Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
عناوين المحاضرة
عناوين المحاضرة
Layer-5.png
Layer-5-1.png

كظم الغيظ في سيرة الإمام الكاظم (عليه السلام)

بسم الله الرحمن الرحيم

ربيع الأرواح وشهر الرحمة

لقد جعل الله سبحانه في عالم الأرواح أشهر ثلاثة تُسمى بربيع الأرواح، وهي شهري رجب وشعبان وشهر رمضان المبارك. وإذا أردنا أن نتقن العمل في شهر شعبان، لابد وأن نتقن ذلك في شهر رجب وأن نستفيد من أول يوم من هذا الشهر إلى آخر يوم فيه. ومن فاته شهر رجب؛ سيفوته شهر شعبان. وقد وردت أعمال كثيرة لها فضل عظيم وأجر جزيل في هذه الأشهر الثلاثة. ومن هذه الأعمال صلاة بسيطة من قام بها؛ خرج من الذنوب كيوم ولدته أمه، وجدير بالمؤمن مراجعة كتب الدعاء والأعمال للاطلاع عليها.

هل يُعقل هذا الثواب العظيم على هذا العمل الصغير؟

ولكن قد يتسائل البعض متعجبين عن عظيم الثواب الذي يتعلق بهذه الأعمال البسيطة؛ فكيف يستحق العبد هذا الثواب العظيم على عمل قد لا يأخذ منه إلا

دقائق معدودة؟ أو كيف يغفر الله سبحانه الذنوب جميعا لصلاة خفيفة؟ وأقول: إن المشرك ينطق بالشهادتين، فيغفر الله سبحانه ما اركتبه قبل إسلامه، وإن الله سبحانه ليعطي أجر أكثر من ألف شهر لمن أحيا ليلة القدر؟ ولماذا نستبعد هذا الأجر ممن هو أكرم الأكرمين؟ إنك تجد جهازا ضخما في هذه الدنيا يشغله طفل صغير من خلال كبسة زر؟! إن بإمكان عمل صغير أن يجلب لك نفعا كبيرا في هذه الدنيا؛ فكيف بالآخرة؟ وقد وعد عباده بجنة عرضها السماوات والأرض. ولا فرق عنده بين أن يعطيك غرفة في الجنة أو آلاف القصور؛ فهو الكريم والقادر على ما يريد، وهو الذي قال في كتابه: (إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيۡـًٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ)[١].

لكل عمل حسابه

إن الأعمال في هذه الأشهر الثلاثة؛ أعمال مدروسة قد جعلها رب العالمين من موجبات التفضل على عبده. ويُمكننا تقريب ذلك من خلال المثال التالي: لو أنك سحبت ورقة يانصيب بملغ زهيد وربحت ورقتك لأخذت الآلاف في مقابل ذلك المبلغ الذي دفعته وهذه في الدنيا، فكيف بالآخرة؟ وفي بعض المعارض الدولية يُهدى البعض ممن يحمل في جيبه مثلا خمسين فلسا من الفلوس القديمة، سيارات فخمة جداً كمكائفة لهم. إن الله سبحانه يبحث عن أعذار وسبب لكي يكافئك بهذه المكافئات الضخمة منها الغسل في أول الشهر ووسطه وآخره؛ فمن فعل ذلك خرج من الذنوب كيوم ولدته أمه.

هل ملزمون بالبحث السندي في الروايات الأخلاقية والثوابية؟

وقد يبحث البعض عن سند هذه الروايات وهو أمر لا داعي له في الأمور المستحبة؛ فليس ثمة فتوى ينبغي العمل بها حتى نقيم العمل على أنه واجب أو مستحب ويجوز أو لا يجوز أو نبحث عن المعارضات لهذه الرواية وما شابه ذلك من الأمور التي يعتني بها المجتهد عن صدور الفتوى وإنما هو فعل عليه ثواب معين نعمل به رجاء لذلك الثواب. ففي الرواية الأخلاقية التي تنهى عن الحسد مثلا، لا داعي لكي نبحث عن سند تلك الرواية ما دامت واضحة المعنى. وقد لا نحتاج إلى هذا البحث في بعض الروايات التاريخية؛ كالرواية التي تتحدث عن أن النبي (ص) كان لا يقوم من مجلس وإن خف إلا ويستغفر الله خمسا وعشرين مرة وهو عدد غير مألوف بالنسبة إلى الروايات التي تتحدث عادة عن السبعين والأربعين مثلا.

لا تدع الشك يحرمك الأجر الجزيل

وللأسف الشديد نرى البعض يحرم نفسه من الأدعية المعروفة كدعاء كميل والندبة والصباح وزيارة عاشوراء مشككا في سندها. وهو بالطبع الخاسر في هذا المضمار. إنه يظن أن الله سبحانه وهو أكرم الأكرمين، سيقول له: إنك قمت بهذه الأعمال وهي أعمال لم أوص به ولم يوص بها المعصومون ولن تنال من أجل ذلك الأجر عليها وهذا كلام لا يُمكن القبول به. لقد ورد عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (مَنْ بَلَغَهُ عَنِ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ شَيْءٌ فِيهِ اَلثَّوَابُ فَفَعَلَ ذَلِكَ طَلَبَ قَوْلِ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ اَلثَّوَابُ وَإِنْ كَانَ اَلنَّبِيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ لَمْ يَقُلْهُ)[٢].

تصور إنسان فقيرا قد أعطي حوالة ليذهب إلى منزل أحدهم ويقبض منه ألف دينار، ولكنه يخطئى المنزل ويطرق باب جاره الكريم. هل تظن أن جاره سيقول له: لقد أخطأت المنزل ومنزل جاري في المكان الفلاني؟ أم أنه سيعطيه المبلغ المذكور؟ هل تظن أن الإمام يوم القيامة يقول لك: لقد أخطأت بقيامك بهذا العمل الذي لم أقله ولا أجر لك؟ فإذا ما بلغك ثواب على عمل؛ فلا تترد فيه واعلم أن الله سبحانه أكرم من أن يخيب عبده.

أين نصيب القلب من ذكرك؟

ثم لا تجعل عملك مقصوراً على الكلمات اللفظية والأوراد التي تعددها بسبحة إلكترونية أو حجرية؛ ودع القلب يأخذ نصيبه من الذكر. هذا والبعض ممن ينشغل بالأذكار لا يُجيبك إذا تكلمت مع وقد تعتريه حالة الرياء. إن هذه الأذكار من دون توجه وإقبال تشبه الصك الذي لا توقيع عليه أو الصك الذي ليس فيه عدد غير الصفر…! إننا لا ندعي أن الله سبحانها يُثيب العبد على الأذكار اللسانية ولكن لن يحصل على ذلك الأثر البليغ الذي يرتجيه.

شهران تتمرن فيهما لخوض المباراة الكبرى…!

إن شهري رجب وشعبان؛ هما شهران نتمرن فيهما ونتهيأ ونستعد للدخول إلى شهر رمضان المبارك حتى لا نتفاجئ بالشهر المبارك مفاجأة. إن الصيام والقيام في هذين الشهرين يُشبه ما يقوم به الرياضيون قبل المباراة. ترى اللاعب يخرج من بيته إلى معسكر تدريبي لمدة شهر أو شهرين يُحبس فيه ويتدرب من الصباح إلى الليل ويلعب كل يوم استعدادا للمبارات الكبرى. وهذه رياضة لا تتعدى عالم الأبدان وقد ينال اللاعب فيها كأسا من الذهب أو كأسا مذهب والحال أن الجائزة التي ينالها المؤمن في هذه المبارة؛ سعادة الدارين. إن الاستعداد لهذه المباراة يتم فيه شهري رجب وشعبان والمباراة الكبرى هي في شهر رمضان المبارك.

شهد الشهر

وثمرة الشهر أو شهد الشهر ليلة القدر. إن رب العالمين قد أعطاك عشرين يوما إضافيا أيضا للتمرين والاستعداد لهذه الليلة المصيرية. ولعل السر في إخفاء هذه الليلة في ليال ثلاث؛ هو الاستعداد في ليلتين سابقتين لليلة الأخيرة من ليالي القدر المباركة. يا لها من خطة محبوكة مهندسة وإن كنا نجهل كثيرا من تفاصي هذه الهندسية الربانية.

جزاء الجوع الاختياري من الله سبحانه

إن الله سبحانه يقول: (وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ * ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتۡهُم مُّصِيبَةٞ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ * أُوْلَـٰٓئِكَ عَلَيۡهِمۡ صَلَوَٰتٞ مِّن رَّبِّهِمۡ وَرَحۡمَةٞۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُهۡتَدُونَ)[٣]. ما هو المراد بالجوع في هذه الآية؟ إن القحط الذي يصيب الناس ويتسبب بالمجاعة؛ يُثيب الله سبحانه الصابر عليه بأن يصلي عليه. ما هي المعادلة؟ الذي يجوع للقحط يصلي عليه رب العالمين؛ فكيف بمن جاع باختياره تقرباً إلى الله لا نقصا في الثمرات وقلة في المطر وما شابه ذلك؟ ولهذا يرى الصائم نفسه في هالة من النور؛ خاصة في شهر رمضان. ومن الظواهر الملفتة أننا نرى الرجل لا يصلي ولكنه يصوم في شهر رمضان لما يجد من حلاوة في باطنه لا يشعر بها في سائر الأعمال كالصلاة.

وتدرب على إقامة جزء من الليل بين يدي الله عز وجل. قد يقول قائل: إننا لا نوفق لصلاة الفجر، ثم تأتي لتوصينا بقيام الليل؟ وأقو: من لا يوفق لصلاة الفجر لا في يوم ولا يومين ولا في شهر ولا شهرين وإنما بشكل مستمر فهو في وضع صعب…! لقد روي عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (إِنَّمَا مَنْزِلَةُ اَلصَّلَوَاتِ اَلْخَمْسِ لِأُمَّتِي كَنَهْرٍ جَارٍ عَلَى بَابِ أَحَدِكُمْ فَمَا ظَنُّ أَحَدِكُمْ لَوْ كَانَ فِي جَسَدِهِ دَرَنٌ ثُمَّ اِغْتَسَلَ فِي ذَلِكَ اَلنَّهْرِ خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي اَلْيَوْمِ أَ كَانَ يَبْقَى فِي جَسَدِهِ دَرَنٌ)[٤].

الصلاة مضاد حيوي…!

وموعد كل فرض من فروض الصلاة هو كموعد الدواء الذي يتناوله الإنسان. إنك إذا تناولت الماضادات الحيوية في موعدها التي حددها لك الطبيب؛ انتفعت بها، وإلا فإن النتيجة قد تكون عكسية أحيانا، لأن الجرثومة تتقوى في مثل هذه الحالة. يأتي البعض من العمل فلا يصلي الزوال بحجة أنه متعب من العمل، فينام بعد الغداء ليستيقظ نصف ساعة قبل الأذان، فيجمع في تلك الساعة صلاة الفجر والظهر والعصر ويوصلها بصلاتي المغرب والعشاء؛ فهو في اليوم والليلة لم يقم لربه إلا مرة واحدة. إن هذا الإنسان تغزوه الجراثيم، وأي جرثومة أعظم من جراثيم الأبالسة؟ لقد روي عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (لاَ يَزَالُ اَلشَّيْطَانُ ذَعِراً مِنَ اَلْمُؤْمِنِ مَا حَافَظَ عَلَى اَلصَّلَوَاتِ اَلْخَمْسِ فَإِذَا ضَيَّعَهُنَّ تَجَرَّأَ عَلَيْهِ فَأَدْخَلَهُ فِي اَلْعَظَائِمِ)[٥]. إن الصلاة هي المضاد والحماية، فإذا لم يكن له مضاد أمام الشياطين استخفت به وأدخلته في العظائم؛ فهو كمن فقد جميع كريات الدم البيضاء لا يحمي روحه من إبليس وجنوده أحد. وصلاة الصبح تُكمل هذه الوقاية.

حال المؤمن الذي لا يستيقظ لصلاة الفجر

لو قيل: إن في هذا البلد صباحاً الساعة الخامسة في المحل الفلاني يوزع التاجر الفلاني على الناس ألف دولار مثلا وأنت طوال الليل مستعد لتكون في الصف الأول؛ ولكن يغلب عليك النوم، فهل تقول عندها: سقط التكليف؟ أو تقول: واخسارتاه؟ وينبغي أن تحفزك خساراتك المتتالية على النهوض في تلك الساعة. ثم تصور أنك تطرق باب كريم ولا يفتح لك ثم يأتي أخوك فيطرق فيُفت له؛ ألا تقول: إنه غير راض عني؟ إن الذي لا يقوم لصلاة الفجر قد يكون مغضوبا عليه. إننا نقرأ في الدعاء: (اَللَّهُمَّ إِنِّي كُلَّمَا قُلْتُ قَدْ تَهَيَّأْتُ وَتَعَبَّأْتُ وَقُمْتُ لِلصَّلاَةِ بَيْنَ يَدَيْكَ وَنَاجَيْتُكَ أَلْقَيْتَ عَلَيَّ نُعَاساً إِذَا أَنَا صَلَّيْتُ)[٦]؟ نحن لا نتحدث عمن لا يستيقظ مرة أو مرتين وإنما عن الذي لا يستيقظ بصورة مستمرة.

ولكن الذي يستيقظ لصلاة الصبح فترة من الزمن؛ يتعود على ذلك. ثم يكفيه أن يستيقظ قبل الصلاة بخمس دقائق؛ دقيقة للوضوء، ودقيقتان لصلاة الشفع ودقيقتان لصلاة الوتر، فيكون من المستغفرين بالأسحار وممن قام الليل وإن لم يقم الليل كله.

إن للأئمة (ع) ألقاب تشبه الألقاب القدسية. فمن ألقاب إمامنا موسى بن جعفر (ع) أنه كاظم الغيظ. ومن يريد التأسي به، لابد وأن يكون كاظما لغيظه. إن حياتنا اليومية مليئة بالمغيظات أو المثيرات، ويشتكي أغلب الناس من ضعف الأعصاب وأنه كبرميل من الباروت ينفجر من أول شرارة لكلمة تخرج من فم هذا أو ذلك.

ماذا لو لم تُسيطر على غضبك؟

إن هذا الغيظ إذا لم يسيطر عليه الإنسان جره إلى ارتكاب الجرائم الكبيرة وإلى قتل الأبرياء. وقد قال سبحانه: (وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا)[٧]، بغض النظر عمن ذهب إلى أن هذا القتل الذي يُخلد فيه صاحبه في النار؛ هو القتل الذي يكون من أجل إيمان المقتول. فقد روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (اَلْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنَ اَلْكَعْبَةِ)[٨]، والإنسان بنيان الله في الأرض، ولا ينبغي هدمه، والتوبة عسيرة جدا لمثل هذا القاتل. إنه ليس لهذا الغيظ والغضب حد، إلى درجة يتطاول في الولد على والده. لقد ذكر لي أحدهم: أن ولده جره من قميصه وهم بضربه، لأنه انتابته حالة من الغضب.

غضب الزوج على زوجته

أما الشكاوى التي تأتينا من النساء؛ فحدث ولا حرج. فقد تأتينا بعض الشكاوى عمن لا نتوقع من مثله الغضب. فترى ازوجة تشتكي من زوجها الذي له آثار بينة للسجود على جبينه، وتقول إنه يعذبنا في المنزل وآثار الضرب تبقى إلى فترة طويلة، وما ذلك إلا لأنه عاجز عن السيطرة على غضبه.

أغلق هذا الباب واسترح

من سد باب الغضب، سد على نفسه نصف باب الشر، النصف الآخر هو من الشهوة. فإذا ملك الإنسان شهوته وغضبه، فقد ملك نفسه تماما، واستطاع أن يطير طيراناً، فهو لا يحتاج إلى تلك المجاهدة التي يحتاجها غيره للسير إلى الله عز وجل وتحصيل قربه.

الغضب على ما يُنشر في وسائل التواصل

ومن أنواع الغضب ما يتم نشره من الكلام القبيح في وسائل التواصل. تارة يضربك أحدهم على خدك عندما يُثار ويغضب، هذا لا يتفق كثيرا؛ وتارة يتكلم عليك في مواقع التواصل كأن ينشر كلاما كاذباً، فيدعوك ذلك إلى الغضب وهذا الغضب ليس في محله لما روي عن الإمام الكاظم (ع) أنه قال: (يَا هِشَامُ لَوْ كَانَ فِي يَدِكَ جَوْزَةٌ وَقَالَ اَلنَّاسُ لُؤْلُؤَةٌ مَا كَانَ يَنْفَعُكَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهَا جَوْزَةٌ وَلَوْ كَانَ فِي يَدِكَ لُؤْلُؤَةٌ وَقَالَ اَلنَّاسُ إِنَّهَا جَوْزَةٌ مَا ضَرَّكَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهَا لُؤْلُؤَةٌ)[٩]. فلا قيمة لكلام الناس. لو أن أحدهم قال لك: إن وجهك أسود كالفحم وأنت تعلمك أن وجهك ناصع البياض، ما ضرك كلامه؟ بل تضحك على جهالته وتقول له: اذهب وافحص نظرك، لا أن تغضب عليه وتستهزئ به.

ولم يسلم من كلام الناس حتى النبي الأعظم (ص)؛ فقد وصفوه بالمجنون وهو عقل الكل، وقالوا: شاعر وكاهن وإلى آخر  ذلك. لقد قيل لأحد المراجع: إن الناس تتكلم عليك، فقال: دعهم يتكلمون؛ فالكلام هواء والهواء لا يؤذي، وإنما أرجو ألا يضربوني، فالضرب موجع…! إن من يرى الكلام هواء؛ فهل يؤذيه كلام الناس؟

من بركات الحلم وكظم الغيظ

ثم إن للحلم وكظم الغيظ آثار عظيمة. لقد رأيت أحد خدام المنبر الحسيني لم أر مثله في الكمال الباطني، وقد رزقه رب العالمين التأثير في النفوس. إن الخطيب الماهر هو الذي يبكي الناس بالموعظة لا بالنعي؛ فمن الطبيعي أن يبكي الناس عند استماع مصائب أهل البيت (ع) من خلال النعي. لقد كانت لهذا الرجل قدرات عجيبة؛ فهو يبكي الناس بموعظة ويُضحكهم بأخرى. فهو بتعبير السابقين: قد رُزق القبول؛ أي أن لكلامه تأثير. وقد علمنا منشأ هذا الرزق وهو أن الرجل كان حليما جدا. عندما توفي هذا الخطيب، ذهبت إلى منزله لأقدم واجب العزاء إلى عائلته، فقالت لي زوجته: عشت معه أكثر من أربعين سنة؛ فلم يرفع صوته علي قط في يوم من الأيام.

تشبه بالإمام الذي تزوره

فإذا زرت موسى بن جعفر (ع وأنت كاظم الغيظ؛ استقبلك بالأحضان، وقال لك: أهلا بالكاظم. ولا نعني بذلك أن تكون كاظم الغيظ طوال حياتك وإنما إذا استطعت أن تكظم غيظك في أحيان كثيرة، فأنت قريب من الإمام الكاظم (ع) لوجود سنخية بينكما في جانب من الجوانب. وكذلك إذا كنت جوادا وذهبت إلى زيارة الجواد (ع). لقد رأيت أحد المتميزين، فيسألته عن سر تميزه، فقال لي: لقد سألني سائل ذات مرة، فأخرجت ما في جيب من دون عد وناولته إياه. فلعل ذلك كان سببا في الأخذ بيده.

من الأمور التي ينبغي أن تشغل بال المؤمن؛ هداية الناس جميعا. ولا فرق في رجل الدين وغيره؛ فالجميع يتجمل هذه المسئولية وينبغي أن يحرص على هداية الناس من حوله. أ ليست لك زوجة تحتاج إلى هداية؟ أ ليست لك ذرية أو إخوة في المنزل؟ كل واحد منا لابد أن يكون هادياً إلى الله عز وجل، فقد روي عن النبي الأكرم (ص) أنه قال لأمير المؤمنين (ع): (لَئِنْ يَهْدِي اَللَّهُ عَلَى يَدَيْكَ نَسَمَةً خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ اَلشَّمْسُ)[١٠].

أساليب التأثير على الآخرين

أول قاعدة من قواعد الهداية معرفة أساليب التأثير على الآخرين. إن التأثير على الآخرين فن من الفنون له علمه وله كتبه. هنالك علوم حديثة ليوم كعلم الطاقة والقيادة والتأثير على الآخرين والإدارة الذكية وما شابه ذلك. وبعض هذه المسميات هي تجارية بحتة؛ فهو يعطيك عنواناً عريضاً ويجمع الناس ساعات في ورشة عمل، لو عصرت تلك الساعات لما خرجت منها كلمة واحدة. فهم أكثر ما يتكلمون بكلام إنشائي لأجل كسب المال. لقد جمع نبي الله يوسف (ع) كل القوانين الإدارية وإدارة الطاقة البشرية في كلمتين: (ٱجۡعَلۡنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلۡأَرۡضِۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيم)[١١]؛ أي أمين متخصص. فالذي يجمع بين التخصص والأمانة هو الذي ينبغي أن يكون محافظاً أو وزيرا أو رئيساً للوزراء وإلى آخر ذلك.

ولا بأس تقرأ بعض الكتب النافعة للتأثير على الآخرين والتي منها ما يسمى بلغة الجسد. كيف تستطيع أن تؤثر على زوجتك أو تقدم نصيحة لولدك وأنت مقطب الوجه والحاجبين؟ إن الكلام في مثل هذه الحال؛ لا ينفذ في الأعماق. عليك أن تصاحب ذلك بالابتسامة اللطيفة وحركة اليد، وحتى الثوب الذي تلبسه واللون والمكان لها تأثير على من تتحدث معه. ففرق بين أن تنصح الزوجة في مطبخها وبين أن تنصحها على شاطئ البحر أو في حديقة أو في خلوة أو عمرة في ثوب الإحرام مثلا. إنها مقبلات مفيدة تساعد على التأثير.

ما هي خاصية التأثير الأنفسي؟

القاعدة الثانية: سل الله عز وجل أن يهبك خاصية التأثير الأنفسي. إن البعض من الناس له قلب متصل بالعرش ولكنه قد يعجز عن التعبير أحيانا، فقد روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (تَجِدُ اَلرَّجُلَ لاَ يَسْتَطِيعُ يُعَبِّرُ عَمَّا فِي قَلْبِهِ بِلِسَانِهِ وَقَلْبُهُ يَزْهَرُ كَمَا يَزْهَرُ اَلْمِصْبَاحُ)[١٢]. ترى الرجل أميا قرويا يعيش في الأرياف وهو كبير السن، ولكنه يتكلم كلاما على بساطته هو عين الحكمة. إنها كلمات تصدر على لسانه من عالم الغيب.

يُذكر أن أحدهم ممن كان دهره مشغولا باللعب واللهو سمع من رجل يقول له ذات يوم: ما لهذا خُلقنا، فانقلبت حياته رأسا على عقب بعد سماعه هذه الكلمة التي هي بالتأكيد قد صدرت من قلب متصل بالعرش. ومعروفة هي قصة السارق الذي سمع أثناء السرقة قارءا يقرأ قوله سبحانه: (أَلَمۡ يَأۡنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن تَخۡشَعَ قُلُوبُهُمۡ لِذِكۡرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلۡحَقِّ)[١٣]. فصاح وقال: والله قد آن، قد آن؛ فصار بعد ذلك من كبار العباد والأولياء. إن ذلك القارئ للقرآن في ذلك الليل البهيم؛ قد أمن السارق بقراءته تلك ولعله لو لم يكن مشغولا بلقرآن قتل ذلك السارق أو حدث بينهما ما لا يُحمد عقباه.

كيف أنجى الإمام الهادي (عليه السلام) يونس النقاش وقد أشرف على القتل؟

لقد كان لإمامنا الهادي خادما اسمه كافور، كما كان قنبر لأمير المؤمنين (ع). وقد كان لأئمتنا (ع) خداما يقومون بشئونهم. إن كافور الخادم ينقل رواية عن رجل من الموالين اسمه يونس النقاش، كان ينحت على الفصوص وهو بتعبيرنا اليوم: حكاك. لقد جاء النقاش هذا للإمام الهادي (ع) ذات يوم يوصي بأهله وعياله وكأنه في طريقه إلى الإعدام. قال: (اِبْنُ بُغَا وَجَّهَ إِلَيَّ بِفَصِّ لَيْسَ لَهُ قِيمَةٌ، أَقْبَلْتُ أَنْقُشُهُ فَكَسَرْتُهُ بِاثْنَيْنِ وَمَوْعِدُهُ غَداً وَهُوَمُوسَى بْنُ بُغَا ، إِمَّا أَلْفُ سَوْطٍ أَوِ اَلْقَتْلُ)[١٤]. وهكذا هو دأب الظلمة أن يقتلوا الناس بأدنى سبب أو بلا سبب حتى.

تقول الرواية: (فَلَمَّا كَانَ مِنَ اَلْغَدِ وَافَى بُكْرَةً يُرْعَدُ، فَقَالَ: قَدْ جَاءَ اَلرَّسُولُ يَلْتَمِسُ اَلْفَصَّ. قَالَ: اِمْضِ إِلَيْهِ فَمَا تَرَى إِلاَّ خَيْراً. قَالَ: وَمَا أَقُولُ لَهُ، يَا سَيِّدِي قَالَ: فَتَبَسَّمَ، وَقَالَ: اِمْضِ إِلَيْهِ وَاِسْمَعْ مَا يُخْبِرُكَ بِهِ، فَلَنْ يَكُونَ إِلاَّ خَيْرٌ. قَالَ: فَمَضَى وَعَادَ يَضْحَكُ. قَالَ: قَالَ لِي، يَا سَيِّدِي: اَلْجَوَارِي اِخْتَصَمُوا، فَيُمْكِنُكَ أَنْ تَجْعَلَهُ فَصَّيْنِ حَتَّى نُغْنِيَكَ. فَقَالَ سَيِّدُنَا اَلْإِمَامُ: اَللَّهُمَّ لَكَ اَلْحَمْدُ إِذْ جَعَلْتَنَا مِمَّنْ يَحْمَدُكَ حَقّاً، فَأَيْشٍ قُلْتَ لَهُ قَالَ: قُلْتُ: أَمْهِلْنِي حَتَّى أَتَأَمَّلَ أَمْرَهُ كَيْفَ أَعْمَلُهُ. فَقَالَ: أَصَبْتَ)[١٥]. لقد جعل الإمام الهادي (ع) أن تجري الأحداث إلى حيث هو يريد؛ فسل الله عز وجل أن يتصرف في قلوب محبيك.

ماذا أفعل بولدي العاصي؟

لقد جائني أحد الإخوان وهو مختنق بعبرته وقال: لقد ربيت ولدي ثمانية عشر سنة بين مشي للمواكب وخدمة حسينية، وإذا بي أطلع عليه على ما يسوءني وأنا أريد أن أطرده من المنزل وقد منعته من ذلك طبعا، فليس الحل هو الطرد. وبعض البلاء أهون من بعض، فحال صاحبنا هذا أفضل ممن يبتلى بابنته التي تخرج عن الطريق وتلوث سمعة عائلته. ومع ذلك لا ينبغي أن ييأس الإنسان. خذ بيده احتيالاً إلى زيارة الحسين (ع) وألصقه بالضريح المبارك من جهة الرجل الشريف عند قبر علي الأكبر (ع) وقل: يا أبا عبدالله، بحق ولدك هذا أصلح لي ولدي فقد عجزت عن إصلاحه ولا أرى أن لكلامي تأثيرا عليه. وافعل ذلك بالزوجة الناشز؛ فقد يمن الله عليك بالاستجابة وترى التغيير الذي ترجوه.

لا تيأس وأمامك الحر…!

إن حر الذي أدخل الرعب في قلوب الهاشميات، تغير وصار من خيار أصحاب الحسين (ع) وصار حرا كما سمته أمه بنظرة ولائية من الإمام الحسين (ع). ويقف اليوم أمام قبره المراجع قائلين: بأبي أنت وأمي. لا تقل إن الحر قد واجه الحسين (ع) ورآه، فهل تعتقد أن الحسين (ع) ميت؟ نعوذ بالله من ذلك. إن سيد الشهداء هو سيد من هم أحياء عند ربهم يرزقون. لا تجعل الضريح حائلا وصندوق القبر مانعا، وانظر إلى من في القبر الشريف. فإن الضريح قد صعنه بعض المهرة من الصناع، والصندوق الذي على القبر صنعه نجار. انظر إلى العرش وإلى من ورد فيه: (خَلَقَكُمُ اَللَّهُ أَنْوَاراً فَجَعَلَكُمْ بِعَرْشِهِ مُحْدِقِينَ)[١٦]، وإلى من قال الله فيه: (يَـٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ * ٱرۡجِعِيٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةٗ مَّرۡضِيَّةٗ * فَٱدۡخُلِي فِي عِبَٰدِي * وَٱدۡخُلِي جَنَّتِي)[١٧].

[١] سورة يس: ٨٢.
[٢] المحاسن  ج١ ص٢٥.
[٣] سورة البقرة: ١٥٥-١٥٧.
[٤] تفسیر العیاشی  ج٢ ص١٦١.
[٥] الکافي  ج٣ ص٢٦٩.
[٦] البلد الأمین  ج١ ص٢٠٥.
[٧] سورة النساء: ٩٣.
[٨] بحار الأنوار  ج٦٥ ص١٦.
[٩] بحار الأنوار  ج١ ص١٣٦.
[١٠] تفسير نور الثقلين  ج٢ ص٢٧٣.
[١١] سورة يوسف: ٥٥.
[١٢] الکافي  ج٢ ص٤٢٢.
[١٣] سورة الحديد: ١٦.
[١٤] الأمالي (للطوسی)  ج١ ص٢٨٨.
[١٥] الأمالي (للطوسی)  ج١ ص٢٨٨.
[١٦] بحار الأنوار  ج٩٩  ص١٢٧.
[١٧] سورة الفجر: ٢٧-٣٠.
Layer-5.png
Layer-5-1.png

خلاصة المحاضرة

  • لقد جعل الله سبحانه في عالم الأرواح أشهر ثلاثة تُسمى بربيع الأرواح، وهي شهري رجب وشعبان وشهر رمضان المبارك. وإذا أردنا أن نتقن العمل في شهر شعبان، لابد وأن نتقن ذلك في شهر رجب وأن نستفيد من أول يوم من هذا الشهر إلى آخر يوم فيه. ومن فاته شهر رجب سيفوته شهر شعبان وبعده شهر رمضان.
  • كيف يستحق العبد الثواب العظيم على عمل قد لا يأخذ منه إلا دقائق؟ أو كيف يغفر الله الذنوب جميعا لصلاة خفيفة؟ إن المشرك ينطق بالشهادتين، فيغفر الله ما اركتبه قبل إسلامه، وإن الله يعطي أجر أكثر من ألف شهر لمن أحيا ليلة القدر؟ فلماذا نستبعد هذا الأجر ممن هو أكرم الأكرمين؟
  • لم يسلم من كلام الناس حتى النبي (ص)؛ فقد وصفوه بالمجنون وقالوا: شاعر وكاهن وإلى آخر ذلك. لقد قيل لأحد المراجع: إن الناس تتكلم عليك، فقال: دعهم يتكلمون؛ فالكلام هواء والهواء لا يؤذي، وإنما أرجو ألا يضربوني، فالضرب موجع…! إن من يرى الكلام هواء؛ فهل يؤذيه كلام الناس؟
Layer-5.png