- ThePlus Audio
في رحاب دعاء مكارم الأخلاق ٢
بسم الله الرحمن الرحيم
التأمل في مضامين دعاء مكارم الأخلاق
إن الإمام زين العابدين (ع) وهو الإمام المعصوم الذي جسد مكارم الأخلاق، قد صاغ لنا دعاء يذكرنا فيه من خلال قراءتنا له بمكارم الأخلاق. وهناك عدة أمور هي السبب في صياغة مكارم الأخلاق في ضمن الدعاء. الأمر الأول: الالتفات إلى مضامين الدعاء. فالكثير منا يرمي من وراء الدعاء تحقيق المطالب الدنيوية أو الحصول على البركة وقلما يلتفت إلى مضامين الدعاء. ودعاء مكارم الاخلاق من الأدعية التي تدعو الإنسان للتأمل في المضامين الأخلاقية التي يتضمنه هذا الدعاء وجميع أدعية أهل البيت (ع).
البحث عن المضامين في الأدعية المأثورة عن أهل البيت (عليهم السلام)
هل تصفحنا يوما دعاء كميل وبحثنا فيه عن المضامين التي تناولها الإمام أمير المؤمنين (ع) فيه؟ هل تأملنا ما ذكره الإمام (ع) في بداية الدعاء من آثار الذنوب على الإنسان، كقوله: (اَللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِيَ اَلذُّنُوبَ اَلَّتِي تَهْتِكُ اَلْعِصَمَ..اَلَّتِي تُنْزِلُ اَلنِّقَمَ..اَلَّتِي تُغَيِّرُ اَلنِّعَمِ)[١]؟ وفي الحقيقة المجال خصب في هذا الدعاء لكتابة بحث حول آثار الذنوب والمعاصي في حياة الإنسان؟
ويذكر الإمام زين العابدين (ع) في دعاء أبي حمزة الثمالي أسباب قساوة القلب، فيقول: (لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي مُسْتَخِفّاً بِحَقِّكَ – مُعْرِضاً عَنْكَ – فِي مَقَامِ اَلْكَاذِبِينَ – غَيْرَ شَاكِرٍ لِنَعْمَائِكَ – فَقَدْتَنِي مِنْ مَجَالِسِ اَلْعُلَمَاءِ – فِي اَلْغَافِلِينَ – آلِفَ مَجَالِسِ اَلْبَطَّالِينَ)[٢]، وغيرها الكثير من المضامين التي تستحق من الداعي التأمل فيها بالإضافة إلى قراءة الدعاء للثواب والبركة.
ضرورة طلب المضامين العالية الواردة في الأدعية من الله والعمل على تحصيلها
الأمر الثاني: الاعتراف بالنقص أمام الله عز وجل وطلب هذه المضامين الراقية. ولا بد أولا: من الالتفات إلى المضامين وفهم معانيها، وثانيا: طلب العون من الله عز وجل، وثالثا: السعي الحثيث لتطبيق هذه المضامين عمليا. ولا يكتفي بمجرد الدعاء، فالدعاء من غير عمل استهزاء بالنفس، فقد روي عن الإمام الرضا (ع) أنه قال: (مَنْ سَأَلَ اَللَّهَ اَلتَّوْفِيقَ وَلَمْ يَجْتَهِدْ فَقَدِ اِسْتَهَزَأَ بِنَفْسِهِ)[٣] وهو كالذي يأتي البحر ويطلب من البحر أن يعطيه الماء وهو لم يأت بإناء يضع فيه الماء، أليس يعد مستهزئا بنفسه؟
دعاء مكارم الأخلاق من الأدعية الغنية بالمضامين العالية التي يجدر بالمؤمن تدوينها والنظر فيها بين الفينة والأخرى، وليرى في هذه القائمة المدونة ما ينطبق عليه من الصفات وما لا ينطبق عليه منها والتي ينبغي له السعي الجاد والحثيث والعمل الدؤوب لتحصيلها والتحلي بها.
ويبدأ الإمام (ع) هذا الدعاء بالصلاة على النبي وآله (ص)، وقد أدبنا أئمة أهل البيت (ع) بأن نجعل الدعاء بين صلواتين على النبي وآله (ص) لأن الله عز وجل أكرم من أن يستجيب طرفي الدعاء ويهمل الوسط.
الاهتمام بما يشغل القلب
يقول الإمام (ع): (وَاِكْفِنِي مَا يَشْغَلُنِي اَلاِهْتِمَامُ بِهِ)[٤]، ويبدو أن الإمام (ع) يعني بذلك الاهتمام بالدنيا وبمتاعها. والاهتمام بالدنيا على قسمين: قسم لا يشغل الإنسان عن التوجه إلى الله عز وجل من قبيل النشاط اليومي من الأكل والشرب والعمل. وقسم يشغل القلب ويلهيه كحبه للمال والولد، يقول الله سبحانه في سورة المنافقون: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّه)[٥]، فالأمور الدنيوية إن أصبحت شاغلة للقلب أصبحت مذمومة ولذلك قال سبحانه: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[٦]، ولكنه أتى بصيغة المجهول بالنيبة إلى كلمة: (زين)، ولكنه بين في آية أخرى فاعل هذا التزيين بقوله تعالى: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)[٧]؛ والشيطان هو الذي يغوي الإنسان من خلال هذه الأمور التي لا تتصف بالخير والشر لنفسها وإنما هي خير أو شر بحسب استعمال الإنسان لها.
إن السيدة زينب (ع) لما سألت أباها وقالت: (يَا أَبَتَاهْ أَ تُحِبُّنَا قَالَ نَعَمْ يَا بُنَيَّ أَوْلاَدُنَا أَكْبَادُنَا فَقَالَتْ يَا أَبَتَاهْ حُبَّانِ لاَ يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ اَلْمُؤْمِنِ حُبُّ اَللَّهِ وَحُبُّ اَلْأَوْلاَدِ وَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ لَنَا فَالشَّفَقَةُ لَنَا وَاَلْحُبُّ لِلَّهِ خَالِصاً)[٨]. وقد ينشغل الإنسان بأمور تافهة لا يستحق منه التوجه الكامل الذي يوليه لها. وهنا يقول الإمام السجاد (ع): (وَاِكْفِنِي مَا يَشْغَلُنِي اَلاِهْتِمَامُ بِهِ) فقد لا يكون الاهتمام بالشيء مذموما إلا أنه يشغل الإنسان، ولذلك يستعيذ الإمام (ع) من هذه الانشغالات.
تخليد الأعمال الفانية
ثم يقول (ع): (وَاِسْتَعْمِلْنِي بِمَا تَسْأَلُنِي غَداً عَنْهُ)[٩]. والمؤمن له خاصية الربط بين الفاني والباقي دائما، وهو الذي يضفي على الفاني صفة الخلود بذكائه ولباقته. فالمؤمن يجعل من الساعات التي يقضيها في العمل والساعات التي يقضيها في الأكل والشرب وما شابه ذلك من نشاطه اليومي لله سبحانه، بتغيير النية فقط. ويقول العلماء: إن الذي يتناول الطعام لأجل التقوي على العبادة كان باقيا وما يتناوله من طعام تلذذا كان فانيا. وقد خلد الله سبحانه الطعام الذي قدمه أهل البيت (ع) لوجه الله تعالى وهو قولهم: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا)[١٠].
أهمية النية في الإسلام
وللنية أهمية بالغة في الإسلام، وقد أجمع الفقهاء على أن العبادات من حج وعمرة وصلاة وصيام لا تقبل إلا بالنية. وكم هي حجم خسارة الإنسان الذي يرى أعماله الكثيرة التي أمضاها في الدنيا قد ذهبت هباء منثورا وقد كان بإمكانه أن يحولها إلى طاعة من خلال النية فقط؟ إن الأعمال العبادية كالصلاة وغيرها لا تحتاج من المؤمن الجهر بالنية، ويكفي التوجه لفعل ذلك العمل كالدخول إلى المسجد للصلاة، وإنما هي الأعمال والنشاطات اليومية من العمل والأكل والشرب وغيرها هي التي تحتاج إلى نية من المؤمن لجعلها قربة إلى الله عز وجل حتى يكون لها قيمة عند الله عز وجل.
إن الحكام الذين قاموا بالفتوحات الإسلامية لم يؤجروا على عملهم لأنهم كانوا يبحثون عن الأموال والجواري وما شابه ذلك وهي نفعت الكفار بأن جعلتهم مسلمين. وإلا فإن الذي يفتح البلاد ولا يحكم فيها بما أنزل الله وإنما يفتحها على ضلال بحسب الروايات الشريفة، فهو لا ينتفع بعمله هذا حتى وإن انتفع به المسلمون، لأن النية غير صالحة.
التوسعة في الرزق
ثم يقول الإمام (ع): (وَأَغْنِنِي وَأَوْسِعْ عَلَيَّ فِي رِزْقِكَ)[١١]. يطلب الإمام (ع) من الله أن يكون مستغنيا وكما روي عن النبي الأكرم (ص): (مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى)[١٢]، والفقر مما يستعاذ منه وهو ذل للمؤمن وإن وقع فهو اختبار وتمحيص والمؤمن يطلب من الله ما يستغني به عن شرار الخلق. ويطلب المؤمن كذلك سعة في الرزق؛ فكثرة المال للمؤمن نعمة إن أحسن التصرف فيها وجعل كل درهم منها قربة إلى الله عز وجل كما كان يفعل الأئمة (ع) بأموالهم من مساعدة الفقراء وعتق العبيد والإماء وكلها ببركة السعة في الرزق. إن المؤمن لا يشمله قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)[١٣]؛ فالمال مما يقربه إلى الله.
العبودية الخالصة لله عز وجل
وهناك عبارة بعد هذه الفقرات الرائغة على رغم قصرها تتضمن معاني عظيمة، وهي قوله (ع): (وَعَبِّدْنِي لَكَ)[١٤] ولا بد لنا أن نقف على هذه العبارة وقفة تأملية. إن كل فردمنا يتصف بصفات عديدة منها الأبوة والأمومة أو البنوة أو الرئاسة في العمل وهو له عناوين وظيفية مختلفة. والمرء بمجرد أن يرى والديه يعيش حالة البنوة تجاههم، والعكس من ذلك، أو يدخل إلى الوزارة أو الدائرة فيعيش حالة الرئاسة والسيطرة، وهلم جرا.
ولكن هل عشنا في يوم من الأيام حالة العبودية لله عز وجل مع كل العناوين والاعتبارات التي نوصف بها؟ وهناك للأسف الشديد من لا يعيش حالة العبودية يوما واحدا في حياته. إن العبد في الأمم السابقة كانت له أحكامه، فلا يتصرف في الأموال إلا بإذن مولاه علي سبيل المثال، وقد كان العبد الآبق يذم ذما شديدا وهو الذي كان يهرب من مولاه، ولم يكن ينبغي له الهرب بموجب العقد الذي جعله عبدا لمولاه إلى آخر حياته أو لحين عتقه بكفارة أو ما شابه ذلك. فالعبودية لها لوازمها وأحكامها وحقوقها وشروطها. فهل عشنا يوم من الأيام حالة العبودية لله عز وجل بهذه الكيفية؟ وإذا عاش المؤمن حالة العبودية هل يبتلى بالعجب والرياء؟ هل يجد صعوبة في دفع الأموال الشرعية وهو يعلم أنه مجرد أمين عليها أو قل شريك مع الله سبحانه فيها؟ هل سيمن على الله عز وجل أن دفع من ماله الخمس؟
ولذلك يقول الإمام (ع) بعد ذلك: (وَلاَ تُفْسِدْ عِبَادَتِي بِالْعُجْبِ)[١٥]. وإذا أردنا الحديث عن العجب لكنا بحاجة إلى خطب طويلة، ولكن إذا كان الأساس في أعمالنا أننا عبيد لله عز وجل لما اعترانا العجب فيما نقوم به من الأعمال التي لا نرى لها وزنا أمام الله سبحانه، ولذلك روي عن النبي المصطفى (ص) أنه قال: (فَوْقَ كُلِّ بِرٍّ بِرٌّ حَتَّى يُقْتَلَ اَلرَّجُلُ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ فَإِذَا قُتِلَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَيْسَ فَوْقَهُ بِرٌّ)[١٦]؛ والقتل الذي تعنيه الرواية هو أن يقدم المرء على القتل بنفسه لا أن يقتل في قصف أو ما شابه ذلك وإن كان ذلك من البر إلا أنه دون الجهاد والإقدام على القتل. وللجهاد وزن وقيمة لأنه يقدم المرء النفس التي خلقها الله عز وجل لخدمة الدين والشريعة، ولذلك كان التعويض من الله عز وجل عظيما، حيث قال: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ)[١٧].
وَأَجْرِ لِلنَّاسِ عَلَى يَدِيَ اَلْخَيْرَ
ثم ينتقل الإمام (ع) إلى فقرة اجتماعية فيقول: (وَأَجْرِ لِلنَّاسِ عَلَى يَدِيَ اَلْخَيْرَ)[١٨]. وما المانع من يطلب العبد من الله عز وجل أن يكون سببا ووسيطا في قضاء حوائج الخلق؟ لقد روي عن الإمام الحسين (ع) أنه قال: (اِعْلَمُوا أَنَّ حَوَائِجَ اَلنَّاسِ إِلَيْكُمْ مِنْ نِعَمِ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ فَلاَ تَمَلُّوا اَلنِّعَمَ فَتَتَحَوَّلُ إِلَى غَيْرِكُمْ)[١٩]. فقضاء الحوائج رزق ونعمة يسوقها الله عز وجل للبعض عبيده قد تتحول إلى الغير إن لم يشكرها. والإمام (ع) يريد أن يكون موجودا مباركا بخلاف ما نسمعه عن الزهاد والعباد الذي يعتزلون الناس ويبتعدون عن المجتمع.
والإمام (ع) لم يحدد الخير الذي طلب أن يجريه الله سبحانه على يديه، فلم يقل: أجر للناس على يدي المال أو العلم: بل كل ما يقابل الشر من الخيرات. قد يقوم المؤمن بفعل الخير ولكن تعتريه نواقص وإشكالات ولكن الخير الذي يجريه سبحانه على أيدي عباده لا يعتريه نقوص بل يجريه على أحسن وجه ممكن. فقد روي عن الرضا (ع) أنه قال: (أَوْحَى اَللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ إِلَى نَبِيٍّ مِنَ اَلْأَنْبِيَاءِ إِذَا أُطِعْتُ رَضِيتُ وَإِذَا رَضِيتُ بَارَكْتُ وَلَيْسَ لِبَرَكَتِي نِهَايَةٌ)[٢٠]، فإذا أراد سبحانه أن يبارك في وجود إنسان يرفع له ذكره. إن الله سبحانه إذا لم يأمر المسلمين بذكر النبي (ص) في الأذان والإقامة والتشهد ولم يأمرهم في القرآن الكريم بالصلاة عليه لما بقي ذكر لرسول الله (ص) إلا رسالته، وقد قال سبحانه: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)[٢١].
العزة الظاهرية والذلة الباطنية
ثم يقول (ع): (اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَلاَ تَرْفَعْنِي فِي اَلنَّاسِ دَرَجَةً إِلاَّ حَطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَهَا)[٢٢]. إن الجو الاجتماعي يؤثر في قناعات الإنسان، فإذا ما اتفقنا مع أربعين شخصا على أن ننعت أحدهم بالفقيه وهو ليس كذلك، لقال في نفسه: لعلني فقيه ولا أعلم. وهناك الكثير من الناس منَّ الله عليهم فستر قبيحهم ونشر جميلهم ولا يعلم بسلبياتهم إلا المقربون من الزوجة والأولاد وبعض الجيران والأصدقاء. وقد ورد في الأدعية الشريفة: (وَكَمْ مِنْ ثَنَاءٍ جَمِيلٍ لَسْتُ أَهْلاً لَهُ نَشَرْتَهُ)[٢٣]. والإنسان لا يعرف إلا عند المعاملة والمجاورة والسفر وهي كواشف ثلاثة تكشف ماهية الإنسان. وقد يخدع الإنسان بهذا المديح، ولذلك يطلب الإمام (ع) أن مهما ازداد المديح والإطراء أن يزيده تواضعا في نفسه.
قد قول قائل: لو كان الإنسان حقيقة متفوق فلماذا يذم نفسه؟ ونقول: أنه لا بد أن يذم نفسه حتى وإن كان ذما شكليا، فالإنسان لا يخلو من حالتين: إما أن يكون له ماض قد ضاع في غير هدى الله تعالى ولا يمكن تعويضه. فكيف تعوض الساعات التي قضاها الإنسان في العصيان والفجور بينما كان غيره في تلك الليالي والأيام مشغولا بذكر الله عز وجل؟ أفهل هذا الماضي مما يجعل الإنسان يعتد بنفسه ولا يذمها؟ وهذا حال أكثر الناس فجلهم يستقيم بعد البلوغ بسنوات.
وإما أن يكون أمام مستقبل مجهول، وكما روي: (اللّهُمَّ إنّي أعوذُ بِكَ مِن مُضِلّاتِ الفِتَنِ، ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ)[٢٤]، فالإنسان لا يعلم عاقبة أمره ولا إلى ما ستصير إليه الأمور وهناك الكثير من أصحاب النبي (ص) انحرفوا عن نهجه وخالفوا سنته، وقد روي عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ اَلشِّمَالِ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيُقَالُ إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ)[٢٥]. ولذلك إن المؤمن يبقى وجلا خائفا من عاقبته. ولذلك عندما يصف سبحانه المنفقين في سبيله يقول: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)[٢٦] والحال أنهم لا بد وأن يشعروا بالراحة من إنفاقهم هذا. و(أنهم) في اللغة العربية للتقدير؛ أي لأنهم إلى ربهم راجعون فلذلك هم وجلون لا يدرون هل المال قد قبله سبحانه وهل المال كان حلالا وهل أخرجت منه الحقوق الشرعية أم لم تخرج؟
ثم يقول الإمام (ع): (وَلاَ تُحْدِثْ لِي عِزّاً ظَاهِراً إِلاَّ أَحْدَثْتَ لِي ذِلَّةً بَاطِنَةً عِنْدَ نَفْسِي بِقَدَرِهَا)[٢٧]. فالمؤمن وإن كان عزيزا في الناس ولكنه بينه وبين نفسه يشعر بذلة وضآلة واحتقار لما يعلم من نفسه ما لا يعلمه غيره، ولذلك قال سبحانه: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)[٢٨]، وهو وإن حاول توجيه فعله أمام الآخرين إلا أنه عالم بنفسه غير مقتنع بتبريراته.
وقد يسأل سائل: أن ما طلبه الإمام في هذه الدعاء لا بد أن يقوم العبد بنفسه بتحقيقها والعمل على اكتسابها؟ والجواب: هو أن العبد يطلب من الله سبحانه العون على تحقيق هذه الصفات واكتساب هذه الملكات. وكما أن الله سبحانه لا يرزق من يقبع في زاوية من زوايا بيته ثم يمد يده بالدعاء مسترزقا كذلك لا يعين العبد على اكتساب هذه الملكات إذا لم يعقد العزم على تحقيقها عمليا ويبادر لاكتسابها غير مكتفي بالدعاء وحده.
[٢] مصباح المتهجد ج٢ ص٥٨٢.
[٣] بحار الأنوار ج٧٥ ص٣٥٦.
[٤] الصحیفة السجادیة ج١ ص٩٢.
[٥] سورة المنافقون: ٩.
[٦] سورة آل عمران: ١٤.
[٧] سورة الحجر: ٣٩.
[٨] مستدرك الوسائل ج١٥ ص٢١٥.
[٩] الصحیفة السجادیة ج١ ص٩٢.
[١٠] سورة الإنسان: ٩.
[١١] الصحیفة السجادیة ج١ ص٩٢.
[١٢] تفسير نور الثقلين ج٤ ص٢٠٨.
[١٣] سورة العلق: ٦-٧.
[١٤] الصحیفة السجادیة ج١ ص٩٢.
[١٥] الصحیفة السجادیة ج١ ص٩٢.
[١٦] الکافي ج٢ ص٣٤٨.
[١٧] سورة آل عمران: ١٦٩.
[١٨] الصحیفة السجادیة ج١ ص٩٢.
[١٩] مستدرك الوسائل ج١٢ ص٣٦٩.
[٢٠] الکافي ج٢ ص٢٧٥.
[٢١] سورة الشرح: ٤.
[٢٢] الصحیفة السجادیة ج١ ص٩٢.
[٢٣] مصباح المتهجد ج٢ ص٨٤٤.
[٢٤] مصباح المتهجّد ص ٥٠٣.
[٢٥] العمدة ج١ ص٤٦٦.
[٢٦] سورة المؤمنون: ٦٠.
[٢٧] الصحیفة السجادیة ج١ ص٩٢.
[٢٨] سورة القيامة: ١٤-١٥.
خلاصة المحاضرة
- هل تصفحنا يوما دعاء كميل وبحثنا فيه عن المضامين التي تناولها الإمام أمير المؤمنين (ع) فيه؟ هل تأملنا ما ذكره الإمام (ع) في بداية الدعاء من آثار الذنوب على الإنسان، كقوله: (اللهم اِغفِر لِي اَلذنوبَ اَلّتِي تَهْتِك اَلعصمَ..اَلتِي تُنْزِلُ اَلنقَمَ..اَلتِي تُغَيِّرُ اَلنِّعَمِ)؟
- دعاء مكارم الأخلاق من الأدعية الغنية بالمضامين العالية التي يجدر بالمؤمن تدوينها والنظر فيها بين الفينة والأخرى، وليرى في هذه القائمة المدونة ما ينطبق عليه من الصفات وما لا ينطبق عليه منها والتي ينبغي له السعي الجاد والحثيث والعمل الدؤوب لتحصيلها والتحلي بها.