لماذا التأكيد على عنوان عباد الرحمن؟.. إن المؤمن إذا لم يرفع سقف الهمة لديه؛ فإنه يتقاعس في مجال العمل.. فالذي يريد أن يقطع ألف متر مشيا مثلا، إذا مشى مئة متر؛ سوفَ لن يتعب لأنه مازال في بداية الطريق، وهناك أمامهُ عشرات الأضعاف.. أما الذي همتهُ في خطوة قريبة، فإنه يتعب من أول الطريق.. وهدف الإنسان في هذه الحياة هو أن يصل إلى رتبة عباد الرحمن، فالآية تقول: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}؛ والزنا صفة لعامة الناس.. فالآيات في مقام بيان صفات المؤمنين غير العاديين؛ ولكن المؤمن الذي يعيش في هذا المجتمع؛ بإمكانه أن يصل إلى هذهِ المواصفات، التي هيَ في عباد الرحمن.
إن هنالك اصطلاحا عند الأخلاقيين، يسمى بـ”اليقظة الروحية”.. مثلا: الإنسان النائم أو المغمى عليه، لا أمل فيه، وهو يحتاجُ إلى عناية فائقة في غرفة الإنعاش، فإذا أفاق من غيبوبته؛ عندئذٍ من الممكن التحدث معهُ.. ونحنُ في عالم الدنيا البعض منا روحه: إما نائمة، أو مغمى عليها.. فالذي روحه مغمى عليها، يحتاج إلى عناية من رب العالمين.. أما الذي ليسَ بمغمى عليه، فإنه ينام ويقوم، قال رسول الله (ص): (مَثَل المؤمن كمثل السنبلة تخرّ مرةّ وتستقيم مرّة، ومَثَل الكافر مثل الأرزة لا يزال مستقيماً لا يشعر.. وسُئل (ص): مَن أشدّ الناس بلاء في الدنيا، فقال: النبيّون ثم الأماثل فالأماثل، ويُبتلى المؤمن على قدر إيمانه وحُسن عمله، فمن صحَّ إيمانه وحَسُن عمله اشتدّ بلاؤه، ومَن سخف إيمانه وضعُف عمله قلّ بلاؤه).. ويقول تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}؛ مثلا: نظر إلى ما لا يجوز، أو تكلمَ ما لا يجوز، ثم تذكر.. والتذكر من صفات غير المغمى عليه، فالمغمى عليه لا يتذكر؛ ولكنَ الغافل يتذكر.
{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا}.. إن للمؤمن سياسة، هذهِ السياسة لو اتبعناها لسددنا الأبواب على الشيطان.. سياسته أن ينزع فتيل الانفجار في حقل ألغامه.. المؤمن يعيش مع بشر، هؤلاء من الممكن أن يدخلوا عليه الأذى.. مثلا: الزوجة لها حدة في الطبع، فالزوج يحاول أن يرضيها؛ كيلا يجعلها عنصر توتر في حياته.. هناك بعض الآباء بسلوكهم وبسوءِ تصرفهم، يكونون سببا في عقوق أولادهم.. قال صلى الله عليه وآله وسلم: (رحم الله من أعان ولده على برّه، وهو أن يعفو عن سيئته، ويدعو له فيما بينه وبين الله).. فالإنسان يحاول أن يتجاوز الموجة، حتى الإنسان الذي يُخشى منهُ الشر، يسكته بهدية أو بكلمة طيبة، المهم أن يعيش ذلكَ الجو الذي يجعله منسجماً مع رب العالمين.. فالمؤمن له حالة من الحساسية الزائدة، تجاه كل شيء يشغله عن الله عز وجل.
{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}.. أي يدركون الليل، فالآية لا تقول بالضرورة أن هؤلاء طوال الليل في حال قيامٍ وركوع، إنما لهم وقفة مع رب العالمين في جوف الليل.. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أشراف أمتي حملة القرآن، وأصحاب الليل).. فالذي يريد مدارج الكمال، لابدَ وأن تكونَ لهُ وقفة مع ربهِ في الليل، ليس بالضرورة قيام الليل كله.. قال الإمام العسكري (ع): (إنّ الوصول إلى الله -عز وجل- سفر لا يدرك إلا بامتطاء الليل.. من لم يحسن أن يمنع، لم يحسن أن يعطي)؛ أي أن الليل هو بمثابة الحصان أو الفرس، إذا أردتَ أن تصل لابدَ أن تركبَ هذا الفرس.
إن الإنسان المؤمن باستطاعته مخادعة الشيطان.. فالذينَ يقومون الليل من أولياء الله، تتراوح مدة قيامهم بينَ الساعة، والساعة والنصف؛ هذا قيام المتهجدين.. ولكن هُنالكَ درجة أقل من هذا التهجد، وهو أن يصلي الإنسان نافلة الليل بلا سورة؛ فالسورة غير واجبة في المستحبات؛ عندئذ تأخذ الصلاة تقريباً عشر دقائق.. يستيقظ قبلَ أذان الفجر بربع ساعة: خمس دقائق للوضوء والاستعداد، وعشر دقائق قيام الليل، فيصبح من أهل الليل {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} فتنطبق عليه هذه الآية بدرجة من الدرجات.. ومن الممكن أيضا أن تكون مدة الصلاة خمس دقائق فقط، إذا صلى ركعتي الشفع وركعة الوتر، وهو لب صلاة الليل.. هذهِ الخمس دقائق ما وزنها في حياتنا اليومية؟!.. كم من الأوقات الضائعة في حياتنا اليومية: جلوساً على المائدة، وجلوساً أمام التلفاز؛ ولكن هذهِ عشر دقائق بينَ يدي الله -عزَ وجل- لا نبالي بها!..
إن المشكلة هي أن أحدنا لا يستلذ بالعبادة، المشكلة في فقدان اللذة.. لله -عز وجل- أصناف من العقوبات: منها المرض، ومنها الفقر، ومنها التوتر العائلي، ومنها ضيق المزاج، ومنها القلق الذي لا وجه له.. نعم ربُ العالمين يعلم كيفَ يسلب من الإنسان الاستقرار والنعمة.. الإنسان يبحث عن السعادة والراحة في الوظيفةِ والدابة، ولكن رب العالمين بحركةٍ بسيطة يسلب كل هذهِ السعادة.. هذا كلهُ في العقوبات الدنيوية، هذهِ عقوبات بسيطة في مقابل العقوبة الأخرى.. فالذينَ لهم عناية من رب العالمين، هؤلاء لهُ عقوبة خاصة بهم، هذهِ العقوبة متمثلة بسلبِ حلاوة المناجاة.. وفي بعض الآثار: يقول الله عز وجل: (إن أدنى ما أصنع بالعبد إذا آثر شهوته على طاعتي، أن أحرمه لذيذ مناجاتي).
إن الذي يستثقل قيام الليل، مشكلته ليست في الوقت أو الاستيقاظ، بل المشكلة هي أن هذا الإنسان يعيش حالة من النفور الباطني.. فالذي لا يقبلُ على الله -عزَ وجل- في صلاته، يبدو أن هناك إعراضا من الطرف الآخر.. (كان السجاد (ع) قائماً يصلّي حتّى وقف ابنه محمد (ع) وهو طفلٌ إلى بئر في داره بالمدينة بعيدة القعر، فسقط فيها، فنظرت إليه أُمّه فصرخت وأقبلت نحو البئر تضرب بنفسها حذاء البئر، وتستغيث، وتقول: يا بن رسول الله!.. غرق ولدك محمد (ع)، وهو لا ينثني عن صلاته، وهو يسمع اضطراب ابنه في قعر البئر.. فلما طال عليها ذلك قالت: حزناً على ولدها: ما أقصى قلوبكم يا أهل بيت رسول الله؟!.. فأقبل على صلاته، ولم يخرج عنها إلاّ عن كمالها وإتمامها، ثم أقبل عليها وجلس على أرجاء البئر، ومدَّ يده إلى قعرها -وكانت لا تُنال إلاّ برشا طويل- فأخرج ابنه محمداً (ع) على يديه يناغي ويضحك، لم يبتلَّ به ثوبٌ ولا جسدٌ بالماء، فقال (ع): هاك!.. ضعيفة اليقين بالله، فضحكت لسلامة ولدها، وبكت لقوله (ع): “يا ضعيفة اليقين بالله”، فقال (ع): لا تثريب عليك اليوم، لو علمت ِأني كنت بين يدي جبّار، لو ملت بوجهي عنه لمال بوجهه عنّي، أفمن يرى راحم بعده)؟..
فإذن، الذي لا يستذوق الليل؛ لينظر إلى سلوكهِ النهاري، حيث أن هنالكَ ترابطا واضحا أكيدا بينَ عمل الإنسان في النهار وفي الليل، قال الصادق (ع): (إنّ الرجل ليكذب الكذبة، فيحرم بها صلاة اللّيل.. فإذا حُرم بها صلاة اللّيل، حُرم الرزق).. إنها سلاسل متتالية، فالذي ينظر إلى أجنبية بريبة وبشهوة، كيف يتوقع أن يُستجاب لهُ الدعاء عندما يقول: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض)؟!.. وعليه، فإن تنقيح السلوك النهاري؛ مقدمة لقيام الليل قياماً متميزاً.. ومن لم يصلِّ صلاة الليل في وقتها، يمكنه القضاء!.. الإنسان الذي يكون في بيت من بيوت الله عز وجل، عليه أن يستغل كل دقيقة، فليقضي صلاة الليل، أو ما في ذمته، بدل التحدث بأمور دنيوية، تسلبه التوجه في صلاته.. في اصطلاح علماء الأخلاق: بعض الناس يعيش الثرثة الباطنية، هذهِ الثرثرة الباطنية هي من الثرثرة الخارجية.
بعدَ فترة من المجاهدة يوفق الإنسان لصلاة الليل؛ ولكن ما الذي يجب عمله لاستبقاء هذهِ النعمة؟.. إذا وصل الإنسان في يوم من الأيام إلى رقةٍ باطنية، فليقرأ فقرات من مناجاة المريدين للإمام السجاد (ع)، ويستمتع بمضامينها: (وشوقي إليك لا يبله إلا النظر إلى وجهك، وقراري لا يقر دون دنوي منك، ولهفتي لا يردها إلا روحك، وسقمي لا يشفيه إلا طبك، وغمي لا يزيله إلا قربك، وجرحي لا يبرؤه إلا صفحك).. وفي هذه المناجاة يخاطب الإمام -عليه السلام- ربهُ ويقول: (يا نعيمي وجنتي، ويا دنياي وآخرتي يا أرحم الراحمين)!.. هذهِ المضامين لو قالها الإنسان برقةِ، وجلبت دمعة واحدة، ستفتح للإنسان أبواب العرش على مصراعيها، ثمَ ليقول: (إلهي!.. لم أعصك حين عصيتك، وأنا لربوبيتك جاحد، ولا لعقوبتك مستخف.. لكن خطيئة عرضت لي، وسولت لي نفسي، وغلبني هواي، وأعانني عليها شقوتي، وغرني سترك المرخى علي).
الخلاصة:
١- إن المؤمن إذا لم يرفع سقف الهمة لديه، فإنه سيتقاعس في مجال العمل، وهدف الإنسان في هذه الحياة أن يصل إلى رتبة عباد الرحمن.
٢-أن البعض منا في عالم الدنيا روحه: إما نائمة ،أو مغمى عليها..فالذي روحه مغمى عليها يحتاج إلى عناية من ربّ العالمين.
٣- إن المؤمن له حالة من الحساسية الزائدة، تجاه كل شيء يشغله عن الله عز وجلّ، لذا فإن سياسته نزع فتيل الانفجار في حقل ألغامه، كيلا يتبقى لديه عنصر توتر في حياته.
٤- إن الذي يريد مدارج الكمال لابد له من وقفة مع ربه جل وعلا في الليل،و ليس بالضرورة قيام الليل كله..
٥- أن الذين لهم عناية من ربّ العالمين، هؤلاء لهم عقوبة خاصة بهم، هذه العقوبة متمثلة بسلب حلاوة المناجاة.
٦- إن الذي يستثقل قيام الليل ،مشكلته في أنه يعيش حالة من النفور الباطني، فالذي لا يقبل في صلاته على الله تعالى ذكره، يبدو أن هناك إعراضا من الطرف الآخر.
٧- إن الذي لا يستذوق الليل؛ لينظر إلى سلوكه النهاري، فهناك ترابط واضح بينهما، وعليه فإن تنقيح السلوك النهاري، مقدمة لقيام ليل متميز.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.