التخطيط والبرمجة :
إن لكل حركة في هذه الحياة -سواء كانت الحركة في مجال تنمية الدنيا، أو تنمية ما يتعلق بالآخرة- تحتاج إلى تخطيط وإلى برمجة دقيقة.. فالذين يتذرعون بمسألة التفويض والإيكال إلى الله عزوجل، مستغنين عن برمجة حياتية دقيقة، هؤلاء مخطئون في عملهم.. فإن النبي المصطفى (ص) كان أول المتوكلين، ولم يدانيه أحد في مسألة التفويض إلى الله عزوجل، ولكن في حياة النبي المصطفى (ص) نلاحظ أنه في غاية الدقة والبرمجة، سواءً في تثبيت مسار الأمة في حياته، أو في تثبيت مسارها بعد وفاته.. ومن هنا جاء الغدير والنص، وحديث المنزلة والطائر المشوي والسفينة…؛ حيث كان يمهد للأمة ما ينبغي أن يكون عليه بعد ذلك.
البحث عن الدوافع الحقيقية :
إن من المبادئ الأساسية في النجاح في حركة الدعوة إلى الله عزوجل: البحث عن الدوافع الحقيقية.. ففرق بين النية التلقينية، وبين النية الواقعية.. فإنه من دقائق الأمور ومن لطائف الأمور ومن مشكلات الأمور -الذي هو أخفى من دبيب النمل على المسح الأسود في الليلة المظلمة-: البحث عن النوايا الباطنية.. ولطالما الإنسان يغلف دواعيه الذاتية والإنية والدنيوية بمنطلقات إلهية، ولكن الله عزوجل ناقد بصير، وأدرى بنا من أنفسنا!.. ومن هنا لابد أن نبحث في سويداء النفس، عن الدواعي التي تجعلنا نتحرك في الحياة؛ طلباً للعلم، أو عطاءً للأمة، أو تأليفاً لكتاب، أو ما شابه ذلك.. أحد العلماء السلف يقال أنه عندما استقرأ مسيرته الماضية، رأى أن هنالك الكثير من النوايا الشركية، ولم يعول أخيراً إلا على عمل بسيط، أراد به وجه الله سبحانه وتعالى!.. كم من الناس أنفقوا الطعام في سبيل الله عزوجل، ولكن الله عزوجل في سورة الدهر خلد ذكر علي وفاطمة والحسنين (ع)؛ لأن شعارهم كان: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا}.
هناك تعبير جميل للشهيد الصدر الأول (رحمه الله وحشره مع أوليائه) يفرق بين الداعويات الحقيقية وغير الحقيقية -تعبير الداعوية مصطلح في علم الأصول.. أو لنقل المنطلقات أو الدوافع-.. إن الإنسان من الممكن أن ينطلق من منطلقات معينة بحسب الواقع، ولكن بحسب النية الظاهرية يجعل للأمر منطلقات أخرى.. ولطالما شبهت في هذا المجال المنطلقات أو الدواعي التي تحرك الإنسان للزواج.. فالمنطلق الحقيقي هي الغريزة، ولكن الإنسان الذي يريد أن يتزوج في بعض الحالات، يريد أن يجمع بين الاستمتاع الدنيوي، وبين الأجر الأخروي -ولا مانع من ذلك-؛ فيجعل منطلقه رضا الله عزوجل.. لا بأس بهذه النية، ولكن شتان بين الانطلاق من مبدأ إرضاء الله عزوجل، وبين الانطلاق من منطلق الغريزة!..
قد يقول قائل: أن في مسألة الزواج هنالك منطلقا غريزيا، وفي جمع المال هنالك منطلق الحب الشديد: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}، وكذلك حب الذرية وما شابه ذلك.. ولكن في علاقتنا بالله عزوجل، ما هي الخلفية التي تحل محل الغريزة؟.. نحن في أكلنا، وفي شربنا، وفي استمتاعاتنا، هنالك منطلقات معروفة؛ ولكن في علاقتنا بالله عزوجل ما الذي يدفعنا إلى ذلك، حيث لا استمتاعا ظاهريا بهذا القرب؟.. فالإنسان الذي يصلي صلاة الليل، لو وضعنا هذه الصلاة في ميزان الدنيا، ما هي المتعة في ذلك؟.. بالعكس هنالك تجاف عن الفراش، وهنالك مغالبة للنوم أو ما يسمى بالسلطان الأكبر.. فإذن، لابد أن نبحث عن البديل في هذا المجال!..
إن الذي يجعلنا نتوجه إلى الله عزوجل توجهاً حقيقياً، هو مسألة المحبة الإلهية.. ذلك الحب الذي يتغلغل في شغاف القلب.. إذا كانت الوجوه الفانية، وجوه الحسان من النساء، هكذا توقع البعض في الأسر؛ فكيف إذا انقدح في القلب، أو تصور في القلب، أو وقع في القلب صورة مصور هذا الجمال، وصاحب هذا الجمال؟!.. هذا الحب الذي يتجلى في دعاء كميل.. كما نلاحظ كيف كان علي (ع) يناجي ربه من منطلق الحب عندما يقول: (صبرت على عذابك، فكيف أصبر على فراقك؟!.. وهبني صبرت على حر نارك، فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك؟!).. وعلي يتكلم هذه الفقرات من دون أية مجاملة.. ولو لم ير علي (ع) في حياته إلا البلاء -كما كان كذلك-؛ لما خرج هذا الحب الإلهي من قلبه.
أحدهم سأل النبي (ص) عن موعد الساعة، فقال له النبي (ص): (ما أعددت لها)؟.. -إن البعض يسأل عن الجزئيات التي قد لا تفيده كثيراً: يسأل عن الساعة، وعن زمان الساعة، وعن بعض الجزئيات من المعاد التي لا تنفعه أبداً.. فالنبي المصطفى (ص) بتوجيه جميل للأمة أعاد السؤال على السائل، قائلاً: (ما أعددت لها)؟.. أي ما هي الثمرة العملية للاعتقاد بالمعاد والقيامة؟..- فقال: (ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة؛ ولكني أحب الله ورسوله).. فقال له النبي (ص): (أنت مع من أحببت).
وهنالك كلمة دقيقة في الحب يحسن التأمل فيها!.. يقال: بأن العمل فيه رياء، والشيء الذي لا رياء فيه هو الحب، فالحب إما موجود أو معدوم ولا ثالث لهما.. نعم، الإنسان من الممكن أن يرائي بالحب الواقعي الذي في قلبه، الرياء في الإظهار، في إبراز هذا الحب، وإلا أصل الحب لا رياء فيه.. إما هنالك مسانخة مع المحبوب، أو ليست هنالك مسانخة.. الإنسان الذي أحب حقيقة، هذا الإنسان يكون صادقاً في حبه.
من المعلوم أن الله عزوجل جعل موسى (ع) خادماً لشعيب (ع).. ومن المعلوم أن موسى هو الكليم، وأرفع درجة من شعيب، وهو من أنبياء أولي العزم؛ فما السبب الذي جعل الله عزوجل يجعل موسى خادماً له؟.. إنه هذا الحب الذي كان في قلبه.. قال رسول الله (ص): (بكى شعيب (ع) من حب الله -عز وجل- حتى عمي، فرد الله -عز وجل- عليه بصره.. ثم بكى حتى عمي، فرد الله عليه بصره.. ثم بكى حتى عمي، فرد الله عليه بصره.. فلما كانت الرابعة، أوحى الله إليه: يا شعيب!.. إلى متى يكون هذا أبدا منك؟.. إن يكن هذا خوفا من النار فقد أجرتك، وإن يكن شوقا إلى الجنة فقد أبحتك، فقال: إلهي وسيدي!.. أنت تعلم أني ما بكيت خوفا من نارك، ولا شوقا إلى جنتك؛ و لكن عقد حبك على قلبي، فلست أصبر أو أراك.. فأوحى الله -جل جلاله- إليه: أما إذا كان هذا هكذا، فمن أجل هذا سأخدمك كليمي موسى ابن عمران).
فإذن، إن الإنسان الذي يريد أن ينطلق من منطلقات حقيقة، لابد أن يبحث في هذا المجال.. ولكن هنا قد يسأل الإنسان: كيف أحب هذا الوجود، الذي كلما أقدم فكري فيه شبراً فر ميلا؟.. كيف يحب الإنسان الوجود الذي هو فوق دائرة حواسه؟.. الإنسان يحب المحسوس والمأكول؛ فكيف يحب ما هو فوق عالم الحواس؟.. الجواب هنا فيه تفصيل.. وإجمالاً: إن الأمر يحتاج إلى بلوغ، يحتاج إلى أن يصل إلى مرحلة وصل إليها علي (ع)، يتأسى بعلي -وإن لم يصل إلى مرحلته- في أن يصل إلى مرحلة اليقين.. فإذا وصل إلى هذه المرحلة، وتجلت له التجليات الإلهية في قلبه؛ عندئذ لا يصبر على حب ربه، كما في وصف علي (ع) للمتقين: (لولا الآجال التي قد كتب الله عليهم، لم تقرّ أرواحهم في أجسادهم؛ خوفاً من العذاب، وشوقاً إلى الثواب).. الحديث في هذا المجال مفصل.
تغيير محور الميل :
إن الفكرة تحتاج إلى دراسة وإلى مطالعة كتاب.. هذه الأيام نلاحظ في بعض الجامعات، هنالك شباب في سن البلوغ أعطاهم الله عزوجل قابلية كبيرة في الحفظ والفهم.. إن جمع المعلومات أمر سهل جداً، هي عملية ميكانيكية: العين تبصر، والقوة الإدراكية تستوعب، وهنالك جهاز يخزن.. أشبه ما يكون بالحاسوب في هذه الأيام.. وإنما الذي ينبغي أن نعمل عليه هو الميل.. فالإنسان أشبه شيء بالسفينة الواقفة، والسفن الشراعية قديما كانت تعتمد على حركة الهواء: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا}، {رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ}.. فرب العالمين من صفاته أنه يُزجي ويحرك.. إن سفننا قد تكون محملة ببضائع غالية ونفيسة، ولكن إذا لم تكن هنالك قوة مزجية، قوة محركة، فالذي يزجي الفلك، والذي يزجي السحاب؛ إذا لم يتدخل في دفع الإنسان إلى الجهة التي يريدها، فإن هذا الإنسان سوف لن يصل إلى الساحل المقصود.. ولهذا يقول علماء الأخلاق وعلماء السير إلى الله عزوجل: إن حانت لكم التفاتة إلى الله عزوجل في ساعة استجابة، وأنت متعلق بأستار الكعبة مثلاً؛ سل ربك أن يتصرف في شهيتك الباطنية، في شهيتك الروحية.. فإن الإنسان إذا وصل إلى مرحلة اشتهى فيها التكامل، والحديث مع ربه، وتلذذ في قيامه في الليل، وفي صلاته في النهار؛ فهذا الإنسان لا يحتاج إلى كثير حث في هذا المجال، وإنما ينطلق انطلاقة فطرية طبيعية.
وعليه، فإن من الشروط ومن المواصفات في هذا المجال، أن ننظر إلى ميولنا بشكل طبيعي؛ فإن الميل التكلفي قد لا يثمر بنتيجة.. إذ من الممكن أن يقوم إنسان هذه الليلة بصلاة الليل، وذلك بعد أن يقرأ كتاباً عن صلاة الليل، وبعد أن يقرأ الروايات التي تحثه في هذا المجال، وكرامات الذين يقومون الليل، ومثلاً يحفزه هذا الحديث الذي يقول: (أشراف أمتي حملة القرآن وأصحاب الليل).. ولكن هذه الدوافع التي توجد من منطلقات فكرية، أو من حث الآخرين، من الطبيعي أن تزول بزوال محركاتها.. لذا لابد من أن نصل إلى درجة، عبر عنها القرآن بمرحلة التزيين في القلب: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ}.. لأن العبد إذا وصل إلى مرحلة يرى فيها صلاة الليل متعة من المتع، ويرى شد الرحال إلى بيت الله الحرام وإلى مشاهد أوليائه، من السفرات التي فيها كمال المتعة، وأشد متعة من سفرة مع زوجة -كما يقال هذه الأيام- في شهر العسل مثلاً.. إذا رأى أن المكوث في بيت الله عزوجل، مكوث بين يدي الرب بكل ما للكلمة من معنى؛ فإن هذا الإنسان من الطبيعي أن يعشق كل ما يرتبط بهذا العالم.
إن التدريس والتعليم والخطابة ورقي المنبر، وكل ما يتعلق بالعطاء للغير؛ هذه العملية من دون النظر للمنطلقات الباطنية، عملية مادية صرفة.. هنالك ذهن يعمل ويؤلف بين المقدمات والنتائج، بين الصغريات والكبريات، ويصل إلى نتيجة، ثم هذه النتيجة يرسلها عبر إشارات إلى جهاز النطق عنده، فيتحرك الفكان واللسان والشفتان.. عملية مادية جداً.. كحاسوب أعطي المعلومات، ثم أرجعها لك.. الذي يريد جهداً جهيداً، هو العمل في جانب النفس والروح، هنا الفخر وهنا البطولة.. والذين كتب الله لهم الخلود في هذا المجال، هم الذين بالغوا في تنقية هذه المنطلقات الباطنية، وحياة علمائنا السلف مليئة بهذه النماذج.
تصفية رواسب الماضي :
نحن -مع الأسف- في بعض الحالات نُعجب بالعناوين.. إنسان كان خارج الجامعة أو الحوزة، ثم أصبح تلميذاً في الجامعة أو الحوزة أو ما شابه ذلك؛ وكأن هذا العنوان أعطاه الحصانة!.. ومن المعلوم بأن هذه العناوين أمور انتزاعية.. انتزعنا من سفر الإنسان إلى الجامعة والحوزة بأنه طالب علم، وبأنه طالب ثقافة.. فالبعض قد يعيش حالة من حالات العجب، والإحساس بالتضخم الكاذب، وأنه صار على شيء، وهو ليس على شيء.. إن هذا أول الطريق.. هذا تشبه بالسائرين في هذا المجال.. إن الشيطان ينتظر ليقطف الثمار عندما تثمر، فكيف إذا كان الإنسان نبتة بسيطة؟!.. والشيطان لا يستعجل في قطف الثمار -لا يستعجل أبداً-، بل ينتظر مرحلة الأثمار، لتكون الضربة قاصمة بالنسبة إلى بني آدم، الذي يضمر له كمال العداوة كما نعلم.
التفريق بين الفضائل وبين آلية الوصول إلى الهدف :
إن من الضروري التفريق بين مسألة الفضائل المجردة، التي نبحث عنها من خلال كتب الحديث والسنة؛ وبين ديناميكية أو آلية الوصول إلى الهدف.. ولهذا في تاريخ علم الأخلاق هنالك علمان يبحث عنهما: تارة يكون البحث عن الفضائل والرذائل، وتارة يكون البحث عن كيفية الوصول والسير.. ومن هنا يقول العلماء: إن الذي يريد أن يصل إلى درجة كمالية في هذا المجال، لابد وأن ينظر إلى نفسه كسائر وكمسافر، وفي روايات أهل البيت (ع) وفي الآيات القرآنية هنالك إشارة صريحة في هذا المجال.. قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}: إن الفرار فيه حركة، وفيه خوف.. فالإنسان يفر من حيوان مفترس، ويفر من عدو يلاحقه إلى جهة آمنة.. هنالك عدو مطارد، وهنالك حركة فرارية، وهنالك جهة يلتجئ إليها الإنسان.
إن العرفان والسير والسلوك، كل ذلك يتلخص في هذه النقطة: أن نعيش حالة العداوة.. هنالك عدو متربص؛ ذلك العدو الذي أنزل أبانا وجدنا آدم من الجنة، ولو بقي في الجنة لعله كنا نحن الآن في خدمته.. ومن المعلوم أن الشيطان كان خطيب الملائكة، والذي بلغ من العبادة ما بلغ، وعندما أمر بالسجود واستنكف، طلب من الله عزوجل أن يمهله ويعفيه من هذه العبادة، ليعبد ربه عبادة لا نظير لها.. من الضروري للإنسان أن يعيش هذا الهاجس.. والشيطان له سفيره في الباطن، والسفير هو الهوى والشهوات.. فإذن، إن لهذا العدو الذي يريد أن ينتقم منا، موطئ قدم في أنفسنا.. فهلا تنبهنا لذلك؟.. وخاصة أصحاب القيادات في الأمة.. لنلتفت إلى هذا المثل: إذا جاء عدو وأراد أن يهلك أهل قرية ماذا يعمل؟.. فبدلاً من أن يقتل فرداً فرداً من أهل تلك القرية، فإنه يذهب ليسمم ماء تلك القرية، فمن شرب من ذلك الماء أرداه قتيلاً.. إن الشيطان له إصرار في أن يصل إلى منابع الهداية، ومنابع الهداية هم العلماء والحوزات العلمية.. على الإنسان أن يلتفت جيداً إلى أنه بمجرد أن نصب نفسه هادياً إلى الله عزوجل، وداعياً إليه، فقد رفع شعار الصراع والحرب مع الشيطان!.. والشيطان عدو حقود، فالذي يرفع لواء الصراع معه، سيضاعف الجهود في تحريفه عن المسيرة.
يقول الإمام العسكري (ع): (إن الوصول إلى الله عزوجل سفر، لا يدرك إلا بامتطاء الليل).. الوصول إلى الله سفر، ولهذا السفر مطية ودابة ووسيلة، يقول إمامنا العسكري (ع) أن الوسيلة هي امتطاء الليل.. تعبير من أروع التعابير في صلاة الليل!.. والقرآن الكريم أيضاً عبر عنها بالمقام المحمود: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا}.. فالذي يريد أن ينجح في هذا السفر، لابد أن يكون له سبيل: {فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}.. فالسبيل العلمي -سبيل الثقافة والتربية- شيء، وسبيل الوصول إلى الله سبحانه شيء آخر.
النظر إلى تاريخ الصلحاء والأولياء والأوصياء والأنبياء :
قال تعالى في الحث على الاقتداء بالسلف الصالح: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}، {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا}، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}.. فإن الإنسان الذي يعيش حياة السلف الصالح من علمائنا، وينظر إلى تاريخ الأنبياء وصبرهم في هذا المجال؛ فإن هذا الإنسان سوف تتضاعف جهوده في الاستقامة والصبر.. ولهذا ندعو إلى مطالعة سيرة الذين سبقونا من الذين عاشوا في ظروف متشابهة من علمائنا، الذين عاشوا في القرون الأخيرة، وأمكنهم أن يصلوا إلى أعلى مدارج الكمال.. ولكن من دون أن نتجاوز الحدود، فيبقى غير المعصوم غير معصوم، لابد أيضاً أن نلتفت إلى هذه الناحية، كما في مضمون الحديث الشريف : (انظر إلى ما قيل، ولا تنظر إلى من قال)!.. لكل كلمة ملف، ولكل موقف ملف.. قال الإمام الصادق (ع): (إياك والرئاسة، وإياك أن تطأ أعقاب الرجال!.. فقلت: جعلت فداك!.. أما الرئاسة فقد عرفتها، وأما أن أطأ أعقاب الرجال، فما ثلثا ما في يدي إلا مما وطئت أعقاب الرجال، فقال: ليس حيث تذهب، إياك أن تنصب رجلا دون الحجة فتصدقه في كل ما قال).
ومع الأسف هذه الأيام نلاحظ أن البعض يعامل الظن معاملة اليقين.. في بعض الاستفتاءات الأخلاقية العرفانية يقع السؤال: أن هذه المكاشفات التي يدعيها البعض هل هي مكاشفات رحمانية؟.. وإذا بالجواب: أنها مختلطة: منها رحمانية، ومنها شيطانية، فضلاً عن المنام الذي لا حجية له.. علينا أن نلجأ إلى ركن وثيق في هذا المجال.. ومع الأسف باعتبار أن هذا الطريق يدخل فيه الذوق، فإن البعض يجعل البرهان جانباً، ويجعل الكتاب والسنة جانباً، ويجعل الحَكم في هذا المجال ما يقوله الغير -ولو كان استحساناً، ولو كان استظهاراً-، بعيداً من قول الله عزوجل.. ونحن نعلم أن ما تجاوز الظهور ليس بحجة، وهذا الحق معطى للنبي وآله (ص)، الذين يعرفون القرآن حق فهمه، هؤلاء إن أوّلوا وإن ذكروا بطناً من بطون الآية، وإن ذكروا وجهاً لا يتراءى في الذهن الأولي، هؤلاء خوطبوا بالقرآن الكريم، ولهم الحق في ذلك.. وأما من لم يصل إلى مقام العصمة، لا ينبغي أن نأخذ بكل ما يقوله، أخذ المسلمات.. ومن هنا لابد أن نكون دقيقين جداً، في اختيار ما يمكن أن نستفيده في هذا المجال.
مراعاة التوازن والشمولية :
إن الذي يريد أن ينمو في حقل القرب إلى الله عزوجل، لابد وأن يكون متوازناً.. مع الأسف رأينا البعض في هذا المجال يميل إلى التقوقع.. فبمجرد أن يقرأ كتاباً في هذا المجال، وبمجرد أن يعيش حالة روحية متميزة في هذا المجال، وإذا به يميل إلى التقوقع، وترك المجتمع، وترك الواجب الاجتماعي!.. بينما القاعدة في هذا المجال هو هذه الكلمة: (إن رب العالمين يحب أن يطاع من حيث يريد هو، لا من حيث ما يريده العبد).. وقد ورد أنه لما إبليس طلب من ربه إعفائه من السجود لآدم، وسوف يعبده عبادة لا نظير لها، جاء الجواب من الحق تعالى: (إني أريد أن أطاع من حيث أريد، لا من حيث تريد).. فالذي يبحث عن رضا ربه في الجزئيات وفي الكليات؛ فإن رب العالمين سيأخذ بيده؛ كما ورد: (استفهم الله يفهمك)!.. وقد وعد رب العالمين الذين اهتدوا بزيادة الهدى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى}.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.