• ThePlus Audio
Layer-5-1.png

كيف أستعد لليالي القدر المباركة؟ – إحياء ليلة القدر الثانية – الشيخ حبيب الكاظمي – ليلة ٢١ رمضان الكريم ١٤٤٦

بسم الله الرحمن الرحيم

لا تنتظر ليلة القدر الأخيرة؟!

ينتظر البعض منا ليلة القدر الأخيرة لكي يقوم بما عليه من أعمال ويحيي هذه الليلة بما تيسر من الدعاء والتلاوة وما شابه ذلك. ولكنه قد لا يعلم أن الليلة الأخيرة مرتبطة بالليلتين الماضيتين، وأن ليلة الواحد والعشرين هي بالإضافة إلى أنها من ليالي القدر، فهي مرتبطة بالإمام أمير المؤمنين (ع)، ولذا لا يفرط المؤمن في أي ليلة من هذه الليالي إطلاقا، ويجتهد في العمل بما يرضي الله فيها من خلال الالتزام ببعض الوصايا التي سأذكر ما تيسر منها.

الدمعة مطلوبة ولكنها ليست كل شيء؟!

أولا: الاجتهاد للحصول على رقة القلب والبكاء. قد يشتكي البعض من القسوة، فلا يرق قلبه من غروب تلك الليلة إلى مطلع الفجر، بالرغم من قراءة الأدعية والأعمال المأثورة كدعاء الجوشن، والصلاة مائة ركعة، وغيرها. بل قد يذهب البعض إلى زيارة الحسين (ع) في تلك الليلة ومع ذلك لا يجد الرقة التي يبحث عنها، ولا الإقبال الذي يرجوه، وقد يُصاب باليأس جراء ذلك. وهذه الحالة لا تختص بليلة القدر فحسب؛ بل هي من الحالات التي قد تصيبنا في أوقات الطاعة ومواسم العبادة. لقد ذكر لي أحد الحجاج، أنه انتظر الحج عمرا ولكن أغلقت الأبواب علي في يوم عرفة. فأنا الذي كنت أبكي في المواسم والمجالس، نشفت دمعتي على جبل عرفة.

وترى الرجل يبكي بمجرد ذكر اسم الزهراء (ٍس) ولكنه يزور المدينة المنورة ويدخل إلى الروضة أو البقيع فلا يرق قلبه في الأماكن التي يُحتمل أنها تتضمن قبر الزهراء (س). ولا ينبغي اليأس في مثل هذه الحالات، والالتفات إلى ما روي عن الإمام الصادق (ع): (إِذَا اِقْشَعَرَّ جِلْدُكَ وَدَمَعَتْ عَيْنَاكَ وَوَجِلَ قَلْبُكَ فَدُونَكَ دُونَكَ)[١]، فنلاحظ أن وجل القلب الذي هو تألم باطني أمر مقدس في نفسه وهو عامل غير البكاء.إذا ذهبت إلى أحدهم معزيا ورأى فيك هيئة الانكسار، اكتفى في مواساتك له بذلك، ولقال لك: بارك الله بك. وإذا رأى من يبكي رياء، لا يُقيم له وزنا، لأنه بكاء لا قيمة له ولا رصيد في الباطن.

قد يكفيك هذا الانكسار

تذهب إلى زيارة الحسين (ع) وأنت تقصده من مكان بعيد ويرى فيك الإمام الانكسار ولكن لا تجري لك عبرة، فهل تظن أنه (ع) لا يقبل زيارتك؟ قد تكون في تلك الساعة مرهقا من طول طريق السفر أو مريضا، ولا بأس أن لا تجري دمعتك في هذه الحالة، ولكن احذر الشيطان الذي يوسوس لك ويزهدك في هذه الزيارة أو يمنعك من تكرارها.

حذار من استمرار الإدبار في الليالي الثلاث

وإذا رأيت الإدبار مستمرا وانتهت ليلة التاسع عشر من دون دمعة، ثم أحييت الليلة الواحدة والعشرين ولم تجر لك دمعة كذلك، ودخلت في أجواء الليلة الأخيرة ورأيت الإدبار كما هو، فهنا لا بد من أن تتريث قليلا وتفكر في أمر نفسك، فكما يقال: الموضوع فيه إنّ. فلو ازداد نبض قلبك ذات يوم، قلت اضطراباً عابراً، ولكن إن استمر ذلك، تُصبح بحاجة إلى عرض أمرك على الطبيب.

كيف عالجت الإدبار في مشهد الجوادين (عليهما السلام)؟

لقد عرض علي عارض الإدبار هذا وأنا في مشهد الجوادين، فقلت: يا أبا جعفر، يا أبا إبراهيم، هذا مستشفاك وأنت باب المراد وباب الحوائج، وقد جئتك سقيما مريضا، أطلب منك الشفاء لهذا الإدبار الذي اعتراني. إن كون الإنسان في المشاهد المشرفة في ليالي القدر المباركة، فرصة لإعادة المياه إلى مجاريها بالتوسل إلى تلك الذوات الطاهرة. أما الذي يحيي هذه الليلة في البلاد البعيدة خارج هذه المشاهد المشرفة، فأوصيهم بأن يدعوا الله عز وجل في كل آن ويلهجوا بمناجاة التائبين. لقد روي عن الإمام الباقر (ع) أنه قال: (لَقَدْ غَفَرَ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ اَلْبَادِيَةِ بِكَلِمَتَيْنِ دَعَا بِهِمَا قَالَ اَللَّهُمَّ إِنْ تُعَذِّبْنِي فَأَهْلُ ذَلِكَ أَنَا وَإِنْ تَغْفِرْ لِي فَأَهْلُ ذَلِكَ أَنْتَ فَغَفَرَ اَللَّهُ لَهُ.)[٢]

وهو ما ورد في دعاء الإمام زين العابدين (ع): (إِذَا رَأَيْتُ مَوْلاَيَ ذُنُوبِي فَزِعْتُ وَإِذَا رَأَيْتُ كَرَمَكَ طَمِعْتُ)[٣]. ومن الكلمات التي لو استطاع الإنسان تذكرها في الآخرة، لأنجاه الله من العذاب ولو كان على باب من أبواب الجحيم بعد أن وضعت الموازين وتطايرت الكتب وأخذ العبد كتابه بشماله، وهي ما روي عن الإمام الباقر (ع): (يَا رَبِّ لَمْ يَكُنْ هَذَا ظَنِّي بِكَ. فَيَقُولُ: مَا كَانَ ظَنُّكَ بِي؟ قَالَ كَانَ ظَنِّي بِكَ أَنْ تَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي وَ تُسْكِنَنِي جَنَّتَكَ.)[٤] وهنا يأتي الأمر من الله عز وجل بإدخاله الجنة، لأنه ظن بالله خيرا.

كيف أخاطب الجوادين (عليهما السلام) إن زرتهما في ليلة القدر؟

وإذا كنت في مشهد الجوادين ليلة القدر، خاطب الإمامين (ع) قائلا: (يا سيدي، إنها أيام استشهاد جدكما أمير المؤمنين (ع) وقد جئتكما معزيا – وتصور كم كان يلطم ويندب الإمام الكاظم (ع) جده أمير المؤمنين (ع) وهو في ظلم المطامير، وكذلك كان دأبهم جميعا (ع) – وأنا ضيفيكما وأنتما من الكرام، فهل يعاقب المعزي أو يعاتب؟ إذا كان صاحب المصيبة يطلبك مالا، فذهبت تعزيه، هل سيطالبك بماله؟ ليس هذا من المروءة في شيء. ألم يقل النبي (ص) لأهل المكة: (اِذْهَبُوا فَأَنْتُمُ اَلطُّلَقَاءُ)[٥]؟ ألم يقل في مقام الرد على من قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم يوم المرحمة؟

توصيات مهمة استعدادا لإحياء ليالي القدر المباركة

إن الاستعداد لليالي القدر يبدأ من نهار تلك الليالي. إن الذي يتعب في النهار كثيرا، لا يستطيع أن يسهر في الليل إلا بمشقة. والذي يتناول الكثير من الطعام عند الإفطار، والذي يُكثر من اللغو والخوض في ما لا يعنيه، لا يحيي هذه الليلة كما ينبغي. ما يضرك أن تعتكف في ليالي القدر من المغرب إلى مطلع الفجر ليلة واحدة لا أربعين ليلة ولا ثلاث ليالي، وذلك بالابتعاد عن الغافلين؟ كيف تجلس أمام التلفاز في مثل هذه الليالي لمشاهدة ما لا ينفعك؟

سلام هي حتى مطلع السنة القادمة…!

إن ليلة القدر سلام هي حتى مطلع الفجر. فخذ زاوية قبل طلوع الفجر إن رأيت في نفسك إدبارا وخاطب ربك قائلا: يا رب، انتهى الليل ورُفعت الأعمال وجف القلم بما هو كائن، ولا أدري إلى أين وصلت من رحمتك ومغفرتك؟! يا رب، إنني لا أريد سلاما إلى مطلع الفجر فحسب؛ بل سلاما إلى سنة كاملة. لا تتركني في حوادث الدهور، فإن أوكلتني إلى نفسي فأنا ضائع تائه، فلا تتركني بعد هذا الشهر أيضا. فمن كان في سلام دائم، دخل في زمرة أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

لا أمان إلا في قصر السلطان

إذا كنت في صحراء قاحلة وحولك الوحوش المفترسة ووجدت ثمة قلعة ودخلت فيها وأقفل الباب، عندها ستكون في أمن وأمان ما لم يأتي الأمر من السلطان بإخراجك من القلعة. فإذا انتهى الوقت وطلب منك الخروج، قلت: إلى أين؟ إلى الوحوش المفترسة؟ وإلى حيث الهلاك والحرمان؟ إن ولي الله عند الله، وقد قال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)[٦]. وهو يخشى بانتهاء ليلة القدر من الخروج من هذا المأمن والملجأ، فيتضرع إلى الله ألا يخرج من مأمنه.

لتكن ليالي القدر البداية لا النهاية…!

هذا وقد ترى حتى الكسول في هذه الليالي يدعو ربه من المغرب حتى الصباح، وقد كان همه بطنه وما تشتهيه نفسه في سائر الليالي. وهي ليلة يكون فيها أكثر المؤمنين من أولياء الله عز وجل بمعنى من المعاني، وهذا ما ينبغي أن يستمر حتى بعد شهر رمضان المبارك. أنت أنت، الذي أحييت ليلة كاملة من غروبها حتى مطلع فجرها، فلماذا تعجز عن ذلك في سائر الليالي؟ إن أحدنا كآبار النفط المقفلة، يملك خزينا من القابليات التي لم تُستخرج بعد، وهذه هي الليالي التي يستخرج المؤمن ما خفي من كنوز نفسه.

[١] أعلام الدین  ج١ ص١١٢.
[٢] الکافي  ج٢ ص٥٧٩.
[٣] مفاتيح الجنان.
[٤] فقه الرضا علیه السلام  ج١ ص٣٦١.
[٥] الکافي  ج٣ ص٥١٢.
[٦] سورة النحل: ١٢٨.
Layer-5.png
Layer-5-1.png

خلاصة المحاضرة

  • الذي يتابع من بيته المجالس التي تُحيى في العتبات المشرفة ويتفاعل ويبكي معها، فهو معهم وإن لم يكن بينهم. ترى الرجل منهم عند رفع المصاحف يبكي كما يبكي الجموع في المشاهد. فهل يُهمل رب العالمين هذا الكم الكبير في داخل العتبات وخارجها، وقد اجتمعوا للدعاء والمناجاة؟ حاشا وكلا…!
  • إن من أعمل هذه الليالي المباركة، ذكر أمير المؤمنين (ع) بالطريقة التي تفضي في نهاية المطاف إلى مشايعته. لقد أحصيت صفات المتقين الواردة في خطبة الأمير (ع)، فكانت أكثر من سبعين صفة، فأين نحن من هذه الصفات؟
  • نحن لا نريد أن نكون في الحج والعمرة وزيارة المشاهد المشرفة في الأوج، ثم نتنزل بعد ذلك في سائر الأيام. إنما نريد أن نكون في قمة طاعة الله عز وجل في كل يوم من أيام الحياة في المواسم وغيرها.
Layer-5.png