسين (ع) ومن بعده ولده المهدي (عج) ومن ورائهم رب الأرباب.

ماذا يفعل رب العالمين إذا أراد أن يثأر لدم الحسين (ع)؟

إنه يغير الموازين. لقد ذهبت الدولة الأموية إلى مزبلة التاريخ؛ فكان العباسيون يبحثون عن الأموي تحت الحجر وينكلون به أشد التنكيل. وكان قد سبقهم المختار في تنكيل بهم والانتقام منهم، وإن كنا نعتقد أن حثالات العالم أمثال حرملة وإن لقوا حتفهم على يد المختار وانتقم منهم إلا أن انتقامه مان مؤقتا؛ والانتقام الأكبر سيقوم به الإمام المنتظر (عج). وهو ما نذكره في هذه الزيارة: طلب ثاري مع إمام منصور من أهل بيت محمد (ع). فولي الدم رب العالمين ورسول الله والإمام الحجة (عج) وبالتبع أنت. لابد وأن يكون من همومك الثأر لإمامك (ع). ومن المعاني الجميلة التي ذُكرت لهذه العبارة: هو أن الحسين (ع) ثأر لدين الله وللقرآن الذي هُتك وللإسلام الذي لم يبقى منه إلا الاسم وللقرآن الذي لم يبقى منه إلا الرسم.

المحرمية الباطنية مع أهل البيت (عليهم السلام)

ومما ورد: أن يجعلني معكم في الدنيا والآخرة. وهذه العبارة تحمل من المعاني العظيمة ما تضيق العبارات ببيانها. رأيتم في عالم التواصل يتخذون كلمة مفتاحية لمنشوراتهم، وهذه كلمة مفتاحية في هذه الزيارة. إن السادة هم محارم الزهراء (س) ومقام السيادة مقام لا يُشترى بالمليارات؛ فمن الأزل معروفون من هم أبناء الزهراء (س).

وبالطبع لهذا الانتساب ضريبة فقد قال سبحانه عن نساء النبي (ص): (يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدࣲ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيۡتُنَّۚ)[٣]. فإذا كان باب المحرمية النسبية مغلقا؛ فإن باب المحرمية الباطنية معهم لا يُغلق أبدا، وهو مفتوح أمام الجميع. ترى المؤمن يزور الحسين (ع) أو يزور أمير المؤمنين (ع) ويخاطبه: يا أبتاه. أليس الولد يضع رأسه على صدر والده؟ ضع رأسك على الضريح وخاطبه يا أبتاه، واشك له ما أصابك، ولا تقل له والدي؛ فهو والد السادة حصرا. ويصل المؤمن إلى درجة يرى المعصوم قريباً له وكأنه محرم؛ وهذه المحرمية أعلى من محرمية السيادة. فلو كان الرجل من ذرية النبي (ص) ولكنه كان عاصيا لا تنفعه هذه المحرمية.

[١] سورة الحج: ٣٢.
[٢] سورة المائدة: ٢.
[٣] سورة الأحزاب: ٣٢.
Layer-5.png
Layer-5-1.png

خلاصة المحاضرة

  • يطوف الحاج عند وصوله إلى مكة حول الكعبة، وهذا يعني أنه لابد أن تكون الكعبة محور الحاج في الطواف. ولكن لا ينبغي أن تكون الكعبة محورا لجسم الحاج فحسب؛ وإنما محورا لروحه، فالطواف البدني الظاهري ينتهي، ولكن لا ينتهي طواف المؤمن القلبي والروحي حول محور التوحيد إلى آخر حياته.
Layer-5.png