إن الإنسان المؤمن في حركته الروحية والعلمية يحتاج إلى فراغ، وأي فراغ أفضل من هذه المرحلة مرحلة الشباب.. ومن هنا أدعو دائماً الشباب -الذين لم يرتبطوا بأمور العيش، وبثقل المعيشة، والارتباطات الاجتماعية المرهقة- إلى اغتنام هذه الفرصة الذهبية.. فإن الإنسان كلما تقدم في العمر، وكلما ارتبط بمسؤوليات الحياة، كلما قلت لديه الفرص النفسية الكافية للتملي من الجانبين العلمي والروحي.
ولابد للإنسان الذي يريد أن يحدث تغييراً ما في الحياة، أن يقوم بحركة؛ وإلا فلو ترك الأمور على رسلها، فإنه سوف لن يصل إلى نتيجة أبداً.. فكما أن الإنسان الذي لا يتعرض إلى مصادر العلم -إذا لم يفتح كتاباً، ولم يحضر عند أستاذ، ولم يباحث درساً-، يبقى على ما كان عليه في الجانب العلمي؛ كذلك في الجانب السلوكي والروحي، فإن الأمر يحتاج إلى سعي حثيث، وهذا السعي لا ينبغي أن يكون أقل من السعي في تخزين الجانب العلمي.
بالإضافة إلى أن الإنسان بإمكانه عن طريق التأمل والإنصات والمثابرة، والدخول في المنافسة العلمية -من الممكن-، أن يصل إلى درجات علمية عالية؛ ولكن الكلام في الجانب الذي لا يُرى من النفس، ولا يحاسبه عليه أحد.. فالإنسان عندما يقصر في التدريس، فإن التلميذ يعترض؛ أو عندما يقصر هو في الدراسة، ويريد أن يقوم في مقام الإعطاء للغير، فإن أسراره تنكشف، ويُعلم مدى ضحالته في العطاء.. ولكن ماذا عن الإنسان الذي يعيش الحسد الباطني، أو التكبر الباطني، أو العجب، أو الالتفات إلى المخلوقين، وما شابه ذلك من الصفات، التي قد لا يلتفت إليها هو فضلاً عن الآخرين؟.. فإذن، الأمر يحتاج إلى حركة دائبة في هذا المجال.
معرفة ملكوت طلب العلم :
إن لكل حركة في الحياة فقهاً ظاهرياً وفقهاً باطنياً.. فالفقه الظاهري نستفيده مما دونه فقهاؤنا في كتبهم، وهم ما تركوا شاردة ولا واردة من حيث التفريعات الفقهية إلا ولعلمائنا رأي في هذا المجال، ككتاب العروة الوثقى، هذا الكتاب الذي يتناول مفردات السلوك اليومي في حقل: الطهارة، والتقليد، والصلاة، وما شابه ذلك.. ويرينا مختلف التفريعات الدقيقة في هذا المجال، وفي باقي شؤون الحياة.. فإذن، كتب الفقه -المنهاج، أو التحرير، وما شابه ذلك- متناولة لهذا الجانب: المعاملات والعبادات؛ ولكن ماذا عن الجانب الباطني لهذه العبادات؟.. لو لم يتناول علماؤنا الآداب الباطنية: للصلاة، والحج، والصوم؛ كالفيض الكاشاني ومن قبله ومن بعده من علمائنا الأبرار، لكانت هذه الحركات العبادية خالية من أي جوهر.
إن طلب العلم، والتثقف العلمي، والتزود الثقافي، أيضاً حركة لها ظاهر ولها باطن.. فهل فكرنا في أنه كيف ننمو في هذا المجال نمواً متوازناً، يوصلنا إلى الغاية القصوى؟.. ومن المعلوم أن الغاية القصوى للعلم: هو تزكية الذات، وتزكية الغير.. كما يشير إليه قوله تعالى في هاتين الآيتين: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}، {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}، إذ تبينان لنا الهدف من العلم.. فالتزكية، وتعليم الكتاب والحكمة؛ هي هدف الأنبياء جميعاً.. ونحن أيضاً -المتأسون بالأنبياء- علينا أن نعيش هذا الهم، وهذا الهاجس.
فإذا أردنا أن نحقق الهدف من الوجود بكل أنحائه ونشاطاته، ومنه: طلب العلم، والعبادة، وغيره؛ لابد أن نلتفت إلى هذه الحقيقة: أن {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}.. وعليه، فإن كل حركة وسكنة في حياتنا اليوم، إذا لم نربطها بالحي الذي لا يموت، بالحي القيوم؛ فنحن مغبونون أيما غبن!.. لو أن الإنسان أمكنه أن يتنفس النفس متقرباً إلى الله عزوجل؛ فليفعل!.. فإن هذه الدقائق التي تنفس فيها من دون أن يقصد القربة إلى الله عزوجل، خسارة وأي خسارة!.. ليقل: اللهم!.. إني أتنفس لأبقي حياتي، وهذه الحياة مقدمة للعمل بطاعتك.. لو لم ننو قصد القربة في هذه الأنفاس، فنحن مغبونون.. فكيف بإنسان يبني بناءً: حياته وسكناته وحركاته وعطاؤه وشبابه؛ ولا يربطه بهذا الباقي!.. إن هذه خسارة عظمى، لمن لا يربط الفاني بالباقي!.. ولهذا من أسماء القيامة: يوم الحسرة، ويوم التغابن.. فيوم القيامة تفتح الصناديق، والمؤمن الصالح يرى أغلب الصناديق فارغة؛ لأنه لم يعمل فيها خيراً ولا شراً، وهي الساعات التي أمضاها في المباحات الأولية في الحياة.. إذ طالما أكلنا وشربنا ونمنا وقمنا وقعدنا وسافرنا؛ ولم نربط هذه الحركة بمسألة البقاء.. {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.. إن كلمة {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}؛ تبين لنا ملكوت الحياة، وما ينبغي أن نكون فيه.
استكشاف النفس :
إن المشكلة الكبرى مع النفس، هي المشكلة مع كل ما وراء الطبيعة!.. لماذا التوجه هذه الأيام للعلوم الإنسانية أقل من العلوم التجريبية؟.. العالم التجريبي -عالم الطبيعة، أو عالم الفيزياء، أو الكيمياء- يعمل شيئًا؛ فيرى آثاره في المختبر، ويقوم بتجربة؛ فيرى آثار تلك التجربة في حياته.. بينما في العلوم الإنسانية -علم النفس، وعلم الاجتماع، وما يتعلق بجانب التربية- فإن الإنسان يتعامل مع شيء غائب عن حواسه.. ومن هنا فإن التنمية والعمل في هذا المجال، مصحوب بشيء من المتاعب.. فإنسان صلى صلاة الليل، وهجر النوم، وأمضى شطراً من وقته في حركة مع رب العالمين، وفي الصباح يستيقظ ويدخل مع الداخلين، ويدرس مع الدارسين، ويذهب إلى الأسواق؛ ولا يكاد يجد أثراً لذلك في سعيه.. ولو أنه أمضى هذه الساعات في جوف الليل في كتابة مقالة، أو تحضير مادة علمية؛ لوجد من يثني عليه.. ولكن ما الذي استفاده من حركته في جوف الليل؟..
إن المشكلة هنا تكمن في أننا لم نصل إلى مرحلة تحويل الغيب إلى شهود، وتحويل عالم المعقول واللامحسوس إلى عالم محسوس.. ولهذا فإن أول وصف للمتقين في سورة البقرة، هو الإيمان بالغيب: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}.. هؤلاء وصلوا في مرحلة من المراحل إلى درجة أنهم يرون واقع الأمور.. عن الإمام الصادق -عليه السلام- يقول: (إنّ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- صلى بالناس، فنظر إلی شابّ في المسجد، وهو يخفق ويهوي برأسه: مصفرّاً لونه، قد نحف جسمه، وغارت عيناه في رأسه.. فقال له رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا فُلاَنُ؟!..
قَالَ: أَصْبَحْتُ يَا رَسُولُ اللَهِ مُوقِناً.. فَعَجِبَ رَسُولُ اللَهِ -صَلَّى اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مِنْ قَوْلِهِ وَقَالَ: إنَّ لِكُلِّ يَقِينٍ حَقِيقَةً؛ فَمَا حَقِيقَةُ يَقِينِكَ؟!..
فَقَالَ: إنَّ يَقِينِي يَا رَسُولَ اللَهِ هُوَ الَّذِي أَحْزَنَنِي، وَأَسْهَرَ لَيْلِي، وَأَظْمَأَ هُوَاجِرِي؛ فَعَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.. كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَي عَرْشِ رَبِّي وَقَدْ نُصِبَ لِلْحِسَابِ، وَحُشِرَ الخَلاَئِقُ لِذَلِكَ وَأَنَا فِيهِمْ.. وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَي أَهْلِ الجَنَّةِ، يَتَنَعَّمُونَ فِي الجَنَّةِ، وَيَتَعَارَفُونَ عَلَی الاَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ.. وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَي أَهْلِ النَّارِ، وَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ مُصْطَرِخُونَ.. وَكَأَنِّي الآنَ أَسْمَعُ زَفِيرَ النَّارِ يَدُورُ فِي مَسَامِعِي.
فَقَالَ رَسُولُ اللَهِ -صلى اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: هَذَا عَبْدٌ نَوَّرَ اللَهُ قَلْبَهُ بِالإيمَانِ.. ثُمَّ قَالَ لَهُ: إلْزَمْ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ!..
فَقَالَ الشَّابُّ: ادْعُ اللَهَ لِي يَا رَسُولَ اللَهِ، أَنْ أُرْزَقَ الشَّهَادَةَ مَعَكَ.. فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَهِ -صلى اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؛ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِ النَّبِيِّ -صلى اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فَاسْتُشْهِدَ بَعْدَ تِسْعَةِ نَفَرٍ؛ وَكَانَ هُوَ العَاشِرَ).
علينا أن نعيش حالة التدبر والتأمل في أعماقنا، لاستكشاف النفس.. وأفضل وقت للتدبر في زوايا النفس ومشاكل النفس، هو بعد الصلوات اليومية، ونحن قد انتهينا من اللقاء بالمليك الأعلى في عروج روحاني: (الصلاة معراج المؤمن)؛ لنكتشف الخارطة الداخلية.. حيث أن لكل إنسان خارطته؛ فمن الممكن أن يكون إنسان في مأمن من أن يكون في زلل في جانب الشهوات، ولكن فيه بدايات الدخول في عالم الغضب، وما يستتبعه من ظلمة في هذا المجال.. فإذن، من القواعد المهمة في هذا الطريق: استكشاف الباطن والتعرف على جوهر النفس؛ ولا شك أن هذه المرحلة تحتاج إلى تسديد إلهي.
وقلًّ من تدبر في سورة الشمس، فهي من أكثر السور قسماً في القرآن الكريم، والمقسم عليه شيء واحد: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}.. هلا تأملنا ما معنى دساها؟.. فالتزكية مفهومها هو التنمية، ولكن ما معنى دساها؟.. إنه معنى مخيف!.. من المعلوم أن من أقبح صفات العرب في الجاهلية -إلى جانب شرب الخمر والزنا والقتل وما شابه ذلك- وأد البنات.. كان يدس فلذة كبده في التراب، وهي حيةٌ تنظر إليه!.. ولا نستغرب هذا القول: أنه نحن أيضاً نقوم بهذه الحركة أو ما يشبهها.. والعرب الجاهليون وأدوا بناتهم، ونحن وأدنا أنفسنا -دفناها-.. قالوا في تفسير هذه الآية: {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}؛ أي أخفاها بالجهالة والفسوق والمعصية.. ودفن النفس وهي حية تعبير أبلغ من الإماتة، وأبلغ من القتل!..
والعلامة صاحب الميزان (رحمه الله) يقول كلاماً آخراً أيضاً؛ تفسيراً لهذه الآية في مقابل هذا التفسير، يقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا}: أي نماها وطورها.. وفي المقابل {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}: أي نماها على غير ما يقتضيه الطبع.. هو نما نفسه، ولكن نمواً غير متوازن.. لو أن إنساناً وُهب طفلاً بجمال يوسف (ع)، ولكن له يدين ورجلين قصيرتين، أو يدا طويلة ويدا قصيرة؛ فهذا الموجود غير متوازن.. هب أن إنساناً نجح في أن ينمي نفسه في الجانب العلمي، ولكن الذي لم يقض على غضبه الباطني، أو على حسده الباطني، أو على العجب الباطني…؛ فإن هذا الإنسان مصداق لـ{خَابَ مَن دَسَّاهَا}!.. علينا أن نفتش في أنفسنا، لنرى هل نحن كالجاهليين في أننا وأدنا أنفسنا وهي حية، ولم ندعها تنمو ذلك النمو الطبيعي؟.. أرجو أن لا نكون كذلك!..
التزود العلمي :
إن الإلمام بالعلوم أمر غير ممكن.. من منا عمره يكفيه لأن يحيط بالعلوم؟!.. هذه الأيام عندما نلاحظ دوائر المعارف الإسلامية وغير الإسلامية، نلاحظ بأن هنالك مجاميع ترصد لها الدول ميزانيات كبيرة، وعلى مدى سنوات قد يقرب من قرن وهم لم ينهوا هذه الدورات.. فالإنسان لا يمكنه أن يحيط علماً بكل جوانب العلوم، لذا عليه أن يبحث عن ذلك العلم الذي يعينه في حركته الروحية والتقربية إلى الله عزوجل.. والعلوم على أقسام، منها علم بمواد الطبيعة: فالكيمائي والفيزيائي والجيولوجي والفلكي، كل هؤلاء يبحثون عن مواد الطبيعة، وكيفية تنميتها وتطويرها.. والطبيب يبحث عن عوارض البدن، ويصرف دهراً من عمره في هذا المجال.. فالعلوم على تنوعها وبكل تخصصاتها تعود إلى هذه الفقرة: البحث عن مواد الطبيعة وظواهر الطبيعة.. والأرقى من ذلك هو البحث عن واهب الوجود: صفاته وجلاله، وكماله وقدرته، وتجلياته في نفوس عباده، وما يريده منا في شتى شؤون الحياة.. إن هذا العلم لا شك أنه أقدس من العلم الأول؛ لأن العلوم تقاس بموضوعاتها، وكلما زادت شرافة الموضوع كلما زادت شرافة العلم.. وعليه، فلابد أن نختار من العلم الديني، ما يكون عوناً لنا للوصول إلى هذه المرحلة.
إن هنالك تفسيرا للفلسفة، هذا التفسير جميل، وهو مطابق لبعض الروايات وهو: أن الفيلسوف هو الإنسان الذي يريد أن يتشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية.. وبعبارة روائية: (تخلقوا بأخلاق الله)!.. فالذي يريد أن يصرف عمره في الحوزات العلمية، وفي البحث في بطون الكتب؛ عليه أن يكون هدفه هذا الهدف المقدس: أن يتخلق بأخلاق الله -سبحانه وتعالى- بقدر الطاقة البشرية.. والذي يريد أن يخطو في هذا المجال، ليس له سبيل إلا أن يستمد من الله سبحانه وتعالى؛ فإن التخلق بأخلاق الله عزوجل لا يتحقق إلا من خلال الجذب الإلهي والاصطفاء الرباني.. إن رب العالمين إذا ارتضى عبداً واصطفاه، عمل فيه ما عمل في مريم (ع).. ومريم (ع) امرأة غير معصومة في بادئ الأمر، وليست من الأنبياء ولا من الأوصياء، ولكن الله عزوجل ارتضاها واصطفاها وطهرها وانتجبها، وصل أمرها إلى درجة أن الأولياء والأنبياء يتنازعون على كفالتها: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}.. وزكريا (ع) محروم من الذرية، ولكن عندما رأى مريم والمائدة السماوية النازلة عليها في المحراب، تمنى من الله عزوجل الذرية الطيبة.. فإذن، إن الإنسان الذي يقع في دائرة الجذب الإلهي، عليه أن لا يفكر في باقي الأمور، بل كما ورد في مضمون الرواية: (عبدي!.. ادعني، ولا تعلمني)؛ أي اطلب مني أن أرفعك إلى المراتب التي أريدها، ولا تعلمني في هذا المجال.
قصد الوجه :
إن على الإنسان أن يحدد الجهة التي يتوجه إليها في حياته، وهو ما يعبر عنه بقصد الوجه: أي أن يقصد الإنسان وجه ربه الكريم في كل شؤونه.. متى يكون الإنسان مخلِصاً؟.. يكون مخلِصاً إذا تجلى له هذا الوجه.. هل يمكنك أن تدعو شاباً لأن يتقرب إلى وجه فتاة وهو لم ير هذا الوجه، ولم ير هذا الجمال، ولا يعرف شخصية صاحب هذا الجمال؟!.. إن الإنسان لا ينجذب إلى المجهول.. ولو أخبره الصادق المصدق بأن هنالك فتاة خلف الستار، بأجمل ما تكون، فمادام هذا الستار لم يرفع، ولم ير شيئاً من ذلك الجمال؛ فإنه من الطبيعي أن لا ينقدح شيء من الحب في قلبه، إلا الحب النظري التعبدي.. فالإمام المعصوم أخبره بأن هنالك جمالا وراء الستار، ولكن هو عندما لم ير هذا الجمال، ولم يستشعر هذا الجمال حساً، من الطبيعي أن يبقى ساكناً غير متفاعل.
فالذي لم ير شيئاً من هذا الجمال في وقفة من وقفاته في الليل، أو في النهار، أو في سفرة مباركة إلى بيت الله الحرام، أو في مشاهد الأئمة (ع).. الذي لم يتجل له هذا الجمال، فبأي داعٍ يتوجه إليه؟.. نعم، يتوجه إليه لدعوة الأنبياء والمرسلين والأوصياء، ومثله في ذلك كمثل الشاب الذي ذكر آنفاً.. لذا على الإنسان الذي لم ير هذا الجمال الإلهي المتجلي -الذي فتح رب العالمين درجة عليا منه، فاندك الجبل وخر موسى صعقا- أن يسألْ ربه أن يفتح له هذا الستار.
يقول أحدهم: إن البعض يعيش في غرفة زجاجية.. هو محجوز أو محدود بحدود، ولكن هذه الحدود من زجاج، فهو يستطيع أن يرى ما وراء الزجاج من: سهول وحقول، ومن جمال، ومن رياحين.. فهذا الجدار الزجاجي، لن يكون حائلاً له في يوم من الأيام، فهذا الجدار مندك في ما وراءه.. فالجمال الذي يراه، يذهله عن الجدار الزجاجي.. هو في جدار زجاجي بسيط شفاف لا جمال فيه، ولكن الجمال لما وراء الزجاج.. أما البعض الآخر فإنه يعيش في غرفة فيها جدار من الآجر ومن الأسمنت، فهذا الإنسان لا يمكنه أن يستمتع بما وراء ذلك من المناظر.. ومن الطبيعي أن يغرق في هذا الحائط، وإذا كان هنالك من الجمال الظاهري، فإنه ينشغل فيه، وينشغل عن ذلك الجمال الحقيقي، فالذي حجبه هو هذا الجدار.. ولكن ما الحل؟.. الحل أن يطلب من الله عزوجل أن يفتح له الستار المسدل على هذه المناظر الجميلة، ليتعلق فؤاده بذلك.. فإذا تعلق سعى في أن يصل إلى جوهر ذلك الجمال، وإلى واهب ذلك الجمال.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.