Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
عناوين المحاضرة
عناوين المحاضرة
Layer-5.png
Layer-5-1.png

كيف تبني مملكة الباطن لتصبح مملكة إلهية بجنودها ومستشاريها؟

بسم الله الرحمن الرحيم

الزمان من خصوصيات عالم المادة

في عالم الدراسات الأكاديمية يحتاج الإنسان إلى عدة سنوات لكي يتخصص في فرع من الفروع. فلو أراد أحدهم أن يصبح طبيبا، فلابد من أن يدرس عشر سنوات مثلا. وكذلك الأمر بالنسبة إلى من يريد أن يكون تاجرا ناجحا؛ فلابد من أن يعمل في السوق لسنوات قد تتجاوز العشرين. وكل أمر من أمور الحياة وكل مكسب من مكاسبها يتطلب منا جهدا ووقتا طويلا وهذه خصوصية عالم المادة. فإذا أراد أحدهم أن تكون له ذرية، أو أراد أن يبني منزلا أو يؤسس لتجارة أو عمل؛ لابد من أن يصبر فترة من الزمن قد لا تكون قصيرة.

طي النفس وانقلاب الباطن…!

ولكن الأمر يختلف في عالم الأرواح؛ فالزمان يُطوى بسرعة كما تُطوى الأرض لبعض الكاملين. ولكن ماذا نفعل بطي الأرض التي هي أمنية بالنسبة إلى الكثيرين؟ إن الأرض تُطوى لأحدهم فيصل إلى الرضا (ع)، وبإمكان أحدنا أن يشتري تذكرة سفر ويتوجه بالطائرة إلى هناك ويصل بعده بفارق ساعتين…! إن طي النفس أهم من طي الأرض بكثير. كن طموحاً ولا يكن همك الأمور الفانية. من الممكن أن يطوي الإنسان في ليلة واحدة المراحل تلو الأخرى فيصل إلى مراتب عليا من القرب إلى الله سبحانه. وهذا ما يصطلح عليه البعض بالانقلاب الأنفسي أو بطي الباطن. وقد كان الحر من هؤلاء. إنه في ساعة واحدة تاب فقبل الإمام (ع) توبته وتقدم للقتال ونال الأجر العظيم. ووصل إلى درجة يقف أمامه كبار العلماء قائلين: بأبي أنت وأمي كما يخاطبون العباس (ع) بذلك؛ فكلاهما في ضيافة الحسين (ع).

من أعظم المجرمين إلى أعظم المؤمنين…!

ومن هؤلاء سحرة فرعون الذين لو بقوا على ما كانوا عليه؛ لكانوا من أشد الناس عذابا يوم القيامة. فأولا: الساحر في حكم الكافر. ثانيا: يُدمر الساحر حياة الناس ويستهدف العلاقات الزوجية لقوله سبحانه: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنۡهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِۦ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَزَوۡجِهِ)[١]؛ فهم يعلمون على تعكير صفو الحياة الزوجية والتفرقة بين المتاحبين وكفى بذلك إجراما وقبحا. ثالثا: عملهم مع الطاغية فرعون الذي كان يدعي الربوبية ويُذبح أبناء بني إسرائيل ويستحيي نسائهم وإلة آخر ذلك. رابعا: استعمال هذا السحر لمواجهة دعوة نبي الله موسى (ع)؛ أي أنهم وظفوا هذا السحر لمقارعة الأنبياء.

ولكنهم عندما رأوا عصى موسى (ع) تبتلع حبالهم التي خُيل إليه من سحرهم أنها تسعى؛ قالوا: (ءَامَنَّا بِرَبِّ هَٰرُونَ وَمُوسَىٰ)[٢]. وعندما هددهم فرعون تهديدا شديدا وقال: (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَرۡجُلَكُم مِّنۡ خِلَٰفࣲ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمۡ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخۡلِ)[٣]، قالوا: (لَا ضَيۡرَ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ)[٤]. إن الذي يجعل الشهيد يحب الشهادة هو أنه اعتقد بما اعتقد به السحرة في تلك الساعة؛ أن منقلبه إلى ربه، ولذلك هانت مصائب الدنيا عليه.

طي النفس ونيل الدرجات في لحظات

أي شهوة تغريك وأنت تعلم أن ما بعد هذه الشهوة عذاب الأبد؟ وأي غضب يثيرك وأنت تعلم أن بعد هذا الغضب؛ غضب رب العالمين الذي لا يقوم له شي؟ لقد أصبح هؤلاء السحرة من أعظم التائبين حتى إننا نقول في مناجاتنا في شهر رمضان: (يَا قَابِلَ اَلسَّحَرَةِ اِقْبَلْنِي)[٥]. إن هؤلاء السحرة طووا النفس في لحظات كما طواها بشر الحافي أيضا. وكما طواها ذلك السارق الذي كان يتنقل بين البيوت وإذا به يسمع تاليا للقرآن يقرأ: (أَلَمۡ يَأۡنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن تَخۡشَعَ قُلُوبُهُمۡ لِذِكۡرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلۡحَقِّ)[٦]؛ فأصبح من بعدها من أولياء الله.

وبعد هذا لا ينبغي أن ييأس أحد مهما ارتكب من المعاصي والذنوب. لقد جائني ذات يوم شاب كان ممن يصلون خلفي، فقال لي: إنني ما تركت معصية إلا وقد ارتكبتها. ولكنه ببركة الصلاة والالتزام بالجماعة والمسجد؛ تغير حاله وجاء معنا إلى الحج وكان من أكثرنا بكاءً. ولكن الله سبحانه شاء أن يبتر عمره وهو في مقتبل الشباب؛ فلعله – والله العالم – لو بقي حيا لعاد إلى ما كان عليه، فكان الموت رحمة له. ولقد قال لي أحدهم من أصحاب المواكب والهيئات كلمة طيبة هي بشرى للحسينين، وهي: إننا في شهري محرم وصفر نتغير ونتأثر أكثر مما نتغير ونتأثر ونتفاعل في شهر رمضان المبارك، شهر الصيام وشهر ليلة القدر.

لا تيأس من رحمة الله عز وجل مهما عظمت ذنوبك وكثر تفريطك. فإننا لسنا من أهل المعاصي الكبار؛ فلسنا من القتلة الذين قال سبحانه عنهم: (وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنࣰا مُّتَعَمِّدࣰا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدࣰا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمࣰا)[٧] ولسنا من أهل الربا الذين وصفهم الله سبحانه في قوله: (ٱلَّذِينَ فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبࣲ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ)[٨]، ولسنا من السارقين الكبار وإنما أكثر معاصينا في معاصي فردية كاستماع الغناء والنظر وما شابه ذلك.

كيف أناجي ربي وأطلب من المغفرة؟

وكل المعاصي تعود إلى هذه الشهوة؛ شهوة العين وشهوة الأذن وشهوة اليد وإلى آخر ذلك. فاجمع كل هذه المعاصي في ملف وقل: (إِلَهِي إِنْ كَانَ اَلنَّدَمُ عَلَى اَلذَّنْبِ تَوْبَةٌ فَإِنِّي وَعِزَّتِكَ مِنَ اَلنَّادِمِينَ)[٩]أو قل: (مَا أَرَدْتُ بِمَعْصِيَتِي مُخَالَفَتَكَ وَمَا عَصَيْتُكَ إِذْ عَصَيْتُكَ وَأَنَا بِكَ شَاكٌّ وَلاَ بِنَكَالِكَ جَاهِلٌ وَلاَ لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌ وَلَكِنْ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي وَأَعَانَنِي عَلَى ذَلِكَ سِتْرُكَ اَلْمُرْخَى بِهِ عَلَيَّ فَأَنَا اَلْآنَ مِنْ عَذَابِكَ مَنْ يَسْتَنْقِذُنِي وَبِحَبْلِ مَنْ أَعْتَصِمُ إِنْ قَطَعْتَ حَبْلَكَ عَنِّي فَوَا سَوْأَتَاهْ غَداً مِنَ اَلْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْكَ)[١٠]. ولا تنس أثر البكاء على الحسين (ع) لما روي عن الإمام الرضا (ع): (فَعَلَى مِثْلِ اَلْحُسَيْنِ فَلْيَبْكِ اَلْبَاكُونَ فَإِنَّ اَلْبُكَاءَ عَلَيْهِ يَحُطُّ اَلذُّنُوبَ اَلْعِظَامَ)[١١]؛ فالذي استنقذ الحر في عاشوراء، يستطيع أن يستنقذك اليوم كذلك.

هل اكتشفت خارطة نفسك؟

ولابد من اكتشاف خارطة النفس للوقوف على ما يصلحها مما يُفسدها. هل تتخيل دولة بلا خارطة ولا يعلم الحاكم أو الرئيس أو العسكر فيها، الحدود البرية والبحرية والجوية؟ إنهم يتعرضون للقصف كل يوم من؛ لأن مملكتهم مفتوحة أمام الأعداء.

إن لمملكة الوجود أمير وهذا الأمير هو القلب. وإن هذا القلب يستمد طاقته من الحب، وللحب مورثات منها معرفة اللذة. لابد أن نجد للعمل لذة حتى نقوم به وهذا الأمر لا يتم في العبادات إلا من خلال التدرج، لما روي: (خَادِعْ نَفْسَكَ عَنِ اَلْعِبَادَةِ وَاُرْفُقْ بِهَا وَخُذْ عَفْوَهَا وَنَشَاطَهَا)[١٢].

أربعينية الحياء من الله…!

اعقد النية على الاتزام بأربعينية ترك المعاصي والأفضل أن تبدأ وتنتهي في شهري محرم وصفر. خاطب الشيطان قائلا: يا أبا مرة، أنت مر جداً؛ فأمهلني أربعين يوماً، فإنني أريد أن آخذها إجازة لنفسي وسأعود إليك. خادعه كما يُخادع السجين السجان ويطلب منه إجازة. ومن خرج من السجن وذهب إلى أهله؛ ما الذي يرجعه إلى السجن والتعذيب؟ إذا خرجت من مملكة إبليس فلن تعود إليها.

وأهم ما تقوم به في هذه الأربعينية المراقبة والحياء من الله عز وجل وقت المعصية. إن أحدنا يتعرى من ثوب التقوى عند كل معصية يرتكبها أو يزول مؤقتاً، وهذا الحياء من الله عز وجل هو الذي يجعلك تشمئز من نفسك. وتؤكد الروايات على التقنع عند الدهول إلى بيت الخلاء حياء من الله عز وجل، ومن الملكين اللذين معك. تقنع وقل: يا رب، لا ينظران إلي هذين الملكين. نعم الرادع عن المعاصي أن ترى عين الله الناظرة وتستحي منه. تصور أن تراقبك كاميرة ليل نهار وتعرض منك بثا مباشرا على كل الفضائيات؛ فكيف تتصرف عند ذلك منذ أن تستيقظ من النوم حتى تأوي إلى فراشك مرة أخرى؟ ألا تحاول أن تنضبط في سلوكك وكلامك؟ فلماذا جعلنا الله سبحانه أهون الناظرين؟

نحن مساجين هذه الدنيا

إننا نشبه المساجين في هذه الدنيا التي هي سجن وكل مدينة فيها سجن من السجون، فأحدهم مسجون في البصرة والآخر في بغداد وهكذا. والفرق بين هذه السجون وغيرها؛ أن المسجون فيها مسجون مع أهله وعياله وهو يشعر بالراحة ويرى أن سجنه سجن جميل ولكنه لا يعلم أن من في الخارج ينظرون إليه قائلين: متى تخرج من هذا السجن؟ وعزرائيل (ع) يتربص بهؤلاء السجناء ويُخرجهم واحدا تلو الآخر مرغمين.

ويا لها من حفرة موحشة، تلك التي سينتقلون إليها. ولكن أولياء الله قد خرجوا من السجن فهم مصداق ما روي عن الأمير (ع): (مُوتُوا قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا)[١٣]. لقد أصبح لهؤلاء أجنحة يطير بها ويخرجون بها من هذا السجن متى ما أرادوا ذلك، فيسرحون في حديقة غناءً وفي بستان جميل بين وقت وآخر ثم يرجع أحدهم إلى السجن ويتفقد حال الأهل والأولاد، ثم يرجع تارة أخرى في الليل ليطير في صلاة الليل. هؤلاء هم من وصفهم أمير المؤمنين (ع) قائلا: (صَحِبُوا اَلدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ اَلْأَعْلَى)[١٤].

متى يخرج الإنسان من سجن الدنيا؟

عندما يعلم أنه في سجن. أما الذي يشعر بالراحة لا يفكر في الخروج. ولابد من أدوات لهذا الخروج. إن السجين إما أن يثقب الأرض ويحتفر فيها حفرة يخرج منها وإما أن يطير من السجن، والذي امتلك هذه الأدوات لا يبقى في السجن لحظة واحدة. وإذا خرج منه سوف لن يعود إليه. ولكن ينبغي أن يحذر الإنسان من أن يعتاد على حياة السجن. إننا قد نزور السجناء ونرى الحياة المملة التي يعيشنها والروتين اليومي القاتل ولكن يصل الأمر بالبعض منهم ألا يشعر بهذا الضيق فيسرح ويمرح وكأنه حر طليق. إنه لا يشعر بالضيق كما يشعر بها زائره الذي يرجع إلى البيت ويرى أهله وعياله ويأكل الطعام الشهي الذي حُرم منه هذا السجين وحُرم من أهله وعياله.

هل فكرت في الخروج من سجن الدنيا؟

لابد وأن نفكر في الخروج من هذا السجن الممل والحياة الرتيبة التي تبدأ بالزواج والعمل ليل نهار ثم الإنجاب والتربية وتزويج الأولاد ثم التقاعد والوحدة إذا كان الأولاد ممن تزوجوا وذهبوا إلى أقصى القارات. لقد رأيت بعض كبار السن يتمنون الموت لأنهم ملوا الحياة وفارقهم أولادهم. ولو عملوا في أيام شبابهم على سلوك طريق القرب، لفرحوا بالخلوة في أخريات حياتهم وبالفراغ الذي يُمكنهم من الخلوة برب العالمين من دون أن يشغلهم شاغل بعد أن زوجوا الأولاد وتقاعدوا وأصبح لهم راتب يؤمن لهم ما يحتاجون لحين الموت. فرق بين إنسان يتمنى الموت وبين إنسان يقول: يا رب زدني عمراً ووسع مزرعتي؛ لأنها كلما وسعت، زاد المحصول، وزاد بذلك الخمس والزكاة. والكافر في سجن أيضا إلا أنه يسلي نفسه بالخمر والمخدرات وما شابه ذلك من المتع الآنية الزائلة.

الملل عقاب أهل الدنيا

وهذا الملل عقاب لأهل الدنيا. لقد روي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (كُلُّ نَعِيمٍ دُونَ اَلْجَنَّةِ مَحْقُورٌ)[١٥]. وقد رأيت أحد المؤمنين قد بنى بيتاً شبه قصر له ركن أندلسي وركن شرقي وإلى آخر ذلك وقد دعاني إلى منزله يوما، فقال لي: لقد أصبت بالاكتئاب وأنا أنتقل من كرسي إلى آخر ومن مائدة إلى أخرى، فلا شيء جديد. إن لكل جديد بهجة وقد فقد صاحبنا البهجة التي كان يتمنى بقائها. هذا ونرى الرجل له زوجة كأنها فلقة قمر في منتهى الجمال في المحكمة يريد طلاقها لأنه مل منها. وكذلك الأمر في الأثاث والسيارة التي تتمنى أن تغيرها بعد سنة لأنك تملها.

لقد ذهبت ذات يوم إلى إحدى البلدان الغربية الجميلة التي يستغرق الوصول إليها أربع ساعات وأنا لا أرى في الطريق إلا الغابات والجبال والبحيرات وقد مللتها وقلت لهم: هل هذا الذي يغريكم في بلاد الغرب؟ إننا نذهب إلى الحسين (ع) أو إلى النجف وسامراء والكاظمين فننتعش أكثر من انتعاشكم بهذه الأشجار والغابات والجبال. إننا نرى في النجف بحيرة جميلة وفي بغداد واحة من الواحات الخلابة وهكذا الأمر في جميع المشاهد؛ ولكن عينكم أنتم على البط والورد وما شابه ذلك من الأمور التي يملها الإنسان سريعا. وقد أكدوا لي ذلك وقالوا: نعم، الأمر كذلك؛ فقد مللنا المناظر الجميلة والوجوه الجميلة, ولذلك نرى البعض من الغربيين؛ يذهبون إلى صحاري أفريقيا للتنزه.

لا ملل في عالم المعنى

ولكن الأمر يختلف في عالم المعنى. لقد وردت كلمة جميلة في كتب الأخلاق وكأنها وحي منزل لو تأمل المتأمل فيها، وهي: لا تكرار في التجلي. إنك تصلي في اليوم خمس فرائض ولكنك لا تملها، وتمشي إلى الحسين (ع) وتتمنى أن تمشي إليه كل سنة. هل مللت من الزيارة؟ هل مللت من المواكب؟ كلا. ترى الرجل يُصاب في مسيرة الأربعين ورغم إصابته ينتظر السنة القادمة لكي يلتحق بركب الزائرين المشاة على الرغم مما يعانيه. ما هذه اللذة التي تجعله يعود مرة أخرى؟ إنها اللذة الباطنية.

لذة السؤال والدعاء

أمير الوجود هذه الروح؛ فهذبها وزكها لكي تصل إلى درجة: (نَقَلْتُ شَهْوَتَهُ فِي مَسْأَلَتِي وَ مُنَاجَاتِي)[١٦]. أي تصل إلى درجة تستأنس بالصلاة وبالمناجاة استئناسك بالنساء لأنها تصبح موافقة لمزاجك. وعندها في ليلة الزفاف تصلي صلاة الليل، وتقول: يا رب، اشهد علي، أنني أجد لذتي في صلاة الليل وهي ألذ من لذة النساء. فإذا كانت شهوتك في هذه المعانى، فقد وصلت.

جنود مملكة الباطن

ولابد لمملكة الوجود من جنود وهي العينين والجوارح والأذنين والفم والبطن والفرج. فإذا سيطرت عليها فإن مملكتك ستبقى سليمة محفوظة، وإلا قادوا انقلاباً عسكرياً ضدك وتمردوا عليك. عندها تنشغل العين بالنظر إلى الحرام والأذن بسماع الحرام والمعدة بابتلاع الحرام والفرج بممارسة الحرام وهكذا.

مملكة المماليك…!

هل سمعت بمملكة المماليك في التأريخ القديم؟ لقد انقلب المماليك على الحاكم العباسي وصاروا هم القادة. والتاريخ مليئ بقصص الجنود الذين تمردوا على الحاكم وأصبحوا هم الحكام. فحذار من أن ينقلب عليك جنود الباطن ويصبحوا هم الحكام عليك. إنني أتحدث إلى بعض الشباب أحيانا وآمرهم بترك الحرام، فيقول البعض منهم: ليس الأمر بيدي في ساعة الصفر. إن الذي يعترف بخراب مملكته أو بانقلاب الجنود عليه وأنه حاكم لا رأي له أم يأمر فلا يطاع؛ فعاقبته أسفل سافلين.

احترز من العين ونظراتها

ولابد من أن نتحكم نحن بالجوارح لا أن تتحكم هي بنا. من أهم هذه الجوارح؛ العين. لقد روي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (مَنْ غَضَّ طَرْفَهُ أَرَاحَ قَلْبَهُ)[١٧]. إن مشكلة الجامعيين الشهوة والنظر؛ فالنظر يثير الشهوة والشهوة تثير النظر؛ فهي حركة دائرية تبقى أحدهما يؤيد الآخر. لماذا تنظر؟ تنظر فتثار الهرمونات الجنسية وتبدأ بالإفراز وقد يصل البعض من الشباب إلى درجة تفرز فيه هرموناته الجنسية بصورة غير طبيعية، وأوصي هؤلاء بالذهاب إلى المختبرات لكي يتأكدوا من سلامتهم، ولكي يتناولوا دواء يقلل من هذه الإفرازات في الدم. إن هذه الإرازات هي في الأصل طبيعية؛ إلا أن النظر يزيدها. إنك بالنظر توقع نفسك في البئر وعندها تُفكر في الخروج؛ وقد كان الأولى بك الاحتراز من السقوط. وكما قال الشاعر:

ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له
إياك إياك أن تبتل بالماء

إن هذه الإفرازات يحتاجها الإنسان ليلة الزفاف، يا لها من إفراز مبارك يكون مقدمة للتناسل. أما الشاب الصعلوك الفقير الذي لا عمل له ولا أمل في الزواج قريبا؛ لماذا يثير هذه الإفرازات في مخه؟ إن الذي يُدمن النظر إلى الحرام، يتغير هذا المخ ويصبح مخاً شهوياً. لقد قال لي أحد المدمنين على الصور الإباحية أنه وصل إلى درجة يستثار باللون الأحمر حتى وإن رأى هذا اللون في سيارة تمر أمامه، لأن اللون الأحمر لون نسائي، فكيف إذا رأى امرأة؟ وقد ذكر لي أخصائي في الغدد، أن هذه الإفرازات باستمرار تؤثر على عمل الغدة وقد تختل في بعض الأحيان.

العاقل لا يحتاج إلى تحريم

والعاقل بعض النظر عن الدين؛ يمتنع عن هذه الأمور حفاظا على صحته. إن جعفر بن أبي طالب (ع) المشهور بصلاته التي يصليها كل من له حاجة إلى الله كان ممن لا يشربون الخمر في الجاهلية التي كان فيها الخمر مباحا. وكان الناس يشربون الخمر في مكة، ويشربونها في المدينة في أول سنة من سنوات الهجرة حيث لم تُحرم بعد وقد حرمها الله سبحانه تدريجيا إلى أن نزلت الآية: (يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسࣱ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ)[١٨].

إذا ذهبت إلى المدينة فاذهب إلى مسجد الفضيخ وهو مسجد عندما نزلت آية التحريم سكب الصحابة الخمر في مكان ما في هذا المسجد موجود إلى الآن. ولكن جعفر (ع) لم يكن يشرب الخمر لأنها تسلب عقله ويسكر ويُصبح مادة للندرة والسخرية من قبل الصبيان. وعند هؤلاء لا تحتاج هذه الأمور الضارة إلى من يحرمها؛ فيكفي أن تكون ضارة ويحكم بضررها العقل. ما الفائدة من أن ينظر الإنسان إلى هذه وتلك وهو يعلم أنه لن يصل إليها؟ إنني أضحك أحيانا على بعض السائقين خلف الإشارة الحمراء، عندما تمر امرأة فاتنة ينظر إليها إلى أن تعبر إلى الجانب الآخر ثم يُكمل المسير، ولا أدري ما الذي استفاده من هذه النظرة غير الوزر؟ ليتك وصلت إليها أو جلست معها أو خطبتها وتزوجتها. وقد تكون مخطوبة أو متزوجة لا يُمكن الوصول إليها بحال من الأحوال. إن العاقل يمتثل قوله سبحانه: (قُل لِّلۡمُؤۡمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِمۡ وَيَحۡفَظُواْ فُرُوجَهُمۡۚ)[١٩].

هل تريد زوجة بمواصفات قياسية

إنني أعرف شابا كان في معرض الزلل؛ فقد كان وسيما وحوله نساء كثيرات وكنت أوصيه بغض البصر فيقول لي: إن أصواتهن مثيرة فضلا عن أشكالهن، فكيف أستطيع أن أغض الطرف عنهن؟ فقلت له: أعرض عن أي امرأة تريد أن تنظر إليها بشرط أن تدعو بهذا الدعاء: يا رب، أنت قدرت لي امرأة اتزوجها بعد سنة أو سنتين أو عشرة أو عشرين، فإنني أريد منك يا رب، كلما غضيت بصري عن إحداهن، ارفع لي من مواصفات المرأة التي ستكون زوجتي.وهنا يجمع لك رب العالمين النقاط؛ فإذا غضضت طرفك ألف مرة، حصلت على ألف نقطة وأنا أضمن لك أن يعطيك زوجة على المواصفات القياسية.

مرت الأيام وحان وقت الزواج، فتزوج صاحبي هذا، فقلت له بعد الزواج: ما هي النتيجة؟ فقال: لقد حصلت على مرادي، وقد أنجبت له ابنة كأنها فلقة قمر بعد فترة قصيرة. لو أن هذا الشاب استمر في النظر إلى هذه وتلك وأثيرت شهوته في كل مرة؛ ما الذي كان سيستفيده غير الوزر والعقاب؟ وقد يعاقبه الله سبحانه بزوجة مشاكسة تنجب له ولداً معوقاً فتصبح حياته تعاسة في تعاسة.

السيطرة على جنود الباطن

إذا غض أحدنا طرفه؛ فقد قضى على ثلاثة أرباع الفتنة. فما الذي يبقى؟ ألا يسمع الغناء وأن يجتنب الغيبة. أما الغناء فهو صوت تتوتر الأعصاب عند سماعه، والغيبة أكل لحم أخيك ميتا. إن السارق يحصل على مال ولكن ما الذي يحصل عليه المغتاب؟ وعليك اجتناب الطعام المحرم بالإضافة إلى ذلك، ولله الحمد أصبحنا نجد الطعام المحلل حتى في الدول الغربية. وإذا ضبط الشهوة بزوجة صالحة على المواصفات القياسية، عندها يكون الأمير حبيب الله، والجند جند الله. بقي المستشارون في مملكة الوجود. وهنا أقول: إياك وأن تعطي عقلك لأحد وذلك أن تستشير كل أحد. ما لك ومشورة الجهلاء؟ اذا رأيت عالماً أو إنساناً ينظر بعين الله قد نور الله قلبه، فعليك باستشارته. قيل لعيسى (ع): من نجالس؟ قال: (مَنْ يُذَكِّرُكُمُ اَللَّهُ رُؤْيَتُهُ وَ يُرَغِّبُكُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَمَلُهُ وَ يَزِيدُ فِي مَنْطِقِكُمْ عِلْمُهُ)[٢٠].

لا تستشر كل أحد خاصة أولئك الذين تراهم في مواقع التواصل. لقد قال لي أحدهم: إننا فينا نحن أطباء النفوس مرضى نفوس…! فاستشر من نور الله قلبه ومن وصفته الرواية: (فَاتَّقُوا فِرَاسَةَ اَلْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اَللَّهِ اَلَّذِي خُلِقَ مِنْهُ)[٢١]؛ فإذا ما نصحك بشيء فخذ ذلك على محمل الجد وقل: لعله صائب فيما يقول.

[١] سورة البقرة: ١٠٢.
[٢] سورة طه: ٧٠.
[٣] سورة طه: ٧١.
[٤] سورة الشعراء: ٥٠.
[٥] مفتاح الفلاح  ج١ ص٣٣٥.
[٦] سورة الحديد: ١٦.
[٧] سورة النساء: ٩٣.
[٨] سورة البقرة: ٢٧٩.
[٩] زاد المعاد  ج١ ص٤٠٦.
[١٠] عوالم العلوم  ج١٨ ص١١٨.
[١١] المناقب  ج٤ ص٨٦.
[١٢] عیون الحکم  ج١ ص٢٤٢.
[١٣] الوافي  ج٤ ص٤١١.
[١٤] الخصال  ج١ ص١٨٦.
[١٥] مجموعة ورّام  ج٢ ص٣٩.
[١٦] کلیات حدیث قدسی  ج١ ص٣٢٧.
[١٧] غرر الحکم  ج١ ص٦٦٣.
[١٨] سورة المائدة: ٩٠.
[١٩] سورة النور: ٣٠.
[٢٠] بحار الأنوار  ج٧١ ص١٨٩.
[٢١] المحاسن  ج١ ص١٣١.
Layer-5.png
Layer-5-1.png

خلاصة المحاضرة

  • ماذا نفعل بطي الأرض التي هي أمنية بالنسبة إلى الكثيرين؟ إن الأرض تُطوى لأحدهم فيصل إلى الرضا (ع)، وبإمكان أحدنا أن يشتري تذكرة سفر ويتوجه بالطائرة إلى هناك ويصل بعده بفارق ساعتين…! إن طي النفس أهم من طي الأرض بكثير. كن طموحاً ولا يكن همك الأمور الفانية.
  • لا تستشر كل أحد أخصائي في النفس؛ خاصة في مواقع التواصل. لقد قال لي أحدهم: إننا فينا نحن أطباء النفوس مرضى نفوس. استشر من نور الله قلبه ومن وصفته الرواية: (فَاتَّقُوا فِرَاسَةَ اَلْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اَللَّهِ اَلَّذِي خُلِقَ مِنْهُ).
  • إن العاقل بعض النظر عن الدين؛ يمتنع عن المحرمات حفاظا على صحته. إن جعفر بن أبي طالب (ع) المشهور بصلاته التي يصليها كل من له حاجة إلى الله كان ممن لا يشربون الخمر في الجاهلية التي كان فيها الخمر مباحا وذلك لما كان يراه من ذهاب عقل كل من يتعاطاها.
Layer-5.png