اليقظة..
إن أول خطوة في خطوات الطريق إلى الله عز وجل: عبارة عن اليقظة؛ أي أن يستيقظ الإنسان على واقعه.. وبعد اليقظة تأتي مرحلة العزم والحركة، فالإنسان الذي لديه حركة بشكل مستمر، سيلاقي ربه في يوم من الأيام.. والمقصود بـ”اللقاء” هنا، هو اللقاء الاختياري في الدنيا قبل اللقاء القهري في الآخرة، يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾.. بينما البعض يريد بعبادة مختصرة؛ كالالتزام بأربعينية، أن يصل إلى مرحلة اللقاء الإلهي، ولكن الأمر كما يقول الشاعر: “ومن يَخْطُب الحسناءَ لم يُغْلِها المهر”.. فالذي يطلب المقامات العالية، لابد وأن يكون على مستوى ذلك المقام.. والمؤمن كيس فطن، لا يتغافل كالنعامة، لأنه يعلم أن هذا واقع نحن صائرون إليه.
البلاء الرافع للدرجات..
إن ما يعيشه المؤمن من حالات الألم عند القبض؛ هو من باب التكفير عن السيئات.. فرب العالمين من لطفه وكرمه على عباده الصالحين، أنه لا يجعل هذه العقوبات تنتقل إلى يوم القيامة.. لذا، فإن المؤمن في ساعة من ساعات الإقبال، يقول: يا رب، إن كان ولابد من التصفية، فاجعل ذلك في الحياة الدنيا، سواء كان ذلك من خلال مرض، أو فقر، أو بلاء، أو ..الخ.. فالمؤمن يرحب بالبلاء، الذي يكفر به عن سيئاته.. ولكن هناك فرقاً بين البلاء التعويضي، الذي هو كفارة للمعاصي، وبين البلاء الرافع للدرجات!.. فالإنسان العاصي بمثابة إنسان سقط في البئر، ثم تم إنقاذه بعد بذل جهد كبير، فوصل إلى حافة البئر!.. هذا الإنسان لم يكسب شيئاً، إلا أنه صعد من القاع إلى حافة البئر.. فهناك فرق بين إنسان يُبذل له نفس الجهد، فيطير من حافة البئر إلى آفاق السماء وعالم المعراج والطيران؛ وبين إنسان يصعد من قاع البئر إلى أول البئر!..
إن البعض منا يرتكب الأخطاء والمعاصي، فيسلط عليه رب العالمين المرض والفقر والعقوبات، فيصبح حسابه صفراً.. هذا الإنسان من ناحية وضعه جيد، لأنه عوض الخسائر؛ ولكن من ناحية أخرى، لا يعتبر هذا الإنسان رابحاً في الحياة، لأنه عاد إلى ما كان عليه.. فلنبذل جهدنا كي نحول البلاء الذي يأتينا إلى رفع درجة، حيث أن بعض البلاءات تكون كبيرة، مثل: فقد الأعزة، وخسران رأس المال، والأمراض المستعصية.. ولكن طوبى لمن كان البلاء بالنسبة له رفع درجة، لا كفارة سيئة، وإن كانت أيضاً الكفارة من المزايا!..
المساءلة..
إن عالم المساءلة عالم مخيف، ويا له من عالم!.. لذا قيل: (موتوا قبل أن تموتوا)!.. وعليه، فإنه يجب أن يكون للإنسان جواب يخلصه من أيدي الملائكة المحاسبة في قبره.. حيث أنه يسأل عن الأمور التالية:
أولاً: الأصول.. إن الإنسان في الفروع يقلد، ويجعل العهدة في ذمة المرجع؛ ولكن عليه أن يكون معتقداً بالأصول، من خلال الدليل والبرهان ولو المبسط.. المؤمن في مجال العقيدة كالجبل الراسخ، من الممكن أن لا يبين ما في قلبه من الأدلة والبراهين، ولكنه يعيش حالة اليقين الباطني الواضح جداً.
إن هذه العبارة من فخر المحققين، يوصي بها كل واحد منا -ومن المناسب أن نعمل بهذه الوصية، التي ستظهر آثارها في ذلك العالم- يقول: (إن العديلة عند الموت تقع، فإنه يجيء الشيطان ويعدل الإنسان عند الموت ليخرجه عن الإيمان، فيحصل له عقاب النيران، وفي الدعاء قد تعوذ الأئمة (عليهم السلام) منها.. فإذا أراد الإنسان أن يسلم من هذه الأشياء: فليستحضر أدلة الإيمان والأصول الخمس بالأدلة القطعية، ويصفي خاطره ويخلي سره فيحصل له يقين تام، فيقول عند ذلك: اللهم يا أرحم الراحمين، إني قد أودعتك يقيني هذا وثبات ديني، وأنت خير مستودع.. وقد أمرتنا بحفظ الودائع، فرده علي وقت حضور موتي.. ثم يخزي الشيطان، ويتعوذ منه بالرحمن.. ويودع ذلك الله تعالى، ويسأله أن يرده عليه وقت حضور موته، فعند ذلك يسلم من العديلة عند الموت قطعا).. قد تأتي الأيام، وتحيط بالإنسان الشبهات والشهوات من كل جانب.. لذا، فإن الأمر يحتاج إلى تحديث مستمر، وهذا اليقين يحتاج إلى تحديث، فتقول: يا رب، هذا اليقين الباطني جعلته أمانة عندك، عند الموت اشهد علي بأني كنت على هذا اليقين.. فنحن نقرأ بعد التعقيبات: (رضيت بالله رباً، وبمحمد نبياً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن كتاباً، وبالكعبة قبلةً، وبعلي ولياً وإماماً، وبالحسن والحسين والأئمة صلوات الله عليهم.. اللهم إني رضيت بهم أئمة؛ فأرضني لهم، إنك على كل شيء قدير).. ولكن -مع الأسف- نحن نقرأ الدعاء قراءة، ولا ندعو دعاءً.. فالدعاء شيء، وتلاوة الدعاء شيء آخر!.. فلو أن الإنسان دعا بهذا الدعاء (أنت كما أريد، فاجعلني كما تريد) هنا الفخر كل الفخر!.. ولكن بشرط الدعاء لا القراءة.
ثانياً: الفروع.. إن الذي يجتاز عقبة العقائد والمساءلة العقائدية في القبر، فقد اجتاز مرحلة كبيرة.. إذا فرغ من أصول دينه، تأتي الفروع، وعلى رأس الفروع: السؤال عن الصلاة، هذه الصلاة التي ما عرفنا قدرها كما ينبغي.. كيف يمكن للمؤمن أن يصلي، وهو لا يفقه أسرار الصلاة؟!.. هناك من يقسم الشريعة إلى ظاهر وباطن، هذا تقسيم غير مقبول، الشريعة كلها شريعة!.. وفي طوال التأريخ كم من الذين سقطوا في هذا الفخ، هؤلاء البعض منهم وصل إلى درجة أنه قال: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾، أي نحن وصلنا إلى اليقين القلبي، وبالتالي التكاليف مرفوعة عنا.. هذا تسويل إبليسي معروف في هذا المجال!.. بل كله شريعة، حتّى الفقه أيضاً هو من لب الشريعة.
الصلاة:
١: تعلم المبادئ الأولية.. بعد أن تعلمنا فقه الصلاة، وعرفنا كيف نؤدي الصلاة الصحيحة، والطهور الصحيح، لأنه (لا صلاة إلا بطهور)، فعلى الأقل الإنسان يتعلم المبادئ الأولية.. البعض يكون تخصصه في أدق الفروع العلمية في الذرة -مثلاً- ولكن عندما يأتي للصلاة والصوم، لا يعرف الأحكام الأولية.. وهذا أمر غير مغتفر!.. والله العالم!.. أن في زماننا هذا كلمة (القاصر) مصداقه جداً محدود؛ لأن هذا العصر، هو عصر انفتاح أبواب العلم والتكنولوجيا، وثورة المعلومات، فليس هناك من يدعي أنه قاصر، ولم يستطع التعلم!.. يوم القيامة يقال له: هلا تعلمت؟!.. وقد تم تأليف كتب مبسطة في الفقه: كالفقه الميسر، والفقه المبسط، والحوارية الفقهية.. فأصبح بإمكان الإنسان في ليلة واحدة أن يلم بدورة، على الأقل في الصلاة والوضوء والطهارة وغير ذلك.
٢: إتقان الصلاة.. إن رب العالمين عندما خلق آدم من صلصال من حمأ مسنون، لم يكلف الملائكة السجود لهذا الهيكل الطيني، ولكن عندما نفخ فيه من روحه، أمر الملائكة بالسجود له، ﴿فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾.. فإذن، إن السجود لآدم كان عندما نفخت فيه الروح، ولهذا إبليس استنكف عن السجود لهذا الهيكل الطيني، لأنه لم يعرف قدر الروح التي نفخت فيه.. وكذلك بالنسبة إلى الصلاة، لابد أن نتقن ظاهرها، فرب العالمين ما نفخ الروح في هيكل آدم، إلا بعد أن أتم ظاهره.. وبالتالي، فإن الصلاة الخاشعة بمثابة نفخ الروح في هذه الصلاة، التي هي مكتملة بحسب الظاهر.. وقد ورد عن الإمام علي (عليه السلام) كلمة جامعة في الصلاة، حيث قال: (واعلم أنّ كل شيء من عملك تبع لصلاتك، فمَن ضيّع الصلاة فإنّه لغيرها أضيع)؛ أي إن أردت أن تكون حاكماً عادلاً مؤثراً في الأمة؛ أتقن صلاتك!.. ويقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾؛ حيث أن أول مهمة للحاكم الشرعي، إذا سلمت له مقاليد الحكم، أن يقيم الصلاة في الأرض.. نعم هذه الصلاة إذا انتظمت، كل شيء ينتظم في عالم الوجود؛ لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر.. وبالتالي، فإن الصلاة مشروع استراتيجي!..
٣: الصلاة في أول الوقت.. فلا يكون همّ أحدنا فقط أن يقول: الحمد لله نحن نقيم الصلاة ولو في آخر الوقت؛ هذه خطوة من أضعف الإيمان!.. أما الخطوة الثانية فهي الصلاة في أول الوقت.
٤: العروج في الصلاة.. هذه الصلاة ليست بمعراج!.. أحدنا يصلي ومثله كمثل من يذهب إلى المطار ويركب الطائرة، ولكن الطائرة لا تقلع به، فيخرج من الطائرة ويرجع للمنزل فرحاً، ويقول: سافرت.. هو لم يسافر، بل ركب الطائرة فقط، وهذه الطائرة بقيت على الأرض: إما لعدم وجود المحرك، أو لعدم توفر الوقود، أو لعدم مجيئ القبطان.. وبالتالي، هو لم يسافر، بل تشبه بالمسافرين.. وبما أن الصلاة معراج المؤمن، فإنه ينبغي للمصلي أن يعيش هذه الحقيقة: أي عندما يرجع من الصلاة، يرى نفسه أنه كان في رحلة سعيدة.. مثلما الإنسان المتعب الذي يذهب إلى الاستجمام، عندما يرجع؛ يرجع بنشاط.. فهل نحن كذلك بعد كل فريضة؟!..
فإذن، إن الصلاة لها حقيقة ما وراء هذا الأداء الشكلي، وهذا الأمر يحتاج إلى برنامج.. فلو أن أحدنا بدأ من اليوم بإتقان الصلاة، وبعد أربعين سنة صلى صلاة خاشعة، فهو على ألف خير.. هذا مشروع استراتيجي، فالذي لديه مال يمكنه أن يبني أبراجاً من مائة طابق.. ولكن هذا المشروع أنفع، وأكثر انعكاساً في حياة الأبدية!..
٥: عدم التهاون في الصلاة.. إن هذهِ الصلاة هي أجمل صورة خلقها الله -عز وجل- في الوجود، كما في رواية الإمام الرضا (عليه السلام): (إنّ الصلاة أفضل العبادة لله، وهي أحسن صورة خلقها الله.. فمَن أدّاها بكمالها وتمامها فقد أدّى واجب حقّها، ومَن تهاون فيها ضرب بها وجهه).
٦: التوجه في الصلاة.. إن النبي (ص) وآله هم مظهر الصلاة الخاشعة: كان الإمام الحسن (عليه السلام) له توجّه خاص لله، وكان يظهر هذا التّوجّه أحياناً على ملامح وجهه، أثناء وضوئه: كان يتغيّر لونه، ويرتجف، وحين كان يسأل عن سبب ارتعاد فرائصه، كان يجيب (عليه السلام)، إنّه واقف أمام الله جلّ جلاله، فحقّ للإنسان أن يرتجف، وترتعد فرائصه.. (كان الإمام الحسن -عليه السلام- أعبد أهل زمانه: حجّ بيت الله ماشيا خمسةً وعشرين حجة.. كان إذا قام للوضوء والصلاة، اصفرّ لونه، وأخذته رجفة من خشية الله، وكان يقول: حقّ على كل من وقف بين يدي رب العرش، أن يصفرّ لونه، وترتعد مفاصله).. وهذا الإمام السجاد (عليه السلام) روي عنه أنه (كان قائماً يصلي حتى وقف ابنه محمد (عليه السلام) -وهو طفل- إلى بئر في داره بالمدينة بعيدة القعر، فسقط فيها.. فنظرتْ إليه أمّه فصرختْ وأقبلتْ نحو البئر، تضرب بنفسها حذاء البئر وتستغيث وتقول: يا بن رسول الله!.. غرق ولدك محمد، وهو لا ينثني عن صلاته، وهو يسمع اضطراب ابنه في قعر البئر، فلما طال عليها ذلك قالت -حزنا على ولدها-: ما أقسى قلوبكم يا أهل بيت رسول الله؟.. فأقبل على صلاته ولم يخرج عنها إلا عن كمالها وإتمامها، ثم أقبل عليها وجلس على أرجاء البئر ومد يده إلى قعرها، وكانت لا تنُال إلا برشاء (أي حبل) طويل، فأخرج ابنه محمدا (عليه السلام) على يديه يناغي ويضحك، لم يبتل له ثوب ولا جسد بالماء، فقال: هاكِ يا ضعيفة اليقين بالله!.. فضحكت لسلامة ولدها، وبكت لقوله (عليه السلام): يا ضعيفة اليقين بالله.. فقال (عليه السلام): لا تثريب عليك اليوم!.. لو علمتِ أني كنت بين يديّ جبار، لو ملتُ بوجهي عنه لمال بوجهه عني.. أفمن يُرى راحماً بعده)!..
٧: المواظبة على مواقيت الصلاة.. ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (أن ملك الموت يتصفح الناس في كل يوم خمس مرات عند مواقيت الصلاة، فإن كان ممن يواظب عليها عند مواقيتها؛ لقنه شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله (ص)، ونحى عنه ملك الموت إبليس).. نعم، الذي يجعل عزرائيل يرفق في قبض روح الإنسان، ويدفع عنه شر الشيطان؛ هو المواظبة على هذه الصلاة.
الصلاة الخاشعة:
كيف نصلي صلاة خاشعة، فنحن عندما نقول: الله أكبر!.. يأتي كل شيء في الصلاة، ما عدا رب العالمين؟.. والبعض تأتيه الصور القبيحة، يا لها من بلية: إنسان يكبر، وإذا به يعيش عالماً منحرفاً أثناء صلاته؛ هذه كارثة!.. قال النبيّ (ص): (إنَّ العبد إذا اشتغل بالصلاة، جاء الشيطان وقال له: اذكر كذا اذكر كذا، حتى يضلّ الرجل أن يدري كم صلّى).. إن الصلاة شيء محترم جداً ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾.. يحيي الإنسان ليلة القدر من المغرب إلى طلوع الفجر، بين بكاء ودعاء وتوسل، ولكن عندما يصل إلى الصلاة، فإذا به رجع إلى ما كان عليه.. وكأن الله -عز وجل- يريد أن يقول: هذه ساحة قدسي، لا أسمح لكل أحد أن يدخل هذه الساحة.. يدخل بهو القصر، أو حديقة القصر؛ هذه الحالات الإيجابية من الخشوع والبكاء، حوالي القصر الملكي، لا بأس!.. أما أن يدخل على الملك، على ذلك المكان الذي لا يدخله إلا الخواص من أوليائه، يحتاج إلى كفاءة وإلى لياقة.. إذا دخل أحدهم القصر الملكي وعلى ثيابه آثار القذارة والدم، ولو كان هو لا يعلم بذلك، فإنه يمنع من الدخول على السلطان.
إن القضية مهمة وإستراتيجية، ولكن من باب “ما لا يدرك كله لا يترك جله”، المؤمن يبدأ من هذه المعادلة، وبعد أيام أو بعد سنوات، سيرى إلى أين يصل بإذن الله عز وجل.. هذه المعادلة معادلة جداً بسيطة: الإنسان بعض الأوقات هو الذي يوسوس لنفسه، ويختلق الصور.. وإلا إبليس أيضاً له دور، ولكن يصل الشيطان إلى درجة، يجعل الإنسان يشتغل تلقائياً.. هو -كما يقال في لغة الحاسوب- يجعل فيه برامج معينة ثم يتركه، هذه البرامج تعمل بشكل تلقائي، فيدمر الإنسان -بعض الأوقات- نفسه بنفسه.. هذه الخواطر النفسانية على قسمين:
القسم الأول: خواطر قهرية.. وهي التي تأتي الإنسان جبراً وقهراً، أي أن الشيطان أو النفس هما من يقدم رأس الخيط للإنسان.. هذه الهواجس غير محاسب عليها الإنسان؛ لأنها قهرية.. فكونها قهرية، يرفع عنه العتاب والعقاب.. وذلك مثله كمثل إنسان يحمل بيده سكينة، ثم عثر بحجر، فوقع على صدر مؤمن وطعنه فمات؛ هذا الإنسان لا ذنب له؛ لأن ما حدث أمر قهري.. أو أن إنساناً في حال النوم كسر شيئاً، أو قتل أحداً، أو ضرب زوجته وهو نائم؛ هذا الإنسان لا يلام على فعله.. فإذن، إن الأفعال اللاختيارية الإنسان غير محاسب عليها.
القسم الثاني: خواطر اختيارية.. إن المشكلة هي في المتابعة، حيث أن الشيطان يذكّر الإنسان بشيء، فما على الإنسان إلا أن يستعيذ بالله، ولا يتابع تلك الصورة.. رأس الخيط من الشيطان، ولكن المتابعة هي بفعل الإنسان.. فإن هو تابع الأمر، عندئذ يعيش حالة من الغليان الباطني، وينهي الصلاة وهو لا يدري في أي ركعة، لدرجة أن البعض يشك بين الأولى والرابعة!.. ومن هنا نرى أن هناك من يستعمل الأدوات الميكانيكية لحفظ السجود والركوع، من باب الضرورة لا بأس!.. ولكن هكذا يصل حال العبد أن عينه على عداد في موطن سجوده؛ بدلاً من تذكر المعاني الملكوتية الراقية؟!.. طبعًا هذه ليست بحالة مثالية ولا نموذجية.
فإذن، إن الحل في الخواطر الصلاتية، هو التفريق بينهما، وعدم متابعة هذه الأفكار والهواجس الشيطانية أو غير الشيطانية.. فقد يكون الهاجس غذائي: إنسان يصلي ويأتيه هاجس الطعام، هذا هاجس غير انحرافي، صورة غير محرمة، ولكنه مشغل عن الصلاة.. ولا يتوقع الإنسان أن يأتي في يوم من الأيام لا تأتيه خاطرة أبداً، هذا مقام المنقطعين إلى الله عز وجل، ولعل غير المعصوم لا يمكنه ذلك.
التعويض: إذا اكتشف الإنسان الآن أن هذه الصلاة لا ترتفع إلى السقف؛ فضلاً عن العرش؛ عليه أن يعوّض ذلك التقصير.. والتعويض يكون من خلال:
١. السجدة الأخيرة: يقول الإنسان: يا نفسي، كفاكِ ما فعلت بي، الركعات لك، وأنا الآن لي سجدة واحدة بين يدي الله عز وجل، أعوض هذا الخراب الذي كنت مشغولاً به.. فيحاول أن يتقن السجدة الأخيرة، وذلك بمناجاة خفيفة مثلاً!.. لماذا صلواتنا عبارة عن قالب مغلق: تكبير، وحمد، وسورة، وذكر، وركوع، وسجود.. لمَ لا يُضمّن المصلي صلاته شيئاً من المناجاة؟.. من قال بأن المصلي ملزم؟.. طبعًا هذا القالب لابد منه، ولكن في القنوت يستطيع أن ينوّع: يقرأ ما يشاء ولو من خلال كتاب دعاء، هذا لا يبطل الصلاة.. وفي السجود يستطيع أن يطيل السجود بين يدي الله عز وجل، يعتذر لله -عز وجل- لما كان فيه من التقصير.
٢. التعقيبات: إن المؤمن الذي يقول: “السلام عليكم”، ويقوم عن سجادته؛ هذا بمثابة إنسان كان في محضر أحد وهو يستثقل وجوده؛ فهذا نوع من أنواع سوء الأدب بين يدي الله عز وجل.. فالإنسان الذي يجتمع مع أصحابه على مائدة ويتناول الطعام معهم، لا يتركهم مباشرة، بل يجلس فترة زمنية بعد الانتهاء من الطعام، ويستأنس بالحديث معهم.. وكذلك الحال بالنسبة للإنسان المستذوق لصلاته: حيث أن الإنسان المستأنس له علامة، ومن علامات الاستئناس أن يطيل الجلوس بين يدي الله -عز وجل- بعد الفريضة معقباً.. فمن التعقيبات هذا التعقيب الجميل: (إلهي!.. هذه صلاتي صلّيتها لا لحاجة منك إليها، ولا رغبةً منك فيها، إلاّ تعظيماً وطاعةً وإجابةً لك إلى ما أمرتني به.. إلهي!.. إن كان فيها خلل أو نقص من نيّتها أو قيامها أو قراءتها أو ركوعها أو سجودها، فلا تؤاخذني، وتفضّل عليّ بالقبول والغفران برحمتك يا أرحم الراحمين).. أي يا رب أنا لا أتوقع منك ثواباً على صلاتي، ولكن فقط لا تؤاخذني؛ لأن هذه الصلاة فيها شبهة عدم التوقير لمقام الربوبية.. قال النبيّ (ص) وقد رأى مصلّياً يعبث بلحيته: (أمّا هذا لو خشع قلبه، لخشعت جوارحه)؛ أي هنالك علاقة بين الباطن والظاهر.. وكذلك الإنسان الذي لا يعقب بعد الفريضة، يدل على عدم استئناسه الباطني.. فإذن، التعقيبات أيضاً مجال للتعويض.
٣. تسبيحات الزهراء (ع): قال الصادق (عليه السلام): (تسبيح فاطمة (عليها السلام) في كل يوم في دبر كل صلاة، أحب إليّ من صلاة ألف ركعة في كل يوم).. وعنه (عليه السلام): (من سبح تسبيح فاطمة الزهراء (عليها السلام) قبل أن يُثني رجليه من صلاة الفريضة، غفر اللَّه له، وليبدأ بالتكبير).
٤. صلاة ركعتين: إذا رأى الإنسان أن هذه الصلاة التي صلاها لم تشف الغليل، ولم يعرج بها؛ هل هنالك مانع أن يصلي ركعتين، بنية القربة المطلقة إلى الله عز وجل؟!.. يصلي ركعتين بين يدي الله بلا سورة -في المستحبات السورة غير مطلوبة-، ومن جلوس- القيام لا يجب في المستحب-، ويمكن أن يختصر التسليمات بتسليمة واحدة.. ولكن فليجعلها ركعتين خالصتين بين يدي الله عز وجل، يقول: يا رب، إن أخطأت في صلاتي، أو سهوت؛ فهاتان ركعتان خفيفتان أقدمهما بين يديك.. ورد في الروايات (أن النوافل تجبر الفرائض)، ولكن إن لم يمكنه أن يأتي بالنافلة لتمامها، فلتكن ركعتي اعتذار.. طبعًا الأمر بين يدي الله عز وجل؛ ولكن الباطن هكذا يقول: أقدم لك ركعتين صافيتين من كل شائبة.
إن هذه الصلوات هي التي نسأل عنها في عالم البرزخ والقيامة، كأول فرع من فروع الدين (الصلاة عمود الدين: إن قُبلت قُبل ما سواها، وإن رُدت رُد ما سواها الدين).. فإذن، إن موضوع الصلاة نعم الزاد لذلك العالم!.. روى القطب الراوندي: (أن عيسى (عليه السلام) نادى أمه مريم (عليها السلام) بعد ما دفنت فقال: يا أماه، هل تريدين أن ترجعي إلى الدنيا؟.. قالت: نعم، لأصلي لله في ليلة شديدة البرد، وأصوم يوماً شديد الحر.. يا بني، فإن الطريق مخوف)!.. فالأرواح في عالم البرزخ أرواح حية، البعض يقول: الأرواح في عالم البرزخ، أكثر سمعاً وأكثر بصراً؛ لأن الأرواح في الدنيا محبوسة في أقفاص الأبدان، فعندما يُكسر القفص، هذا الطير الذي حبس ستين سنة فيه، وإذا به يطير وتفتح له الآفاق.. وذلك كمثل الطاقة الكامنة في الذرة، هذه التي لا ترى بالعين، هذه الطاقة عندما تنطلق من الذرة، وإذا بها تدمر البلاد وتميت العباد.. الأرواح بمثابة هذه الطاقة المنطلقة من الأبدان، تفتح لها الآفاق، فهي أقدر في السمع والبصر من عالم الدنيا!..
الخلاصة:
أن الإنسان المؤمن له برنامج تحسين الصلاة:
١. فقيهاً بحسب الظواهر، حيث أن الإنسان -بعض الأوقات- يكتشف أنه كان عربياً، ولكن ما تلا القرآن تلاوة صحيحة، لأنه لم يتعلم الآداب والأحكام.. لذا، علينا أن نتقن الظاهر الصلاتي.
٢. باطنياً، وذلك بعد إتقان الظاهر.
ثالثاً: القلب السليم.. يقول تعالى: ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ﴾.. رب العالمين عندما يصف إبراهيم ويعقوب، يصفهم بأنه أخلصهم بهذه الخالصة، ذكّرهم بالدار، وكأن هذه البيوت ليست بدور، وهذه الحياة ليست بحياة.. الدار هناك، الآخرة هي الحياة الحقيقية.. فمن أفضل أنواع الزاد لعالم البرزخ والقيامة بعد إتقان الأصول، وتقديم الدليل والبرهان، ولو بحسب المستوى العلمي والثقافي للإنسان؛ هذا البعد الثالث ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.. قد يأتي إنسان في عرصات القيامة عقائده مكتملة، أستاذ في العقائد وله كتب، وفروعه فروع متقنة، بحسب الظاهر لا إشكال في فروعه، ولكنه كان إنساناً سيء الباطن.. هو كتم باطنه، لأنه يخاف الله عز وجل، مثلاً: إنسان حسود، لا يظهر حسده، ولكنه يغلي في الباطن.. أو إنسان حقود، لا يظهر حقده.. أو إنسان متكبر، ولكنه يعمل أعمال المتواضعين؛ هذا الباطن باطن غير نقي.. المؤمن يحاول أن ينظر إلى هذا الباطن!.. وبتعبير جماعة الحاسوب، عندما يرى الجهاز لا يعمل بشكل جيد، يقول: هنالك فيروس دخل الحاسوب، فيبحث عن الخلل في الجهاز.. ومن هنا المؤمن يحاسب نفسه، وينظر إلى باطنه وإلى فؤاده (حاسبوا أنفسكم)!.. سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز وجل ﴿إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾، قال: (السليم الذي يلقى ربه، وليس فيه أحد سواه، وقال: وكلُّ قلب فيه شكُّ أو شرك فهو ساقط، وإنما أرادوا الزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة).
فإذن، القلب السليم هو ذلك القلب الذي يلقى الله عز وجل، وليس فيه أحد سواه.. إنه تعبير فخم جداً، ليس فقط يجب إزالة الحسد والحقد والتكبر، بل يجب إزالة ما سوى الله عز وجل من الفؤاد.. التوحيد أن لا ترى في الوجود مؤثراً إلا هو!.. فالذي يرى التوحيد بهذا المعنى؛ ويرى أن أزمّة الوجود طراً بيده، والكل مستمدة من مدده؛ هل يخاف من أحد؟.. رب العالمين ما خلق الكون وذهب جانباً ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ من الذي يقلب صفحات الحكم وغيره؟.. (يهلك ملوكًا، ويستخلف آخرين)؛ رب العالمين له سياسته، وبرنامجه بالنسبة إلى هؤلاء، يمهل ولكن لا يهمل.. في وصية النبي (ص) لعلي (عليه السلام): (إنّ إزالة الجبال الرواسي، أهون من إزالة مُلك مؤجّل، لم تنقُص أيّامه)؛ فكما أن للأفراد آجالاً، للحكم أيضًا أجل.. يوقت الأمور لمصلحة هو يراها، والمثال على ذلك:
١. يرى نبيه ثلاث عشرة سنة في مكة، وهو مطارد ومعذب: تارة في شعب أبي طالب، وتارة ترمى عليه النفايات، وتارة يُعذب أصحابه، وتارة يهاجرون؛ ولكن الله -عز وجل- ما فرّج عن نبيه إلا عندما أذن له بالهجرة.. ثم منّ عليه ثانية، ففتح له مكة.. كان بإمكان الله -عز وجل- أن يفتح له مكة في السنة الأولى للهجرة بعد معركة بدر، ولكن كل شيء بحسابه، الأمور مؤقتة.
٢. إن المسافات التي تفصل الكواكب عن الشمس، مسافات دقيقة، فلو اقتربنا من الشمس مسافة؛ احترقنا، ولو ابتعدنا؛ تجمدنا، ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾!.. والورقة لا تسقط إلا بعلمه، ما قيمة ورقة في غابة من الغابات؟.. هذه الورقة يعلم أنها سقطت، وفي أي زاوية سقطت، وكم مرة تقلبت، وعلى أي أرض وقعت ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا﴾.. هكذا رب العالمين عينه على الأوراق الساقطة، فكيف بالعباد؟!.. عندما يظلم العبد، العرش يهتز، ولكن رب العالمين يمهل ولا يهمل.. الحسين (عليه السلام) قتل هو وأصحابه، ولكن ما دارت الأيام، إلا ورب العالمين انتقم من ظلمته واحداً واحداً.. لا من الظالم بل من أتباعه، ومن حكومته وحضارته ومن يمثله!..
٣. نحن عندما نمر على حركات بعض صحابة النبي، الإنسان يذهل.. هؤلاء الذين كانوا بالأمس يصنعون إلهاً من تمر، ثم يأكلونه في آخر النهار، ويشربون الخمر، ويتقاتلون على أتفه الأمور، وإذا بهم بفضل تربية النبي المصطفى (ص)؛ أصبحوا خير أمة أخرجت للناس.. روي عن بعض الصحابة أنه قال: (صرنا رعاة الشمس والقمر، بعدما كنّا رعاة الإبل والغنم والبقر)؛ هذا الصحابي كلماته لا تُقدّر لا بالذهب ولا بغيره!..
فإذن، من علامات التوحيد الحق: اطمئنان القلب، كما قال عبد المطلب عندما جاء أبرهة: (أنا رب الإبل، وللبيت رب يحميه) هذا مثل في كل عصر.. الإسلام له رب يحميه، والعباد لهم رب ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ المدافع هو رب العالمين.. هتك أحدهم هتكًا لا يتحمل، وإذا به يناجي ربه قائلاً: أنت قلت في كتابك: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وإذا بالجدار يسقط على من هتكه بعد سويعات ويرديه قتيلاً.. ولكن هو أدرى كيف يقلب الأمور في بلاده وعباده!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.