إن من المسائل العقائدية المتربطة بالفقه، أو من المسائل الفقهية المرتبطة بالعقائد مسألة الوضوء.. وكيف نتوضأ الوضوء الذي توضأه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. وإنما قلنا: فقهية؛ لأنها مسألة جزئية تتعلق بمسألة الوضوء، والوضوء من المسائل الفرعية -كما نعلم-.. وقلنا: عقائدية؛ لأن هذه المسألة أيضا تعود إلى كيفية تناولنا للكتاب والسنة.. فعندما نحذف الامتداد الطبيعي للسنة؛ وهي سنة المصطفى، وسنة آله صلوات الله وسلامه عليهم -وإنما قلت: سنة المصطفى؛ لأن هنالك قسما كبيرا من سنة النبي، منقولة عن طريق أئمة الهدى عليهم السلام- ليس فيه حذف فقط لروايات أهل البيت -عليهم السلام- وإنما لتراث كبير من تراث النبي (ص) المنقول من ذريته، ومن أهل البيت الذين هم أدرى بما في البيت.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ}.. إن هذه الآية على قصرها، وقع فيها النزاع بين المسلمين، النزاع هو:
أولا: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}.. إن البعض قد فهم من هذه الآية، أن الغسل يكون من الأصابع إلى المرافق في حركة عكسية.
وثانيا: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ}.. والنقطة الثانية هو الخلاف بين مسح الرجل، وغسل الرجل.
فلو تدبرنا في هذه الآية، فإن الإبهام والإشكال سيرتفعان، في هاتين المسألتين الخلافيتين.. وهي آية مقبولة لدى الفريقين، فلا شك في كتاب الله سبحانه وتعالى:
أولا: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}.. إن اليد في اللغة العربية تطلق على مجموعة أجزاء: فاليد تبدأ من الكتف إلى الأصابع، يطلق على هذا الجزء من الجسم كلمة “يد”.. ومن المرافق إلى الأصابع، أيضا من مصاديق اليد.. والأصابع لوحدها، أيضا تسمى يدا، فيقال: أكل فلان بيده، فهو لم يأكل من كتفه إلى أصابعه، وإنما حرك أصابعه.. والآية تريد أن تقول: بأن الحدود التي ينبغي أن تغسل هي من الأصابع إلى المرافق، نظرا إلى أن اليد ذو مفهوم واسع، وتريد هذه الآية أن تحدد المساحة، لا تحدد الاتجاه.
والدليل على أن ما يقوم به الإمامية -أي من المرافق إلى الأصابع- هو الحركة الطبيعية، عندما نقول: اغسل يدك إلى المرافق، معنى ذلك أنه قم بهذا الغسل الطبيعي من فوق إلى تحت.. فمثلا: لو أن الطبيب قال لفلان: استعمل هذا الدواء، أو ادهن هذا المعجون من الركبة إلى القدم، مالذي يستفاد من كلام الطبيب؟.. يستفاد من ذلك بأن حدود الاستعمال لهذا الدواء، هو من الركبة إلى ما دون، لا مجموع الرجل.. ولكن من الطبيعي أن الحركة الانسيابية، هي الحركة التي تقوم بهذا الاتجاه من المرافق إلى الأصابع.
فإذن، إن الآية لا تدل على أن هنالك اتجاها للمرافق، وإنما تدل على أن الحد هو إلى المرافق؛ لئلا يتوهم متوهم، أنه لابد من غسل اليد من الكتف إلى أطراف الأصابع.
ثانيا: وأما بالنسبة إلى {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ}.. كما في القرآن الكريم {إِلَى الْكَعْبَينِ}، فإن الأمر أوضح.. فما الداعي هنا لأن نخرج من القواعد العربية، ومن السليقة، ومن السياق في هذا المجال، ونُرجع {أَرْجُلَكُمْ} ونجعله معمولا لعامل سابق في الآية؟.. إن المفسرين الذين يعتقدون بغسل الرجلين، يقولون: أن الآية هكذا: {فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} ثم جاءت هذه الجملة معترضة {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ}، فلماذا هذا التفسير؟.. ولماذا نفصل بين {أَرْجُلَكُمْ} وبين {فاغْسِلُواْ} بهذا الفاصل؟..
إن من الطبيعي أن نقرأ الآية هكذا {فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ}.. وهذا الذي كان يقوم به أئمة الهدى عليهم السلام، والمستفاد من خلال رواياتهم صلوات الله وسلامه عليهم.. على أنه لا يلزم مما قلناه أنه حتما نجعل أرجلكم مجرورة، حتى لا نخالف القراءة القرآنية المتعارفة، أي نقرأ الآية هكذا، {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ}.. فلا مانع من ذلك، ولكن في اللغة العربية هنالك عطف على اللفظ تارة، وعطف على المعنى تارة أخرى.. {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ}: إن محل الرؤوس من حيث الإعراب هنا، هو المفعول به.. فإذن، كأنه (امسحوا رؤوسَكم، وامسحوا أرجلَكم).. صحيح {بِرُؤُوسِكُمْ} بحسب الظاهر الكلمة مجرورة، فلا بد وأن نقرأ وأرجلِكم، إذا أردنا العطف على اللفظ، فعلينا أن نقرأ العبارة بالكسر.. وأما العطف إذا كان على محل رؤوسَكم وهو النصب، لأنه في مقام المفعول به.. فإذن، لا مانع من القراءة أيضا وأرجلَكم.. ولكن بنفس المعنى، أنه امسحوا رؤوسَكم وامسحوا أرجلَكم.
وعندما نقول: علماء الإمامية، لا نعتقد العلماء بما هم هم، وإنما هم يقتبسون ذلك من نمير الوحي.. حتى أن الإمام الباقر عليه السلام، عندما كان يصف وضوء النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كان يصرح بأن النبي كان يمسح على رجليه، ولم يكن يغسل رجليه.. وابن عباس كما في تفسير الطبري، يصرّح بهذه المسألة أيضا، فيعبّر عن الوضوء ويعرّفه تعريفا مختصرا: الوضوء غسلتان ومسحتان.. غسلتان للوجه واليدين، ومسحتان للرأس والرجلين، هكذا روي عن ابن عباس.
والحال أيضا بأن الصحابة -صحابة النبي (ص)- كانوا يستعملون مسألة المسح لا مسألة الغسل، وعلى رأسهم أمير المؤمنين (ع)، وابن عباس، وأنس بن مالك -خادم النبي- وأبو مالك الأشعري.. وأما من التابعين فهم كثيرون، حتى أنه في بعض النقول أن عثمان أيضا، كان من الذين يعتقدون بمسألة المسح، لا بمسألة الغسل.
وعلى كلٍّ، فإن الشريعة مبتنية على أساس التعبد، فالذي يريد أن ينفي عنصر التعبد، أو يحاول أن يفلسف الأحكام، يأتي بدين جديد.. صحيح أنه من ناحية ذوقية، إذا أردنا أن نخرج من التعبد، فإن غسل الرجلين قد يكون هو الأقرب للمزاج الإنساني، حيث أنه الأنظف.. ولكن نحن أُمرنا بالتعبد، كما أن الرأي نمسحه مسحا، ثم إن أردنا بعد ذلك أن نغسل الرجلين، لا مانع من ذلك بعد إتمام الوضوء، أو قبل الوضوء كذلك، ثم نمسح الرجلين بعد تجفيفهما.
فإذن، علينا أن نمشي وفق ما جاءت به النصوص، والآيات والسنة المحكمة، حتى لو كان هناك بديل أفضل.. وهذه الأيام المطهرات الطبية متوفرة في كل مكان، وعلى فتوى علمائنا قديما وحديثا، لو جرح أحدنا وهناك دم وتلوث، ولم يستعمل الماء في التطهير، وإنما استعمل المطهرات الطبية.. فلا بد وأن يغسل بالماء، ولو بعد زوال الحرج.. فنحن لا نعتقد بأن الإنسان يجوز له أن يضر نفسه، ولكن عند ارتفاع المانع لا بد من الغسل بالماء، ولا يكفي التعقيم وما شابه ذلك، لأن الدين قد بُني على ذلك.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.