- ThePlus Audio
في رحاب خطبة المتقين
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة المتقين
رحم الله همام؛ هذا الذي كان سببا في خطبة المتقين التي هي من أشهر خطب أمير المؤمنين (ع). ولو لم تحفظ من كلام علي (ع) شيئا؛ احفظ هذه الخطبة أو اكتبها في لوحة ثم علقها في منزلك. وبإمكانك أن تكتب الصفات التي ذكرها أمير المؤمنين (ع) في هذه الخطبة على ورقة بصورة نقاط على اليمين؛ ثم تضع في الشمال علامة إن كانت تلك الصفة فيك أم لا.
إن هذه الخطبة لا تسمى خطبة المعصومين ولا خطبة الصديقين؛ بل خطبة المتقين. والسائل ليس الحسنين (ع) وإنما السائل همام أحد أصحابه. وبعبارة أخرى؛ إن هذه النقاط عملية لي ولك وليست أمورا مثالية لا تُنال.
نهج السعادة
قال همام للإمام (ع): (صِفْ لِيَ اَلْمُتَّقِينَ حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ)[١]؛ أي لا تُجمل يا أبا الحسن. وعلي (ع) هو أمير البيان، وكتابه نهج البلاغة يشهد يذلك وإن كانت التسمية أتت من جامعها لهدف، وإلا أي بلاغة؟ إن هذا هو نهج السعادة لا نهج البلاغة. إنها بلاغة ولكنها طريق للسعادة. في الحقيقة إن كلمات علي (ع) لا نظير لها في تاريخ الأدب العربي. إن المتخصصين في البلاغة عندما يقرأ جملة من كلمات أمير المؤمنين (ع) يقول: هذا أسلوب علي (ع). والذي كان يحمل أسلوب علي (ع) هي زينب الكبرى (ع) في خطبها، حتى قيل: كأنها تنطق عن لسان علي (ع).
تقول الرواية: (فَتَثَاقَلَ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عَنْ جَوَابِهِ)، وكما يقال في عرفنا اليوم: تهرب من الجواب، والسبب ما ورد في آخر الخطبة أنه صُعق صعقة كانت نفسه فيها، ولا ندري إن مات همام أو أغمي عليه. قال له الإمام: (يَا هَمَّامُ اِتَّقِ اَللَّهَ وأَحْسِنْ فَإِنَّ اَللّٰهَ مَعَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ). إن التقوى هو حالة في الباطن تقيك أن من الوقوع في الحرام، والإحسان حالة في الخارج وهي علاقة مع الخلق، كما أن التقوى علاقة بالله عز وجل. وهذه خلاصة الدين؛ مع ربك كن متقياً، ومع الناس كن محسناً، والنتيجة: إن الله معك. بالطبع إن هذه المعية هي معية النصر والتأييد؛ لا معية التكوين، انتهى الأمر.
فضل همام وكميل علينا..!
تقول الرواية: (فَلَمْ يَقْنَعْ هَمَّامٌ بِهَذَا اَلْقَوْلِ حَتَّى عَزَمَ عَلَيْهِ)؛ فيبدو أنه كان مصراً أن يسمع المزيد حتى عزم عليه؛ أي قال مثلا: بالله عليك، أنشدك الله أن تعطيني المزيد. فبدأ خطبة المتقين التي نحن بعد أكثر من ألف عام؛ ضيوف على هذا الرجل الذي سلأل هذا السؤال. كما فعل ذلك كميل. فهو لو يطرق باب علي (ع) في البصرة وقال: علمني دعاء الخضر الذي عرف بدعاء كميل؛ لما وصل إلينا، ولكانت ليالي الجمع يتيمة خالية من دعاء كميل. وهمام لو لم يقل لعلي (ع) علمني صفات المتقين؛ لكنا من المحرومين اليوم من معرفة هذه الصفات.
بداية فلسفية
فبدأ علي (ع) ببداية مختصرة أو بداية – بعرف اليوم – فلسفية علمية كلامية، فقال: (إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ اَلْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ)[٢]؛ وهنا يبين لنا علي (ع) أن الله لا يصله نفع إذا أردنا أن نكون من المتقين وإنما نحن الفائزون؛ فلا تمنوا على الله عز وجل. فإذا صمت اليوم وقمت الليلة؛ لا يؤثر ذلك في ملك ربنا شيئا، هذا أولا. إذا ذهبت لزيارة الأمير في أرض الغري خذ معك هذه الخطبة واقرأها؛ فما كان فيك من صفات اشكر الله عز وجل عليها وما لم يكن فيك قل: يا أبا الحسن، أعني عليها، فلست من شيعتك حقاً، وإنما أنا نصف شيعي أو ربع شيعي أو ثلث شيعي بحسب ما فيك من تلكم الخصال. إن أول كلمة قالها علي (ع) لم تكن قيام الليل وتلاوة القرآن وإنما قال: (فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ اَلْفَضَائِلِ).
أهل الفضائل
اجمع الفضائل. لا تقل: أنا إنسان أتقي النظر أو أتقي القول. إنك إن كنت سريع الغضب؛ فلست من أهل الفضائل كلها؛ بل فيك نقص وفيك عيب. وكذلك المحسن الذي كلما رأى فقيراً ينكسر قلبه وهو يبني المسجد والميتم وإلى آخره ولكن عينه تزيغ. لقد رأيت في حرم أمير المؤمنين (ع) رجلا قال لي: يا فلان، أنا في عيب واحد، وسائر أمورب هي على ما يرام، قال: إن عيني تزيغ، وكان عمره في الخمسين. فقلت في قلبي: إلى متى أنت تعيش هذه الأزمة؟ لقد أصبحت في أواخر عمرك ولازلت تدرس الألف والباء. إن المتوقع ممن هم في هذا العمر أن يسأل عن الخشوع في الصلاة، عن كيفية ضبط الخواطر والسيطرة على الهواجس؛ لا أنني أنظر إلى المحرم.
إن الإمام (ع) ما أشار إلى الجوارح، وإنما قال: انظر إلى قلبك واجعل نفسك مجمعاً للفضائل. قد تسأل وتقول: ما هي الفضائل؟ إن القرآن يجيبك: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[٣]. اجعل شغلك على القلب؛ فإن القلب إذا سلم يكون كالأرض الزراعية الخصبة. فلو ألقيت هذه الخطبة على إنسان مستعد؛ لانقلب.
هل رأيت أميا حكيما؟
لقد رأيت ذات يوم أميا يتكلم بكلمات الحكماء وكأنه عالم كبير. قلت له: يا فلان، ما هي قصتك؟ إن شكلك لا يوحي أنك عالم. وكان هو من عوام الناس وله محل صغير يسترزق منه. قال لي: لقد دخلت ذات يوم مسجداً فرأيت الخطيب يتكلم عن وصايا أمير المؤمنين (ع) – إما هذه الخطبة أو خطبة غيرها – فقلب كياني، فتركت المحل وأجرته واكتسبت قوتاً بسيطا؛ ثم التجأت إلى حرم الرضا (ع) أربعين يوما وليلة مكثت فيها في الحرم، ولعله قال: أصوم نهاري وأقوم ليلي. قلت له: ماذا كنت تصنع في الحرم أربعين يوما وأنت معتكف؟ لقد أعجبني كلامه، يقول: كنت أفكر. وهذه هي عبادة أبي ذ. وقال: لم أكن أذهب في هذه المدة إلى الضريح؛ فهذا مقام عظيم وقلبي لا يطاوعني. وإنما كنت أتنقل من صحن إلى آخر. ولا أدخل على الإمام إلا بعد تهيئة مسبقة.
ولكن عندما يصل إلى الضريح يبدو أن صاحبنا كان ينهار من البكاء وغيره، حتى سأله بعض الزائرين: ماذا تريد من الإمام؟ أنا أعطيك زوجة أو مالا؟ فقال لهم: أريد من الإمام حاجتي. إنني أريد القرب المعنوي؛ لا زوجة ولا ولدا. يقول: وبعد الأربعين فُتحت لي الأبواب. قلت له: ماذا تعني؟ قال لي: يا فلان، وصلت إلى مرحلة أرى الله معي في كل آن لا يغيب عن بالي. إنني أنظر يميناً وشمالا فأرى الله معي، وهو قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)[٤].
لتكن عينك على النتائج لا على المقدمات
ثم قال: إنني أنتظر الليل منذ الصباح؛ ففي الليل لقاء الله عز وجل. نعم، إن الإنسان إذا صار من أهل الفضائل فستكون أرضه خصبة لا تحتاج إلى سيل؛ بل يكفيه مطر خفيف، وبذرة واحدة كهذا الرجل الذي قلبت كيانه موعظة واحدة. إننا ومنذ البلوغ إلى الآن حضرنا آلاف المنابر ولكن أين النتيجة؟ لقد سمعنا آلاف المواعظ، وقمنا بمئات الزيارات والعمرة والحج من دون نتيجة. ينبغي أن تضع عينك على النتيجة لا على المقدمات؟
خلاصة المحاضرة
- في الحقيقة إن كلمات علي (ع) لا نظير لها في تاريخ الأدب العربي. إن المتخصصين في البلاغة عندما يقرأ جملة من كلمات أمير المؤمنين (ع) يقول: هذا أسلوب علي (ع). والذي كان يحمل أسلوب علي (ع) هي زينب الكبرى (ع) في خطبها، حتى قيل: كأنها تنطق عن لسان علي (ع).
- إن التقوى هو حالة في الباطن تقيك أن من الوقوع في الحرام، والإحسان حالة في الخارج وهي علاقة مع الخلق، كما أن التقوى علاقة بالله عز وجل. وهذه خلاصة الدين؛ مع ربك كن متقياً، ومع الناس كن محسناً، والنتيجة: إن الله معك.