إن كتاب العروة الوثقى، يعتبر قرآن الفقه في زماننا؛ بمعنى أنه محور في الآراء الفقهية.. والسيد اليزدي صاحب الكتاب، عندما يصل إلى بحر التعقيبات بعد الصلاة يقسمها إلى أقسام: منها التعقيبات المأثورة، ومنها التلاوة، وكذلك البكاء من خشية الله، كأن يصلي الإنسان صلاة غير خاشعة، ويندم؛ فيأخذ في البكاء وهو متوجه إلى القبلة، مما هو فيه من قسوة القلب.
ومن التعقيبات أيضا، السكوت في المصلى ساعة من الزمن: لا يصلي نافلة، ولا يقرأ دعاء، ولا يتلو قرآنا.. إنما يفكر في عظمة الله، وفي ضعف الإنسان، وفي قلة حيلته.. فهذه الحالة تعتبر من ضمن التعقيبات، يا له من فوز!.. والمصلي يكتب مصليا مادام معقبا، ورد في رواية: (من عقب في صلاته، فهو في صلاة)، وفي خبر: (التعقيب أبلغ في طلب الرزق، من الضرب في البلاد).. ومن التعقيب التفكر، فيا يا لها من صلاة طويلة، ولكن من دون معاناة!..
ولكنه يذكر شرطا، وهو أن يكون في هيئة المصلي: (ويعتبر أن يكون متصلا بالفراغ منها، غير مشتغل بفعل آخر ينافي صدقه الذي يختلف بحسب المقامات: من السفر، والحضر، والاضطرار، والاختيار.. ففي السفر يمكن صدقه حال الركوب، أو المشي أيضا كحال الاضطرار، والمدار على بقاء الصدق والهيئة في نظر المتشرعة، والقدر المتيقن في الحضر الجلوس؛ مشتغلا بما ذكر من الدعاء ونحوه.. والظاهر عدم صدقه على الجلوس بلا دعاء، أو الدعاء بلا جلوس؛ إلا في مثل ما مر.. والأولى فيه الاستقبال، والطهارة، والكون في المصلى).
فإذن، إن التفكر في عظمة الله، والبكاء من خشية الله عزَ وجل، يعتبر من التعقيبات.. ولكن قد يجلس الإنسان في المصلى، لا يذكر ولا يدعو ولا يتلو، ولا يتفكر في عظمة الله عز وجل.. إنما يراجع الأعمال التي قام بها خلال الأسبوع الذي مضى، ليرى ما الذي استفاده من تلك الأعمال لآخرته!.. هل تتجاوز: الأكل، والشرب، والذهاب إلى الوظيفة، والجلوس مع الزوجة والأولاد؟.. {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ}، ما هو الباقي في رصيد الأعمال؟.. إن الحياة نسخة مكررة، إذا لم يحدث الإنسان تغييرا في حياته.. مثل الورقة التي في جهاز الاستنساخ، إذا لم يتم استبدالها، فإنه سيخرج كل يوم من هذا الجهاز نسخة طبق الأصل عن تلك الورقة.. وكذلك الحياة: إن لم تغير هذهِ الورقة، فالحياةُ هي الحياة.. أحدهم يبلغ من العمر ستين سنة، وصلاتهُ ساعة الاحتضار، أو يوم الوفاة؛ كصلاتهُ في أول يومٍ من البلوغ، حتى بأخطائها الفقهية المتعارفة: وضوء باطل، أو تلاوة باطلة، أو صلاة باطلة.. في أول يوم من البلوغ كانَ معذوراً لجهله، أما بعدَ ستين سنة، فما هو العذر؟!.. قد يحسن صلاته، وتصبح تلاوته كتلاوة القراء المعروفين، ولكن أين الخشوع في الصلاة؟.. وعليه، فإن الجوهر لم يتغير.. فإذن الجلوس في المصلى، والتأمل فيما يغير مجرى الحياة؛ هذهِ من أعظم القربات إلى الله -عز وجل.
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ}.. إن رب العالمين في سورة الفرقان، استعمل تعبير {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ}، والحال أن الأنسب قول: (وعباد الله).. فلفظ الجلالة إشارة إلى كل صفات الجلال والكمال عندَ رب العزة والجلال، لماذا قال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ}؟.. إن أراد الإنسان أن يكون عبداً لله -عز وجل- عليه أن يتحلى بالصفات الإلهية، ويكون مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية.. فالإنسان العنيف، والعصبي المزاج، وحاد الطبع، والذي يمر على المآسي فلا يتفاعل؛ هذا الإنسان بعيد عن هذهِ الصفة الإلهية.
كيف يرجو الإنسان رحمة الله عزَ وجل، ومن حولهُ من الأهل والأولاد يشكون قساوة فعله؟!.. قد يكون للبعض صيت اجتماعي جيد عند الناس، ولهُ مظهرٌ حسن؛ ويقال: هنيئاً لفلان، لا يفتقدُ في جمعةٍ ولا جماعة!.. ولكن حياتهُ الداخلية ليس على ما يرام، فكما يقال: البيوت أسرار.. كم من القبيح أن تأتي الزوجة إلى صلاة الجماعة، وعلى بدنها بعض آثار الضرب من هذا الزوج الذي يغمى عليه في صلاة الجماعة!.. ربُ العالمين ألا يرى حليلتهُ، وعليها آثار التعذيب؟.. قد لا يصل الأمر إلى الضرب، ولكن الكلام الجارح أشد تأثيرا من الأذى الجسدي، كما يقول الشاعر:
جراحات السنان لها التئام *** ولا يلتام ما جرح اللسان
فالمتشاجرون يتسامحون، أما أن يتكلم إنسان بكلمة تسقط الطرف الآخر من الاعتبار؛ فإنه قد لا يرضى عنه إلى يوم القيامة.
فإذن، إن الذي يريد أن يكون عبداً لله -عز وجل- عليه أن يكون مظهرا من مظاهر صفات الرحمة.. وأول ضحايا العنف الداخلي، هي الزوجة المسكينة؛ لأنها ضعيفة، ومجبرة أن تعيش مع الزوج، من أجل الأولاد، ومن أجل المال.. فإحساسها بالحاجة العاطفية وغير العاطفية، وخوفها من الفضيحة الاجتماعية، وعدم وجود مأمن لها بعدَ الخروج من المنزل؛ كل هذهِ الأمور تجعلها ترضى بالأمر الواقع.. لذا يرجى من المؤمنات، إن كانَ هنالكَ حدة في طبع الزوج؛ حُرمةً لهذا العش الزوجي، أن لا توكل أمر الزوج إلى الله.. فهذه العبارة المتعارفة بينَ النساء: حسبي الله عليك!.. هذا أعظم دعاء على الرجل؛ أي يا رب انتقم لي من فلان!.. ولهذا المرأة المؤمنة في هذا المجال، تحاول أن تُصلح الأمر بالنصيحة والترجي.. إياكِ وإياكِ أن توكلي أمر الرجل إلى الله عز وجل!.. إلا إذا كفر، أو قامَ بموبقةٍ كبيرة، أو تجاوزَ الحد في الظلم.. ولكن مبدئياً حرمة هذهِ العشرة الطويلة، تقتضي الصبر على الأذى والظلم.
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا}.. نحنُ من أتباع النبي وآله، أنظروا إلى شفقة النبي وآله، ما أوذي نبي مثلما أوذي النبي (ص).. ألم يجاهد؟.. ألم تكسر رباعيته؟.. ألم يُعفّر جبينه؟.. ألم تسل الدماء على حرّ وجهه حتى كنفتْ لحيته؟.. ألم يكابد الشدة والجهد مع جهّال قومه؟.. ألم يربط حجر المجاعة على بطنه الشريف؟.. ولكنه عندما رجع إلى مكة فاتحاً، والمنادي يُنادي: اليوم يوم الملحمة، يومُ الانتقام من عتاة قريش الذين قتلوا البدريين، وشهداء أحد، ولاقى الأذى على أيديهم لسنوات طويلة.. وإذا بالنبي الأكرم (ص) يقول: اليوم يوم المرحمة، رحمة هؤلاء الذين دعا لهم النبي (ص): (اللهم!.. أهد قومي).. قال لهم: (أذهبوا فأنتم الطلقاء)!.. هذا منطق النبي الأكرم، وأنا لا أتحمل زوجتي، ولا أتحمل جاري، بل لا أتحمل والدتي ووالدي!.. هذهِ هي حياتنا، فالذي هو في هذا الإطار، وفي هذا الطريق؛ كيف يتوقع الفتوحات الربانية؟!..
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ}.. عليٌ -عليه السلام- مظهر الرحمة، نحنُ ادخرنا علياً ليوم القيامة، فعلي وآل علي؛ هؤلاء مهمتهم تبدأ من عرصات القيامة؛ ولكن ليس كما قال الشاعر:
سودتُ صحيفة أعمالي *** ووكلتُ الأمر إلى حيدر
هل هذا معنى المشايعة؟!.. وهل هذا معنى المتابعة؟!.. إن المشايعة تكون في الدنيا قبل الآخرة.. فالصادق -عليه السلام- الناطق الرسمي لخطِ أهل البيت (ع) يقول بصراحة: (إن شفاعتنا لا تنال مستخفاً بصلاته).. إذن الشفاعة لها قواعد، ولها ضوابط؛ فليس الأمر جزافياً.. الإمام علي -عليه السلام- يسمع نبأ الاعتداء على ذمية في بلاد المسلمين، فيصيح (عليه السلام) قائلا: (لقد بلغني أن الرجل منهم، كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينزع قرطها وخلخالها، لا يمتنع منها.. ثم انصرفوا لم يكلم أحد منهم، فوالله لو أن امرأ مسلما مات من هذا أسفا، ما كان عندي ملوما؛ بل كان عندي جديرا).. فكيفَ إذا كانت مسلمة، وكيفَ إذا كانت محبة لأهل البيت (ع)، وكيفَ إذا كانت من الأرحام؟..
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا}.. الهون التذلل، والأشبه حينئذ أن يكون المشي على الأرض، كناية عن عيشتهم بمخالطة الناس ومعاشرتهم، فهم في أنفسهم متذللون لربهم، ومتواضعون للناس؛ لما أنهم عباد الله غير مستكبرين على الله، ولا مستعلين على غيرهم بغير حق.. وإن كان الهون بمعنى الرفق واللين، فالمراد أنهم يمشون من غير تكبر وتبختر.. الذي يعتقد أن كل الناس خيرٌ منه، هذا في مظان الرحمة.. في الحياة الدنيا الإنسان لا يعول على شيء، قد يقول قائل: أنا المصلي أرى أن هذا الذي لا يعرف القبلة أين؛ خيرٌ مني؟.. نعم هو خيرٌ منك، بدليل أن الأمور بخواتيمها؟!.. من قال بأن خاتمتك ستكون حسنة؟.. بعض أصحاب الأئمة -عليهم السلام- كانَ من مروجي أفكار أئمة أهل البيت (ع)، ومن الرواة، ولكنهم انحرفوا عن خطِ أهل البيت، والأئمة (ع) لعنوهم!.. كانت عاقبتهم عاقبة سيئة، بعد أن كانوا في مصافِ أبي بصير، وزرارة وغيرهم.. هذا الفاسق من أين تعلم أن عاقبته كذلك؟.. هل كان أحد يتوقع أن الحر بن يزيد، سيكون من أنصار سيد الشهداء؟.. أضف إلى أنه لعل شرهُ ظاهر، وشرك باطن؛ ربما باطنك مليء بالآفات الباطنية.. إذن الإنسان لا يعلم الحقيقة، ولهذا قال النبي (ص): (إن الله أخفى ثلاثا في ثلاث: أخفى رضاه في طاعته، فلا تحقرن طاعة أبدا.. وأخفى غضبه في معصيته، فلا تحقرن معصية أبدا.. وأخفى أولياءه في عباده، فلا تحقرن من عباد الله أحدا).. لعل المعصية الصغيرة هي المهلكة، ولعل الطاعة الحقيرة هي المنجية، ولعل هذا الإنسان المستضعف هو الولي وأنت لا تعلم.. وعليه، فهل تضمن العاقبة الحسنة، وخاصة في آخر الزمان؟!.. يذهب الولد إلى بلاد الغرب وعلى وجههِ آثار السجود، ويرجع وإذا به شخص آخر لا تعرفه.. إذا كنت شاكا في ولدك، لا تشجعهُ على السفر، قل: الأمر إليك!.. لا تتحمل المسؤولية الشرعية؛ لأن الإنسان قد يغفل عن ذكر الله -عز وجل- في تلك البلاد.
{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا}.. إن الإنسان الذي يستفز من أقل كلمة، هذا الإنسان يمشي في أرض مليئة بالألغام، في يومٍ من الأيام ينفجر فيهِ اللغم.. أما الإنسان الذي يتجاهل السفهاء والجاهلين، فهذا إنسان غير جاهل، بل هو عالم.. وإن كان الذي يتحدث غير جاهل، وقد تكلم بكلام فيه أذية للغير؛ فهو إنسان جاهل في تلكَ اللحظة.. دعك عن صلاة ليلهِ وعن خطبتهِ؛ ما دام تلبسَ بالجهل في تلكَ الساعة، لا تستمع إلى كلامه وتجاوزه.. فالمؤمن يعيش المحضرية الإلهية، فإذا التفت إلى زيد وعمرو وبكر وخالد؛ معنى ذلك أنهُ يعيش دائماً توترا باطنيا.. والتوتر الباطني، يُشغلهُ عن ذكر الله عزَ وجل.
إن رب العالمين كافأ الإمام السجاد (ع) في الدنيا قبل الآخرة، فالحُرقة الموجودة في مناجياتهِ -صلوات الله وسلامه عليه- ليست موجودة حتى في باقي مناجيات الأئمة عليهم السلام.. حُرقة متميزة؛ القلب الذي احترقَ في يومِ عاشوراء: الإمام الذي دفنَ أباهُ الحسين في تلكَ الحالة، والذي كتبَ على قبر أبيه: هذا قبر الحُسين الذي قتلوه عطشانا، والذي انتقل بهِ من بلدٍ إلى بلد وفي عنقهِ الأغلال الجامعة، ورأى عماتهُ في الأسر، وقد تقشرت وجوههن من الشمس، والإمام الذي واجهَ يزيد؛ ربُ العالمين لا ينسى هذهِ الحركة من ذلك الإمام (ع)، ربُ العالمين جعل البركة في مناجياته!.. يقول في مناجاة المحبين: (إلهي!.. فاجعلنا ممن اصطفيته لقربك…. وقطعت عنه كل شيء يقطعه عنك).
الخلاصة:
١- إن التعقيبات على أقسام فمنها المأثور ومنها التلاوة، وكذلك البكاء من خشية الله، ومنها أيضا السكوت في المصلى ساعة من الزمن لا يصلي نافلة ، ولا يقرأ دعاءً، إنما يفكر في عظمة الله تعالى، وفي ضعف الإنسان وقلة حيلته .
٢- إن الحياة ورقة مستنسخة، إذا لم يحدث الإنسان تغييرا في حياته،والجلوس في المصلى والتأمل فيما يغير مجرى الحياة من أعظم القربات إلى الله.
٣- إن الذي يريد أن يكون عبدا لله عز وجل عليه أن يكون مظهرا من مظاهر صفات الرحمة، على الخصوص مع الزوجة والأولاد.
٤- إن من صفات عباد الرحمن أنهم متذللون لربهم في أنفسهم، ومتواضعون للناس، فيمشون من غير تكبر ولا تبختر.
٥- أن الذي يعتقد أن كل الناس خير منه، هذا في مظان الرحمة الإلهية، فالأمور بخواتيمها، فلعل المعصية الصغيرة هي المهلكة والطاعة الحقيرة هي المنجية، فهل تضمن حسن العاقبة؟.
٦- إن الإنسان الذي يُستفز من أقل كلمة، هذا الإنسان يمشي في أرض مليئة بالألغام، في يوم من الأيام سينفجر فيه اللغم، أما الذي يتجاهل السفهاء والجاهلين فهذا هو العالم.
٧- إن المؤمن يعيش المحضرية الإلهية، فلا يلتفت لأحد لئلا يعيش التوتر الباطني، لأن ذلك يشغله عن ذكر الله.
٨- أن الله جل وعلا كافأ الإمام السجاد (ع) في الدنيا قبل الآخرة، فجعل البركة في مناجياته، إذ أن الحرقة الموجودة فيها ليست موجودة حتى في باقي مناجيات الأئمة عليهم السلام.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.