إن مواصفات عباد الرحمن التي وردت في سورة الفرقان، هي مواصفات قياسية.. يراد منها أن ننظر إلى نفوسنا، ومدى انطباق هذهِ الصفات على قلوبنا، وعلى أرواحنا.. وسورة الفرقان من السور التي يوصى بقراءتها، فهي من السور التي لها من الأجر ما لها.. والله العالم لعل أهمية هذهِ السورة، تكمن في هذهِ الآيات الأخيرة، التي تتحدث عن عباد الرحمن.
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا}.. متى يدعو عبد الرحمن هذا الدعاء؟.. يدعو هذا الدعاء وهو في الحياة الدنيا، لأن الإنسان إذا رأى نار جهنم في الآخرة، عندها لا طريق للعودةِ أو الرجعة!.. إذن الذي يُريد أن يصرف عن نفسهِ نار جهنم، لابد أن يعمل في هذهِ الحياة الدنيا.. وذلك من خلال ربط المعاصي بالعقوبات، فالمؤمن الذي يصل إلى هذهِ الدرجة من اليقين، ويرى ما وراء الحرام؛ عندئذٍ يرتدع بشكلٍّ تلقائي.. مثلا: القُرآن الكريم يذكر لنا منظرا لفعل نمارسهُ، لعلهُ في كل يوم وبكل ارتياح، وربما في زاوية المسجد، وفي مجالس الذكر، وإقامة مجالس أهل البيت (ع)، ألا وهو الغيبة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}؛ ولكن هذه الغيبة ملكوتها أكل لحم الإنسان الميت!.. وهناك من يأكلُ حق أشقائه الصغار، ليس أيتام الناس بل أيتامهُ هو {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}؛ هذا الإنسان يبتلع النار، كما وصفه القرآن الكريم.. أما المُرابي، فإن ملكوتهُ إنسان ممسوس، يقول تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ}؛ هذا الإنسان مسهُ الشيطان، فأخذَ يلعبُ به.
فإذن، إن المؤمن عندما يقف أمام الحرام، ينظر إلى ملكوت ذلكَ الحرام ويقول: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا}.. الذي يطلبك بمال يُقال لهُ: غريم؛ أي لا يتركك يلازمك أينما تذهب، يريد أن يلقي القبض عليك.. ونارُ جهنم هي بمثابة الغريم، الذي يلحقك أينما ذهبت (القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران).. النار التي أشعلناها في الحياة الدنيا، لا تفارقنا أبد الآبدين.
{إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}.. الإنسان في يوم من الأيام، جهنمِ بالنسبةِ لهُ مقر أبدي.. نحنُ -إن شاء الله- ببركة الشهادتين لا نُخلد في نارِ جهنم، ولكن ما المانع أن البعض منا يمكثُ في نارِ جهنم آلاف السنين، بسبب بعض المخالفات؟.. قد يشتري الإنسان شقاء الأبد بساعةِ لذة محرمة، بقضاء ليلة حمراء مثلا؛ يطلع عليه الفجر: أهلُ قيام الليل انهوا قيام ليلهم، وهذا في زاوية يرتكب المنكر.. هذا انتهى، وهذا انتهى.. أمير المؤمنين (ع) يقول في مناجاتهِ المنظومة:
إلهي حليف الحب في الليل ساهر *** يناجي ويدعو والمغفل يهجع
إن عليا -عليه السلام- يتحدث عن المغفل الهاجع، فكيف بالذي هو في كامل وعيه ويمارس المنكر؟!.. وجوف الليل ستارٌ للعيوب، وستارٌ للحسنات: قومٌ ينتظرون الليل ليختلوا مع رب الأرباب، وقومٌ ينتظرون الليل ليختلوا مع تلفاز في زاوية البيت، التلفاز لا يشبع ولا يغني من جوع.. فيمضي ليلتهُ بالحرام، ويطلع عليه الصبح: لا شهوةً أطفأ، ولا بطناً أشبع.. إنما عاش الحرام، ولازمهُ إلى يوم القيامة.
إن البعضُ يظن بأنَ الأولياء الصالحين المقربين الصديقين، منجمهم الحوزات العلمية وأئمة المساجد.. والحال بأنَ بعض الشباب الجامعيين والأكاديميين؛ هؤلاء هم كنوز الله في الأرض.. لله في الأرضِ طائفةٌ أخفاهمُ عن عيون الناسِ؛ إجلالا.. هؤلاء كالدرة في الصدف؛ الدرة تارةً تكون على جيد الفتاة يراها كل الناس، وتارةً تكون في أعماق البحار؛ تستخرج يوماً ما.. في عرصات القيامة، تظهر هذهِ الدرر {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}.. بعض هؤلاء الأكاديميين يقول: “إن الناس هذهِ الأيام عندهم نقص في السيولة، وأنا نقصي في سيولة الباطن.. مشكلتي أنهُ فيما مضى من الأيام، كانَ ذكر الموت لا يفارقني، بمجرد أن أغفل أو أرتاح للحياة الدنيا، أتذكر الموت وما بعد الموت؛ فأعودُ إلى رُشدي.. أما الآن أريد أن أذكر الموت، فلا أستطيع استحضار ذكر الموت”.. هذا الإنسان هو في منتهى النشاط الاجتماعي والعلمي و…الخ.. حياتهُ حياة إنسان كاد في هذهِ الحياة، وهو شاب في ريعان شبابه.. أنظروا إلى الإنسان كيف يفكر، عندما ترتفع الهمة؟!.. وإلى تأثير الغيب والإيمان بالغيب، وتذكر الموت!..
إن القرآن الكريم عندما يذكر بعض الأنبياء يخصهم بهذهِ المزية {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ}؛ يذكرون الدار، هذه هي الدار الحقيقية {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ}؛ نحن نعيش حالةِ إنسان استظلَ تحتَ ظل شجرة ساعة ثم رحل عنها، يقول النبي الأكرم (ص): (ما لي وللدنيا؟!.. ما مثلي ومثل الدنيا، إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظلّ تحت شجرة ساعةً من نهار، ثم راح وتركها).. لو أن أحدنا ذهب للعمرة أو الحج، وذهبَ إلى إحدى الفنادق، درجة ثانية أو ثالثة، وفي اليوم الثاني بدل أن يذهب إلى الطواف المستحب -مثلا- يعمل ورشة في الغرفة، ليعيد صبغها وتبديل أداوتها الصحية وتأثيثها وما إلى ذلك.. ألا يقال: أن هذا إنسان فقد عقله؟!.. والحياة هكذا: جئنا لمهمة أيام قصيرة.. نحنُ هكذا في الحياة الدنيا جئنا من ذلك العالم {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}.. ما وزن ستين سنة في اللانهاية؟.. اللانهاية عندما تقسم على المحدود، النتيجة لا نهاية؛ أي كل دقيقة في حياتنا تساوي اللانهاية: إما في نار جهنم، أو في منطقة الأعراف؛ المنطقة الحدودية بينَ النار وبينَ النعيم، وإما في جنة الخلد.. هل تستحق هذهِ الدنيا أن نعطيها أكثر من الاهتمام اللازم؟..
إن شعار الصالحين في هذهِ الدنيا (ما قلّ وكفى، خير مما كثر وألهى)!.. بعض المؤمنين العمل الوظيفي خيرٌ لهم من التجارة: عمل وظيفي رتيب، له راتب محدد، بعد سنوات يتقاعد، ولهُ معاش تقاعدي؛ فيبرمج حياتهُ بشكل منتظم.. بخلاف التاجر الحريص، الذي لهُ شركات كبرى في عدة دول، لا يعرف ليلا من نهار.. والبعضُ منهم عندما يسأل: لماذا توسع من تجارتكَ بمقدار لا يليقُ بالمؤمن، حيث أنه لا يحضر لا جمعة ولا جماعة.. فإنه يجيب مبررا: كلما عملتُ أكثر، أدفع خمساً أكثر.. ومن قال بأن التكليف أن تتعب نفسك وتلهي نفسك، لتدفع للفقراء والمساكين؟.. إن (ما قلّ وكفى؛ خير مما كثر وألهى).. في قوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ}، قال الطبرسي رحمه الله: قيل نزلت في ثعلبة بن حاطب وكان من الأنصار، قال للنبي (ص): ادع الله أن يرزقني مالاً، فقال: (يا ثعلبة!.. قليلٌ تؤدّي شكره، خيرٌ من كثير لا تطيقه.. أما لك في رسول الله (ص) أسوة؟.. والذي نفسي بيده!.. لو أردتُ أن تسير الجبال معي ذهباً وفضةً لسارت)، ثم أتاه بعد ذلك فقال: يا رسول الله!.. ادع الله أن يرزقني مالاً، والذي بعثك بالحقّ لئن رزقني الله مالاً، لأعطينّ كلّ ذي حقّ حقّه، فقال (ص): (اللهم!.. ارزق ثعلبة مالاً).. قال: فاتخذ غنماً فنمت كما ينمي الدود، فضاقت عليه المدينة، فتنحّى عنها فنزل وادياً من أوديتها، ثم كثُرت نموّاً حتى تباعد من المدينة، فاشتغل بذلك عن الجمعة والجماعة، وبعث رسول الله (ص) المصدّق ليأخذ الصدقة فأبى وبخل، وقال: ما هذه إلا أخت الجزية، فقال رسول الله (ص): (يا ويح ثعلبة!.. يا ويح ثعلبة)!.. فأنزل الله -عز وجل- الآيات.
إن هذهِ هي عاقبة الأموال عندما تتكاثر، من دونِ وجود ردع باطني.. نبي الله سليمان (ع) نبي معصوم ومطهر، ينزل عليه الوحي، جاءَ ذكرهُ في القرآن الكريم، ومع ذلك أعطي الدنيا قال الصادق (ع): (آخر نبي يدخل الجنة سليمان بن داود (ع)، وذلك لما أُعطي في الدنيا).. ملك سليمان (ع) إلى يوم القيامة لا نظير له، فكل ما في الوجود يتكلم معهُ، {وَهَبْ لِي مُلْكًا لّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي}؛ ولكن بقي سليمان سليمان، غفل لحظات عن ذكر ربهِ {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ}.. شغلتهُ الخيل عن ذكر الله، فقال: أذبحوا هذهِ الخيل!.. هذه الخيل عندما تذبح لا ترمى، لأن لحمها يؤكل، ولا توجد مشكلة في ذلك.. إذا كنا كسليمان، أو في طريق سليمان، فإن الملك لا يشغلنا.. حتى الميتة كانت ميتة خاصة؛ فرقٌ بين ميتةِ سُليمان النبي، وبينَ ميتةِ يحيى النبي؛ يحيى الذي قطع رأسهُ، وأهدي إلى بغية من بغايا بني إسرائيل.. ولهذا يقال: أن أكثر الأنبياء شبهاً بسيد الشهداء -صلوات الله عليه- نبي الله يحيى (ع).. فإذن، إن المؤمن في حياتهِ الدنيا، يحاول أن يبرمج نفسهُ على هذا الأساس.
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}.. إن مشكلتنا في الحياة أن استراتيجيتنا، ونظرتنا للمال؛ نظرة خاطئة، حيث أن أحدنا يرى نفسهُ مالكا للمال.. إن الخمس يستثنى منه المؤونة اللائقة بحال الإنسان، أما إذا اشترى الإنسان ما لا يليق بحاله، فإنه لا يعفى من الخمس.. قد يقول قائل: هذا المال مالي، وأنا حر أتصرفُ كما أشاء!.. من أين جاءت هذاِ النظرية، ومن قالَ بأن الإنسان حر في أمواله؟.. يقول تعالى في كتابه الكريم: {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ}؛ أي أن الإنسان هو وكيل الله في الأرض.. مثلا: لو أن إنسانا أعطى مالهُ للسائق وللخادم، وقالَ له: أذهب إلى الجمعية، واشتر بحدود ما أمرتكَ به.. لو اشترى زيادة عن اللزوم، أو جعل المال في جيبهِ، ألا يطرد من العمل؛ لأنهُ مستخلف على هذا المال؟.. كل واحدٌ منا بينَ يدي الله -عزَ وجل- مستخلف على هذا المال.. الرجل لا يجوز الصراط، حتى يسأل عن مالهِ فيما أنفقه.. مثلا: الاتصالات الهاتفية: كل كلمة مقابلها أموال، لو تكلمت كلاماً زائداً، أو مزاحاً باطلاً؛ كم تتكلم في السنة كلاما في مقابلهِ مال، وهذا المال لا مسوغ له!.. هذا العمل ألا يستوجب الاستغفار؟!.. أحدهم رأى عالما كبيرا من المراجع المعاصرين -رحمه الله- في المنام، فسأله عن عالم البرزخ؟.. فأجابه: الحسابُ دقيقٌ جداً، حتى حركة اليد كُنتُ أسأل عنها!.. إذا حركة اليد يسأل عنها الإنسان في عالم البرزخ، فكيفَ بباقي الأمور؟!..
إن البعض يخلط بينَ الكرمِ والإسراف، فالكرم لابد أيضا أن يكون في حدود ما أمر الله بهِ.. وبعض الكرماء إنفاقهم ليس لوجه الله عزَ وجل، بل لكسب الأصوات الانتخابية مثلاً، أو لكسب الوجاهة الاجتماعية.. هذا ظاهره كرم، وإنفاق، وإطعام؛ ولكن باطن العمل، يعودُ للذات، لا لله عزَ وجل.. ولا يعدُ من الكرمِ والإطعام المحمود، ما دامَ الأمر لم يعد إلى اللهِ عزَ وجل.
الخلاصة:
١- إن المؤمن من خلال ربط المعاصي بالعقوبات، يصل إلى درجة من اليقين، ويرى ما وراء الحرام، عندئذٍ يرتدع عنها بشكل تلقائي.
٢- إن الإنسان قد يشتري شقاء الأبد بساعة لذة محرمة، فتصبح جهنم له مقراً أبدياً.
٣- إن كل دقيقة في حياتنا تساوي اللانهاية؛ إما في نار جهنم، أو في جنة الخلد، أو في الأعراف..فهل تستحق الدنيا أن نعطيها أكثر من الاهتمام اللازم؟..
٤- إن المؤمن في حياته الدنيا يحاول أن يبرمج نفسه وفق هذه القاعدة(ما قلّ وكفى، خيرٌ مما كثر وألهى).
٥- إن مشكلتنا في الحياة أن نظرتنا للمال نظرة خاطئة، فأحدنا يرى نفس مالكا للمال،بينما الحقيقة أننا بين يدي الله جل وعلا مستخلفين فيه، ولا يجوز أحدنا على الصراط، حتى يسأل عن ماله فيما أنفقه.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.