إن من الممكن أن نتناول شخصية علي (ع) من زوايا ثلاثة : فتارة ننظر اليها من الزاوية الذاتية ، وتارة من زاويةالسيرة العملية ، وتارة اخرى من زاويةالمقامات الربانية ..فإما من البعد الذاتي : فقد خص الله تعالى عليا (ع) بمكرمة لم نعهد لها مثيلا في تاريخ البشرية ، وكأن الله تعالى اراد ان يكافأه (ع) مقابل الشهادة في محراب عبادته في مسجد الكوفة ، بامتيازين مرتبطين ببيته الحرام الا وهما : الولادة في جوف البيت ، وارتقاء منكب النبي (ص) لتحطيم الاصنام حول الكعبة.
وأما النظر الى شخصية علي (ع) من زاوية السيرة العملية ، فإن حياته (ع) تتلخص في تجسيد العبودية لله رب العالمين في كل مراحل حياته ، بدءاً من الإيثار الاول ، ألا وهو المبيت على فراش الرسول (ص) ..ومرورا على صبره بما جرى بعد وفاة الرسول قائلا : ( صبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى ).. ومع ذلك ، لم يقدم على ما فيه شرخ في حياة الامة ، ليطمع فيها الاعداء المحدقين بها من كل حدب وصوب .. وانتهاء بعدم تنازله عن المبادئ لتثبيت دعائم حكمه..فهو القائل: ( لولا الدين لكنت من ادهى العرب ).”
لقد سعى علي (ع) في اعطاء معنى أوسع واشمل للعبودية ، بدءاً من الحالات العرفانية في المحراب ، الى الحالات الانسانية في الحروب .. فلم يرض علي (ع) بتقسيم الحياة الى ما لله تعالى ولغيره.. فالحياة كلها عنده مصداق لقوله تعالى : { ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين } .. فلنتصور لون الحياة على الارض ، عندما تكون كل حركة للافراد والحضارات ، قائمة على اساس مرضاة الله تعالى في كل صغيرة وكبيرة .. اوهل من الغريب ان يكون سلوك المملوك على وفق مراد المالك ؟..أم ان ذلك مقتضى طبيعة الخالقية والمخلوقية !..
ليس من المقبول ابدا ، ان تقف الشريعة موقف اللامبالاة تجاه مسألة الحاكمية والولاية على الامة ، والتي هي من أخطر مفردات العلاقات في المجتمع الانساني !!..وذلك لان سلوك القاعدة البشرية مرتبطة ارتباطا وثيقا برأس الهرم القيادي.. فهذا موسى الكليم (ع) يغيب عن قومه اربعين ليلة ، فلا يتركهم من دون استخلاف وصيه هارون .. ومع ذلك اتخذوا العجل من بعده الها يعبد من دون الله تعالى !.. فكيف يهمل النبي الخاتم (ص) امر الوصاية ، وهو العالم ببذور الفتن التي استنبتتها الايام؟!
إن الامامة تعني ان يكون صاحبها قدوة للناس ، وحاكما كنيابة عن حاكمية الله تعالى في كل الشؤون ..ومن هنا كانت تستلزم اعلى درجات النزاهة فكرا وسلوكا .. وهذا معنى النفي الالهي القاطع لامامة الظالمين للامة !..
ليعلم أن الناس بالحصر العقلي على اقسام: الظالم في كل حياته .. وغير الظالم في اولها والظالم في آخرها ..والظالم في اولها وغير الظالم في آخرها .. وغير الظالم في كل حياته ، ومن المعلوم عدم استحقاق الاولين لهذا المقام بالبداهة ، وكذلك عدم استحقاق الثالث لها بمنطوق الاية الشريفة ، وذلك لان الظالم في برهة من حياته ، يندرج في العنوان الذي لا يستحق به منصب الامامة ، فيتعين – نتيجة لذلك -استحقاق الاخير لهذا المنصب الخطير.. وهل لهذا المقام مصداق غير الذي لم يسجد لصنم قط قبل الاسلام ، وكان اول المسارعين حين الدعوة للاسلام ، وكان اول الذابين على حريم الرسالة بعد اقامة حاكمية الاسلام؟!..
روي عن الصادق (ع) : ( إن الله اتخذ ابراهيم عبدا قبل ان يتخذه نبيا .. وان الله اتخذه نبيا قبل ان يتخذه رسولا .. وان الله اتخذه رسولا قبل ان يتخذه خليلا .. وان الله اتخذه خليلا قبل ان يجعله اماما ..فلما جمع له الاشياء قال : اني جاعلك للناس اماما.. فمن عظمها في عين ابراهيم قال : ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ) .. ومن هذا النص يعلم ان ابراهيم (ع) قد منح مقام الامامة في اواخر عهده ،حينما اجتاز الاختبار الالهي بنجاح ، وذلك بامتثال ذبح ولده اسماعيل (ع) الذي علق عليه الحق قائلا : { إن هذا لهو البلاء المبين }.
إن الدرس العملي من آية الامامة : ان من يريد الوصول الى درجات القرب العالية ، كـ( خلة الرحمن وما يقرب منها من الدرجات ) فإن عليه ان يعد نفسه للاختبارات الالهية الكاشفة عن جوهره..فالناس هلكى الا العالمون ، والعالمون هلكى الا العاملون .. والعاملون هلكى إلا المخلصون .. والمخلصون على خطر عظيم !..
ان موالاة الاوصياء بعد الرسول (ص) لهو فخر والتزام !.. فمن ناحية يشعر صاحبها بالنشوة ، لاهتداءه الى اقرب السبل الموصلة الى البيوت الذي أذن الله تعالى أن يرفع فيها اسمه ، ومن المعلوم أن أهل البيت ادرى بما في البيت !.. ومن ناحية اخرى ، يشعر صاحبها بان لهذه المعرفة النظرية ضريبة ، وضريبتها : تحويل الامام المحبوب الى محبوب إمام ، وبين التعبيرين فارق واضح لمن كان له قلب او القى السمع وهو شهيد.. أو هل اكتشفت الفرق ؟!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.