عالم البرزخ..
إن البرزخ هو المرحلة المتوسطة بين عالم القبر وعالم القيامة، وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: ( والله!.. أتخوف عليكم من البرزخ.. قلت ما البرزخ ؟.. فقال: القبر منذ حين موته إلى يوم القيامة).. ولكن لماذا هذا التخوف: هل العقاب والحساب في عالم البرزخ أشد من عالم القيامة؟.. أو أن حساب الأعمال يكون في عالم البرزخ، وفي القيامة حساب الأعمال والصفات والملكات، حيث أنه من الممكن أن الصفات الحميدة تعوّض الأعمال القبيحة؟.. كل ما علينا أن نعلمه: أن السمة الأولى في هذا العالم، هو انقطاع الأعمال، فعن رسول الله (ص): (إذا مات ابن آدم، قامت قيامته) وفي نفس الوقت انقطع عمله.. فقد روي عن رسول الله (ص) أنه قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).
قنوات العمل الصالح..
إن الدواوين تختم، والأقلام تجف بموت الإنسان، ولكن هنالك قنوات ثابتة تصب في ميزان الأعمال بعد الموت، وهنيئًا لمن تعددت له هذه القنوات بل اتسعت!.. فالمؤمن يبرمج نفسه، ليحوز على أكثر من قناة، وعلى أكثر من حساب جارٍ في هذا المجال.. هذه القنوات هي:
أولاً: الصدقة الجارية.. إن الشيطان عندما يرى هناك همة وعزماً في الإنسان على تغيير مجرى حياته، يأتي ليثبط له هذه العزيمة.. لذا، عليه أن يسارع ويخبر من حوله أو يكتب في رقة، أنه يريد أن يجعل ثلث أمواله صدقة جارية، سبيلاً له بعد الممات.. هذا حقه، فلمّ يفوّت هذا الحق الذي لا يكلفه إلا جرة قلم، أو كلمة؟!.. كيف سيكون حاله وهو في عالم البرزخ، متورط بحقوق الناس، ويعيش الضيق والوحشة والظلمة والأذى، وهو ينظر إلى هذا الثلث المتاح له بيد أولاده؟!.. ألا يكفيهم الثلثان؟!.. بأي منطق يفوّت الإنسان على نفسه هذه الفرصة؟!.. من يفعل ذلك إنسان مغبون، فوت على نفسه فرصة العمر!.. ولكن عليه أن لا يُضيّق على الورثة، ولا يُعقّد الأمور عليهم.. فليقل: “اجعلوا ثلث أموالي في سبيل الله -دون قيد أو شرط- ووصي فلان، والناظر عليه فلان”؛ لأن هذه القيود مربكة للورثة.
مع الأسف هنالك بعض الأثلاث المعطلة، الورثة يجعلونها ودائع في البنوك، ويصرفونها من الأرباح، وهذا أمر غير سائغ.. لذا يجب أن تكون الوصية بشكل صريح!.. أي يكتب: أوصي بأن يدفع الثلث بعينه في ما يرضي الله عز وجل!.. لئلا يأتي الوارث ويوجه الأمر توجيهًا لصالحه!.. وكم من هذه الأموال جمدت سنوات كثيرة، والميت يعذب في قبره ينتظر صدقة!.. ينقل الشيخ القمي في منازل الآخرة: “ويحكى أن أمير خراسان شوهد في المنام وهو يقول: ارسلوا إلي بما تطرحونه للكلاب، فإني محتاج إليه ..”، والروايات في هذا المجال واضحة جداً، فقد روي عن رسول الله (ص) أنه قال: (أهدوا لموتاكم)!.. فقلنا يارسول الله: وما هدية الأموات؟.. قال: (الصدقة والدعاء)، وقال: (إن أرواح المؤمنين تأتي كل جمعة إلى السماء الدنيا بحذاء دورهم وبيوتهم، ينادي كل واحد منهم بصوت حزين باكين: يا أهلي، ويا ولدي، ويا أبي، ويا أمي، وأقربائي!.. اعطفوا علينا يرحمكم الله!.. وبالذي كان في أيدينا، والويل والحساب علينا، والمنفعة لغيرنا.. وينادي كل واحد منهم إلى أقربائه: اعطفوا علينا بدرهم, برغيف، أو بكسوة يكسوهم (يكسكم) الله من لباس الجنة).. ثم بكى النبي (ص) وبكينا، فلم يستطع النبي أن يتكلم من كثرة بكائه ثم قال: (أولئك إخوانكم في الدين، فصاروا تراباً رميماً بعد السرور والنعيم، فينادون بالويل والثبور على أنفسهم يقولون: ياويلنا لو أنفقنا مافي أيدينا في طاعة الله ورضائه، ماكنا نحتاج إليكم، فيرجعون بحسرة وندامة، وينادون: أسرعوا صدقة الأموات).. وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّ الميت ليفرح بالترحّم عليه والاستغفار له، كما يفرح الحي بالهدية تُهدى إليه).
ثانياً: العلم النافع.. هنيئًا لبعض علمائنا الأبرار، هؤلاء لم يموتوا!.. في حوزاتنا العلمية هذه الأيام، ما من عالم، أو فقيه، أو متفقه، أو حتى خطيب، أو محقق؛ إلا وهو يقتات على مائدة الشيخ الأعظم “الشيخ الأنصاري” رحمه الله، هذا الإنسان لم يمت، كل عالم في هذه الأيام، لابد وأنه مر على كلماته.. كذلك الشهيدان في لمعتهما كم لهما من الأجر العظيم إلى يوم القيامة!.. فالعالم أيضاً له صدقة جارية، ومن هنا قد يعيش الإنسان الحرقة، ويتمنى أن يكون كالشيخ الأنصاري!.. ولكنه بإمكانه تدارك ذلك بإرسال ولدٍ للتفقه والدراسة الحوزوية، فيكون بذلك قد حاز على ولد صالح يدعو له، وأيضاً علم ينتفع به؛ لأنه سيكون هو السبب في هذا العلم.. ومن مصاديق العلم الذي ينتفع به، نشر العلم النافع.. وهذه الأيام هناك مؤلفات قيمة من بعض المؤمنين الذين هم خارج الحوزات العلمية، فالعلم ليس وقفًا على فئة، مثلاً: إن كان الإنسان متمكنًا من الكتابة النافعة للكبار، أو للصغار، أو للنساء، أو لغيرهم، عليه أن يقوم بذلك، فيحاول أن يستنقذ العباد: بكلمة، أو بقلم، أو بموعظة، الأمر إليه، حسب إمكانياته!.. هذه الأيام قسم من مقاصد الشريعة يصل إلى نفوس الخلق من خلال الوسائل المبتكرة، مثل: التمثيل، والأفلام، والمواقع، وغير ذلك.. هذه أمور من الممكن أن يقوم بها، من جمع بين العلم وبين المهارات في هذا المجال.
ثالثاً: الولد الصالح.. إن الولد الصالح، هو الولد الذي يدعو لوالديه.. وهذا الولد لا يأتي من الفراغ، بل يحتاج إلى مقدمات، منها:
١. قبل الزواج: إن الفرصة لازالت أمام الذين لم يتزوجوا بعد، عليهم بالزواج من المرأة التي ليست هي أداة للمتعة فحسب!.. فهذه المرأة ما وراء هذا الجمال الظاهر، لها منبت عائلي، ولها صبغة وراثية.. عليهم أن ينظروا أيضاً إلى هذه العناصر في المرأة التي يراد الزواج منها.. فقد روي عن رسول الله (ص) أنه قال: (أيُّها الناس، إياكم وخضراء الدمن!.. قيل: يا رسول الله، وما خضراء الدمن؟.. قال: المرأة الحسناء في منبت السوء).. فإذن، المؤمن عندما يتزوج لا يفكر في شهر عسله، وإنما يفكر في صدقته الجارية بعد الموت.. ومن الممكن أن يحدس الإنسان، أن هذه أم صالحة لأولاده، من خلال: تقواها، وتربيتها، وعائلتها.. رغم أنه مهما تم التحقق، فالمرأة كالصدفة المغلقة؛ ولكن لابد من وجود بعض العلامات التي تدل على أن هذه الصدفة فيها جوهرة.
٢. ليلة الزفاف: إن المؤمن بعيد النظر، يحاول أن يقطف ثمار هذه الحياة الزوجية، ليحقق السعادة في تلك الليلة الموحشة.. ولهذا فإن المؤمن في ليلة الزفاف يعمل بمستحبات تلك الليلة، فيصلي ركعتين بين يدي الله -عزَ وجل- بتوجه، ويقرأ الدعاء المعروف في تلكَ الليلة، ويطلب من الله -عز وجل- الذُرية الطيبة.. قال الصادق -عليه السلام- (إذا دخلت على العروس ليلة الزفاف، فخذ ناصيتها وأدرها إلى القبلة وقل: اللهم!.. بأمانتك أخذتها، وبكلماتك استحللتها.. فإن قضيت لي منها ولداً، فاجعله مباركاً تقياً من شيعة آل محمد، ولا تجعل للشيطان فيه شركاً ولا نصيباً).. المؤمن عندما يتزوج في تلك الليلة المشغلة المذهلة، التي ينسى الإنسان فيها القواعد العامة، وينشغل بلذته، يطلب من الله -عز وجل- أن يرزق بذرية صالحة.. هذه الذرية الصالحة التي ستكون صدقة جارية له بعد الموت، وتنفعه في ليلة الوحشة، تكتسب في ليلة الزفاف.
٣. الالتزام بالمستحبات أثناء الحمل: إن المؤمن والمؤمنة لهما برامج عند الحمل، فهذه الأشهر التسعة من الأشهر التي يكثر فيها المؤمن الدعاء.. بعض الأمهات همهن: الجانب الصحي، والطبي، والغذاء المناسب، وبعض المقويات في هذا المجال.. ولكن الأم الصالحة، لا تنسى أن تطلب من الله -عز وجل- سلامة الجنين.. وكم من الجميل أن يطلب الوالدان من ربهما، أن يبعث لهما من هذه الخزانة الكبيرة -خزانة الأرواح- روحًا متميزة.. فالأمر يحتاج إلى دعاء؛ لأن الأب والأم يعطيان الولد خلاصة حياتهما: وهو في بطن الأم، الأم تعطيه من خلاصة وجودها، من خلال المشيمة، تغذي الولد بخلاصة عناصر وجودها، وفيتاميناتها الغذائية.. وعندما يأتي إلى الدنيا من ساعة ولادته إلى ساعة موت الأب، وهو يحمل همّ هذا الولد: تغذية، وتعليماً، وتزويجاً،.. الخ.. المؤمن يقول: يا رب، إذا لم يكن هذا في مرضاتك؛ ما لي وهذا الانشغال؟!.. ما لي وهذا التعب الذي ليس من ورائه استثمار لآخرتي؟!.. فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (لا تجعلنّ أكثر شغلك بأهلك وولدك: فإن يكن أهلك وولدك أولياء الله، فإنَّ الله لا يضيع أولياءه، وإن يكونوا أعداء الله، فما همّك وشغلك بأعداء الله)؟!.. فإذن، إن المؤمن يستغل كل فرصة في هذا المجال، فهذا زاد المؤمن في البرزخ والقيامة، هذا الزاد أيضاً يكتسب من خلال الذرية الصالحة.
٤. الدعاء أثناء الولادة: المؤمن يغتنم هذه الساعة أيضاً، في تلك الساعة التي يولد فيها المولود، حيث الجميع في حالة ترقب.. فليحاول الأب أن يكون في تلك الساعة في بيت من بيوت الله عز وجل، على مصلاه يناجي رب العالمين أن يجعله في طريق نصرة الله ورسوله وأوليائه.. فليس من المستبعد أبداً، أن البعض من أولادنا أو من أحفادنا، يمنّ عليه رب العالمين، ويجعله من أنصار وليه الحجة بن الحسن المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، ألا نقرأ: (اللهم!.. أدرك بنا قيامة، وأشهدنا أيامه).. نعم، من الممكن أن يأتي أمره بغتة، فنحن الآن في مرحلة حساسة من التأريخ، وكل المفاجآت محتملة.
٥. التربية: إن المؤمن لا يفتر عن هذا الدعاء: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾.. فهذه الآية فيها لفتتان مهمتان:
اللفتة الأولى: طلب هبة؛ ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا﴾؛ أي أنا لست في مستوى التربية، أنا إنسان ما ربيت نفسي أيام شبابي، فكيف أربي الآن ولدي الشاب؟!.. فقد روي عن رسول الله (ص) أنه قال: (أدبوا أولادكم بغير أدبكم، فأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم).. أنا في زماني ما كنت مؤدباً بالأدب المطلوب، فكيف أؤدب ولدي؟.. ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا﴾؛ أي تفضل علينا من باب الهبة والتفضل، لا من باب الاستحقاق ومن باب الأجور.
اللفتة الثانية: الطموح، ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾؛ المؤمن هنا لا يطلب من الله -عز وجل- ولدًا صالحاً يسمع كلامه، ويأتيه بالرزق الوفير.. لا يريد ولداً متقيًا فقط، إنما يريده أن يكون إماماً للمتقين؛ انظروا إلى الطموح!.. بينما هناك من يعيش في قرية وهمه: أن يُرزق بولد كي يحصد معه القمح، ويخبز له الخبز.. أو ولد يذهب إلى بلاد الغرب، يبيع دينه وإيمانه، كي يرسل له المال في آخر كل شهر، ولا يهم في أية حالة أو في أية وضعية!.. هل هذا الولد صدقة جارية، أو أنه بسوء تربيته، أوجد في الأمة بؤرة من بؤر الفساد والإفساد؟..
وبالتالي، فإن هذه المزايا كلها تظهر ثمارها في عالم البرزخ والقيامة.. فالذرية الصالحة من القنوات التي تسعد الإنسان في عالم البرزخ: حيث أنه قد يكون الإنسان متورطاً في عالم البرزخ في مقابل دينار، فهذه الصدقة الجارية من موجبات رفع الأزمة، والتخليص من أيدي الخصماء في ذلك العالم.. قال النبي (ص): (مرّ عيسى بن مريم (عليه السلام) بقبر يُعذب صاحبه، ثم مرّ به من قابل فإذا هو ليس يّعذب، قال: يا ربّ!.. مررت بهذا القبر عام أول فكان صاحبه يُعذب، ثم مررت به العام فإذا هو ليس يُعذب؟.. فأوحى الله -عزّ وجلّ- إليه: يا روح الله!.. إنه أدرك له ولدٌ صالحٌ، فأصلح طريقاً، وآوى يتيماً، فغفرت له بما عمل ابنه).
فإذن، هنالك ثلاث قنوات للإنسان بعد موته.. المؤمن يحاول وهو في سلامة من بدنه، أن يبحث عن هذه القنوات ويجمع بينها.. أحد العلماء جمع بين هذه الحقول الثلاثة: ولد صالح، وعلم ينتفع به، وصدقة جارية.. دعا الله -عز وجل- بهذه الأمور، وقد كان يائساً من كل شيء، وإذا برب العالمين في فترة زمنية، جمع له بين هذه المزايا الثلاث.. وعليه، فإن المؤمن يسأل الله -تعالى- أن يمنّ عليه، ويجمع له هذه القنوات، كي تكون زاده للآخرة!..
عالم القيامة..
إن الحشر في عرصات القيامة، وهول البعث؛ هول مخيف يعتد به.. فالنبي الأكرم (ص) كان إذا ذكر الساعة، اشتد خوفه، واحمرت وجنتاه.. وفي بعض النصوص أن جبرائيل -وهو سفير الله بين الأنبياء وبين رب العالمين- نظر إلى السماء فارتعد وخاف عندما رأى إسرافيل.. فقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: (بينما كان رسول الله جالساً وعنده جبرائيل (عليه السلام)، إذ حانت من جبرائيل نظرة قبل السماء، فانتقع لونه حتى صار كأنه كركم، ثم لاذ برسول الله (ص).. فنظر رسول الله إلى حيث نظر جبرائيل، فإذا شيء قد ملأ بين الخافقين مقبلاً حتى كان كقاب من الأرض، ثم قال: يا محمد!.. إني رسول الله إليك أخيرك: أن تكون ملكاً رسولاً أحب إليك، أو أن تكون عبداً رسولاً؟!.. فالتفت رسول الله (ص) إلى جبرائيل وقد رجع إليه لونه فقال: جبرائيل: بل كن عبداً ورسولاً.. فقال رسول الله (ص): بل أكون عبداً رسولاً!.. فرفع الملك رجله اليمنى فوضعها في كبد السماء الدنيا، ثم رفع الأخرى فوضعها في الثانية، ثم رفع اليمنى فوضعها في الثالثة، ثم هكذا حتى انتهى إلى السماء السابعة، بعد كل سماء خطوة، وكلما ارتفع صغر حتى صار مثل الصر، فالتفت رسول الله (ص) إلى جبرائل (عليه السلام) فقال: قد رأيتك ذعراً!.. وما رأيت شيئاً كان أذعر لي من تغير لونك؟.. فقال: يانبي الله، لاتلمني أتدري من هذا؟.. قال: لا.. قال: هذا إسرافيل حاجب الرب، ولم ينزل من مكانه منذ خلق الله السماوات والأرض، ولما رأيته منحطاً (نازلاً) ظننت أنه جاء بقيام الساعة، وكان الذي رأيت من تغير لوني لذلك، فلما رأيت ما اصطفاك الله به رجع إلي لوني ونفسي).. انظروا إلى عظمة النبي (ص)، حتى جبرائيل عندما كان يفزع كان يلوذ برسول (ص)، وفي الحروب إذا اشتد البأس، كان المسلمون يلوذون بالنبي الأكرم (ص).. فمنظر إسرافيل ومجيئه، كان له أثر في أن يجعل جبرائيل يلوذ بالنبي الأكرم (ص).
– الخروج من القبر: إن القرآن الكريم يصف خروج الناس من قبورهم بأوصاف شتى منها: ﴿كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ﴾، ﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾.. عبر عنهم بالجراد؛ لأن الجرادة عندما تطير ليست لها وجهة ثابتة، تطير هنا وهناك، في حالة من حالات الذهول، وخاصة إذا كان الجراد منتشراً؛ هذه حالة الناس يوم القيامة ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ﴾، يسرعون وكأن البعض منهم يلتمس علامة.. وذلك كمثل المسافر على الطرقات، تكون عينه على لوحات المرور يميناً وشمالاً، كي يعلم المسافة المتبقية للبلدة التي يقصدها.. وكذلك بالنسبة للإنسان في عرصات القيامة، فإنه يبحث عن هذه العلامات: فإن كان بصيراً، وهنالك علامات، من الممكن أن ينجو.. أما إن كان كما في قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى﴾، الكفيف كيف يهتدي إلى الطريق؟.. حتى إن كان بصيراً، والظلمات تحيط به من كل مكان، وليس له نور يمشي به، لا يستطيع أن يهتدي.. فالنور الذي يكون في ظلمات القيامة، هذا للإنسان الذي اكتسب هذا النور في الحياة الدنيا.. قال الصادق (عليه السلام): (إذا أراد أحدكم أن لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه، فلييأس من الناس كلّهم، ولا يكون له رجاء إلا من عند الله عزّ وجلّ.. فإذا علم الله -عزّ وجلّ- ذلك من قلبه، لم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه.. ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، فإنّ في القيامة خمسين موقفاً، كل موقف مثل ألف سنة مما تعدّون، ثم تلا هذه الآية: ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾). موقف رهيب!.. يكفي أن يقال للمؤمن: أنت من أهل الجنة، ولكن انتظر الدور!.. الانتظار لمدة خمسين ألف سنة؛ أمر مرعب!.. قد يقول قائل: هذا يعني أن أهل الجنة أيضاً يعذبون قبل دخول الجنة، ولكن دون الدخول إلى جهنم؟!.. الجواب هو ما ورد عن النبي الأكرم (ص) حيث قال: (يوم القيامة على المؤمنين، كقدر ما بين الظهر والعصر)؛ كما أن اليوم كخمسين ألف سنة، أيضًا رب العالمين من الممكن أن يحوّل الخمسين ألف إلى دقيقة أو دقيقتين، الأمر بيده!..
– النزاع: إن من أشد لحظات البعث والحشر؛ النزاع الذي يقع بين الإنسان وبين بدنه.. حيث أن الجلد الذي صافح في يوم من الأيام امرأة أجنبية، بغير ضرورة، وبغير مجوز شرعي، يشهد على صاحبه بالإجرام وارتكاب الخطيئة.. وإذا بلسان حاله يقول: يا جلدي، أنسيت أيام الدنيا: طالما وضعت عليك المسك، والمرطبات، ولطالما اهتممت بنظافتك وتعقيمك؛ لمَ تشهد علي الآن؟!.. ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا﴾؟!.. انظروا إلى هذا الجهد الذي بُذل على شيء، يوم القيامة يصبح شاهدًا عليه ﴿قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾.. كل الأعضاء تشهد على الإنسان، حتى الأرض تشهد عليه، يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾.. يقول العلماء: لم تصرفونه عن الظاهر؟.. الأرض تحدّث، والجلد يشهد، كما في خلقة الكون: ﴿اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾، السموات والأرض تقول: ﴿أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾.. فإذن، هنالك فهم، وهنالك شعور.. كما أنهم يسبحون وأنتم لا تفقهون تسبيحهم، كذلك يشهدون في عرصات القيامة.. فكل شيء بحسبه، كما أن تسبيح الكائنات بحسبها.. إنه موقف رهيب لبني آدم في ذلك الموقف المهيب!..
ماذا نعمل لتلافي هذه العقبة؟..
إزالة الموانع: علينا أن نحاسب أنفاسنا في الحياة الدنيا، فلو أن الإنسان يضع حراساً، وأجهزة مراقبة دقيقة، على قناتين من قنوات وجوده: السمع، والبصر؛ لوفر على نفسه كثيرًا من المنكرات!.. نحن ليس عندنا مشكلة في المقتضيات، فنحن -بحمد الله تعالى- نصلي، ونصوم، أي تقريبًا فروع الدين نأتي بها، إلا من خذله الله -عز وجل- فترك الصلاة مثلاً!.. إنما مشكلتنا في الموانع: فنحن عندنا الكثير مما يوجب لنا دخول الجنة، ولكن المعاصي هي التي تبطل مفعول المقتضيات!.. فكما أن النار محرقة، ولكن إذا وضع فيها عودٌ رطبٌ، فإنها لا تحرقه؛ أما عندما تزول الرطوبة، ويجف العود، فإنه يشتعل!..
المنفذ الأول: البصر.. لو صممنا على أن نراقب العين، هذه البوابة التي منها تدخل صور الفساد، كما في الأمر النبوي: (غضوا أبصاركم، تروا العجائب)!.. الإنسان المؤمن يتعامل مع عينه، كتعامل المصور مع كاميرا مستأجرة: فهذه الكاميرا ملك لجهة معينة، لذا فإنه لا يحركها حسب رغبته لأنه غير مجاز بذلك، بل عليه أن يوجهها في زاوية معينة فقط!.. ولو خالف، فإنه يعاقب على فعله.. العين كذلك بمثابة الكاميرا، ولكنها كاميرا إلهية، ويا لها من كاميرا!.. من شحم ولحم وبعض السوائل الهلامية، وإذا بها تعيش مع الإنسان مائة سنة: يستطيع الإنسان أن ينظر بها للقمر ثم ينظر إلى الكتاب، لا تحتاج إلى ترتيب أو إعداد جديد؛ هي أوتوماتكياً ترتب نفسها.. الإنسان بهذه العين لا يرى الصور، إنما يرى حقائق الأمور، صور مجسدة لا يقاس بها تصوير هذه الأجهزة.. رب العالمين صاحب هذا الجهاز، يقول: أنا لا أرضى أن تنظر بهذه العين إلى المحرمات!.. الأمر لا يحتاج إلى مفاوضات وإلى أخذ استثناءات.
فيما سبق من الأزمنة، قبل عصور النهضة الصناعية، واختراع التلفاز والانترنت والفضائيات، الذين كانوا يعصون بالنظر:
أولاً: معصيتهم محدودة.
وثانياً: معصيتهم لها وجه عرفي.. فالذي ينظر إلى امرأة؛ يشبع عينه منها؛ أي هنالك وجود خارجي.. وبعض هذه النظرات، قد تكون مقدمة للعقد الشرعي، والزواج من تلك المرأة.. بينما في زماننا هذا، مشكلتنا أننا عشقنا الوهم والخيال: فهذه الشاشة هي عبارة عن ذبذبات الكترونية، وبمجرد إطفاء الجهاز، وإذا بهذه المرأة تختفي.. هل الإنسان العاقل يمضي ليلة حمراء على الوهم، وعلى الصور الالكترونية الفانية؟!.. فيستيقظ الصباح وعلى رأسه كجبال تهامة من الإثم، دون أي مقابل؟!..
إن المؤمن إنسان منطقي، الذي ينكر المبدأ والمعاد، ويقول: “ما يهلكنا إلا الدهر”؛ هو في حل، ولكن حتى غير المسلمين يعتقدون: بمبدأ، وبمعاد، وبرب، وبقوانين.. فمادام الإنسان يعتقد بمالك وبرب، فلينظر إلى قوانينه.. الرب يأمر المؤمنين والمؤمنات بغض البصر.. وقد يبلغ الإنسان مرحلة من مراحل التقوى، أنه لا يمكنه النظر إلى الحرام.. بعض الشباب المؤمنين الذين يعيشون في بلاد الغرب، حيث النظر المباح، والصور المثيرة، عندما ينظر إلى ما لا يرضي الرب، وكأن الله -عز وجل- جعل في رقبته جهازاً، وإذا به تلقائياً يعرض عن اللغو وعن الحرام، من دون معاناة؛ لأنه لا يرى شيئًا يستحق النظر!.. وكما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (شتان بين عملين: عمل تذهب لذته، وتبقى تبعته؛ وعمل تذهب مؤنته، ويبقى أجره!)!.. فأول اعتراف لمن قام بالمنكر، أنه يعيش وخز الضمير أثناء ممارسة المنكر؛ ولهذا أحدهم لا يتهنأ بالحرام.. والكارثة بعد انتهاء الحرام، حيث تذهب السكرة، وتأتي الفكرة!.. فإنه يعيش الألم القاتل إلى آخر عمره!.. هل تستحق هذه الليلة أن تكون مدعاة للعذاب النفسي في الدنيا قبل الآخرة؟!..
فإذن، المؤمن يحاول أن يسيطر على هذه الزاوية.. والذي يشتكي من فتنة النساء، عليه أن يعمل في عالم العلل، لا في عالم المعلولات!.. لأن من نظر، وعشق، وعلق فؤاده، و..الخ، لا يستطيع بسهولة أن يقطع الحبل، هذا الأمر يحتاج إلى ضربة حيدرية!.. يفترض به من البداية أن لا يثير الفتنة، المؤمن لا يجعل نفسه في هذه المواطن، ليبحث عن العلاج.. وبتعبير علمائي واضح: عليك بسياسة الدفع، لا بسياسة الرفع!.. لأنه إذا جاءت الفتنة ودخل الشيطان إلى قلبك، من الذي يخرج إبليس اللعين؟!.. وفي روايات أهل البيت (عليهم السلام): (لا تعودوا الخبيث)!.. الشيطان خبيث، إن دخل إلى جوف الإنسان، فإن خروجه ليس باختياره، إلا أن يأتي المدد من عالم الغيب، وإلا الأمر فيه كارثة!..
المنفذ الثاني: السمع.. إن ذنوب الأذن من أسخف الذنوب!.. لأن الإنسان السارق من الممكن في صفقة معينة، بحرام، أو بقمار؛ يربح الملايين في مقابل معصية!.. والذي يشرب الخمر، يدّعي أنه بذلك ينسى همومه، ولو مدة سويعات السكر.. والذي يدمن على المخدرات، أيضًا له منطق من هذا القبيل!.. ولكن الذي يغتاب ما منطقه؟.. هل هنالك مال انتقل إليه؟.. أو هل هنالك لذة تنتابه؟.. أو هل هنالك من همّ وغمّ ارتفع عنه؟.. إنه حرام سخيف، بل من أسخف ما يكون!.. والقرآن الكريم يقول: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾.. إنها صورة بشعة!.. والمشكلة أن أحدنا يتصور قبح الزنا، وقبح كشف المرأة لشعرها؛ ولكن عندما يغتاب مؤمن مؤمناً، لا أحد يردعه!.. القبح مرتفع عن الغيبة؛ ومن هنا ركز القرآن الكريم على هذه الصورة.
روايات أهل البيت (ع)..
إن الموالي لا يكتفي بإظهار الحب لهم والبكاء على مصائبهم، والفرح لفرحهم فقط.. وعندما يصل الأمر إلى التوصيات العملية، يجعل هذه الوصفات الطبية على الرف، ولا يستعملها.. وذلك كمثل المريض الذي يذهب إلى الطبيب، ويمتدحه، ويتغنى بصفاته، ويقدس ورقته؛ ولكنه لا يعمل بكلامه.. هذا المريض لن يشفى، والمرض سيبقى فيه إلى أبد الآبدين، إن لم يعمل بوصفة طبيبه!..
١. قال الرضا (عليه السلام): (يا عبد العظيم!.. أبلغ عنّي أوليائي السلام، وقل لهم: أن لا يجعلوا للشيطان على أنفسهم سبيلا، ومرهم بالصدق في الحديث، وأداء الأمانة.. ومرهم بالسكوت، وترك الجدال فيما لا يعنيهم، وإقبال بعضهم على بعض، والمزاورة فإنّ ذلك قربة إليّ، ولا يشغلوا أنفسهم بتمزيق بعضهم بعضاً.. فإنّي آليت على نفسي أنه مَن فعل ذلك وأسخط ولياً من أوليائي، دعوت الله ليعذّبه في الدنيا أشدّ العذاب، وكان في الآخرة من الخاسرين، وعرّفهم أنّ الله قد غفر لمحسنهم، وتجاوز عن مُسيئهم إلاّ مَن أشرك بي، أو آذى ولياً من أوليائي، أو أضمر له سوءً، فإنّ الله لا يغفر له حتّى يرجع عنه، فإن رجع عنه، وإلاّ نزع روح الإيمان عن قلبه، وخرج عن ولايتي، ولم يكن له نصيبٌ في ولايتنا، وأعوذ بالله من ذلك).. أي أنت أنهيت كل الهموم، وحاسبت نفسك، وتهيأت إلى الآخرة، وقضيت على كل منابت السوء في نفسك، حتى تجعل همك الآخرين!.. الكل يأخذ من اهتمام الإنسان إلا هذه النفس المسكينة التي بين جنبينا!.. هذه نقطة من نقاط التأمل: يجب أن يشتغل الإنسان بهمّ نفسه، يقول تعالى: ﴿قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ﴾؛ الدائرة الأولى النفس، والثانية الأسرة، والثالثة المجتمع.. البعض يلتهي بالدائرة الثالثة، منشغلاً عن نفسه، وعن أسرته، وعن عائلته!.. النبي (ص) رغم أنه بعث للبشرية، ولكن القرآن الكريم يقول: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ فجمع أقاربه.. ولكنه بدأ بنفسه: حيث أنه بقي أربعين سنة في غار حراء، وهو يعبد الله عز وجل، أمضى ثلثي عمره في خلوة مع الرب.. وبعد ذلك؛ الثلث الأخير -تقريباً- جعل قسماً منه مع عشيرته الأقربين، والقسم الآخر مع المجتمع، هكذا النبي تدرج في دعوته.
٢. قال الصادق (عليه السلام): (من روى على مؤمن رواية، يريد بها شينه، وهدم مروته، ليسقط من أعين الناس؛ أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان، فلا يقبله الشيطان).. لعل هذه الرواية من بعض الجهات أكثر تخويفاً من رواية الإمام الرضا (عليه السلام)؛ لأن الإنسان عادة عندما يذهب إلى ولاية الشيطان، الشيطان يستقبله بالأحضان، ويرحب بهذا العضو الجديد الذي انتسب إلى حزبه.. ولكن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول في عبارة قاسية في هذا المجال، -وهم كالآباء يتكلمون الكلام، وإن كان قاسياً، ولكن لتربية الخلق-: (أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان، فلا يقبله الشيطان)؛ يقول الشيطان: أنت إنسان دون مستوى القبول.. فالذي تنطبق عليه هذه الرواية، هذا الإنسان حتى الشيطان لا يقبله، لسوء ما هو فيه!..
إن هناك فرقاً بين تحليل الموقف وتحليل الذات: أي بإمكان الإنسان أن يقول: إن أداء فلان أداء غير موفق، أو الوزير الفلاني غير ناجح في عمله؛ فهذا أمر آخر!.. نحن لا نغلق أبواب التحليل والتفكير والتقييم؛ هذا من حق المؤمن والمواطن، أن يحلل كل الظواهر والإيجابيات والسلبيات.. ولكن الحرمة والنهي في التفسيق، والتجريح، وفي الحكم على الذات وتقييمها؛ لأنه لا يمكن للإنسان الدخول إلى قلب الآخر، ليحرز أن ذلك الشخص تعمد هذا الخطأ!.. يوم القيامة يقول: يا ربي، أنت الحكم والعدل: أنا عملي كان خاطئاً، ولكن ما تعمدت هذا الخطأ.. وهذا الذي اتهمني بالتعمد، والفسق، والتزوير…الخ، ما هو دليله؟.. عليه أن يقيم الدليل!.. فإذن، المؤمن حريص على أن يحلل المواقف.. وفي كتب الرجال يقول العلماء: أن فلاناً كان ينسى كثيراً، لذا لا يؤخذ بروايته،؛ لأنه كثير النسيان.. هذا ليس بموهن، هذا تقييم موضوعي!..
إن الإنسان المؤمن الموالي، من عاشوراء الحسين إلى أربعين الحسين (عليه السلام)، يحاول أن يعيش النقاء الظاهري والباطني، عندئذ يعطى جائزة كبيرة جداً!.. قال النبي (ص): (من أخلص لله أربعين يوماً؛ فجّر الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه)؛ هذه الجائزة ألا تستحق أن يسعى لها الإنسان أربعين يوماً؟.. البعض يذهب إلى بلاد الشرق والغرب، ويتحمل الغربة عشرات السنين، ليتخصص في أمر جزئي، كمعالجة الجلد مثلاً.. أما أن يُعطى الإنسان هذه المزية: تفجير الحكمة من قلبه على لسانه؛ ألا تستحق التجربة والتكرار مراراً؟!.. على فرض أنه جرب هذه الأربعينية ولم تفلح، فليعدها أربعينية أخرى؛ المؤمن له همة عالية في هذه المجال.. وليبدأ بمراقبة السمع، ومراقبة النظر؛ هذه المهالك.. فنحن إما مبتلون بالنظر إلى ما لا يجوز، وإما بالاستماع إلى ما لا يجوز.. وبالتالي، إذا سيطر على هاتين القناتين، فقد وفر على نفسه الكثير في هذا المجال.
– المنع من التكلم: هناك موقف في عرصات القيامة، يُمنع فيه الإنسان من التكلم مع الله عز وجل، عندما يريد أن يستعطف رب العالمين.. بينما في الدنيا كم نادى رب العالمين: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾.. وشوق رب العالمين للمدبرين عنه وللعاصين معروف، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾.. وكما في الحديث القدسي: (يا داوود!.. هذه رغبتي في المدبرين، فكيف محبتي في المقبلين علي)!.. ولكن في عرصات القيامة يحب أن يناجي ربه بمناجاة التائبين، فيأتي الجواب: ﴿.. اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾!.. الإنسان إذا أراد أن يزجر حيوانًا نجساً يقول: اخسأ عني!.. يا لها من عاقبة!.. هذا الإنسان المدلل، هذا الذي هو ابن خليفة الله في الأرض، هذا الذي كان من المفروض أن يقيم الحاكمية الإلهية في الأرض، يصل إلى درجة يقال له: أخسأ!.. يريد أن يسجد، فلا يستطيع، كان يدعى إلى السجود في الدنيا، ولكنه كان يستنكف، الآن يريد أن يسجد في عرصات القيامة؛ لا يستطيع، هيهات له ذلك!.. هذا مقام منيع من كان لله ساجدًا في الدنيا، يُعطى هذا المزية.. عن ربيعة قال: قال لي ذات يوم رسول الله (ص): (يا ربيعة!.. خدمتني سبع سنين، أفلا تسألني حاجة)؟.. فقلت: يا رسول الله!.. أمهلني حتى أفكر، فلما أصبحت ُودخلت عليه قال لي: (يا ربيعة!.. هات حاجتك)، فقلت: تسأل الله أن يدخلني معك الجنة، فقال لي: (من علّمك هذا)؟.. فقلت: يا رسول الله!.. ما علّمني أحدٌ، لكني فكرت في نفسي وقلت: إن سألته مالاً كان إلى نفاد، وإن سألته عمراً طويلاً وأولاداً كان عاقبتهم الموت، قال ربيعة: فنكس رأسه ساعةً ثم قال: (أفعلُ ذلك، فأعني بكثرة السجود)!..
– كشف السرائر: إن مواقف القيامة رهيبة، والذي ينفع الإنسان في ذلك الموقف بنص القرآن الكريم: القلب السليم.. القلب السليم هو القلب الذي يخلو من الملكات الخبيثة، وكل إنسان بإمكانه أن يعرف نفسه، يقول تعالى: ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾.. ليس هنالك في الوجود بعد الله -عز وجل- من يعرف نفسه، كالإنسان نفسه.. فهو بإمكانه أن يتخشع، وأن يتظاهر ببعض الصفات الحسنة، وقد يُصلى خلفه، ولكن هو أدرى ببواطنه وبسرائره!.. أما يوم القيامة فهو ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾.. وهذا الستر في الحياة الدنيا، هو من نعم الله -عز وجل- على عباده، فقد روي عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: (لو تكاشفتم ما تدافنتم)؛ لو كشفت السرائر والبواطن، لترك الإنسان من دون دفن.. يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (تعطروا بالاستغفار، لا تفضحكم روائح الذنوب)!.. كل ذنب نرتكبه، تصعد منه رائحة كريهة، تزكم به أنوف الملائكة، ولكن الله -عز وجل- ستر ذلك في الدنيا، أم في ذلك الموقف؛ تبلى السرائر!.. لذا على المؤمن أن يتبع الخطوات التالية:
الخطوة الأولى: القضاء على الملكات الخبيثة.. فمن أراد أن يكون حليماً، فليتحلم!.. فنحن لا نقبل هذه الدعوى التي تقول: أن الصفات النفسية لا تُغيّر!.. ولكن الصفات الأصيلة تحتاج إلى مرونة، وإلى عمل دائب، وإلى تكلف.. مثلاً: إنسان حقود حسود، كلما حسد أحدًا دعا له في جوف الليل، أو قدم له هدية؛ هل يمكن أن يبقى حسوداً بعد مرور سنة أو عدة سنين، وهو يقوم بهذا العمل؟!.. ألا يعينه رب العالمين على نفسه، ويستأصل منه هذه الملكة بمنّة وكرمه؟!.. فإذن، الخطوة الأولى أن نرفع من أنفسنا هذه الملكات الخبيثة، وهي كثيرة جداً.
الخطوة الثانية: الزهد.. وهي أرقى من الخطوة الأولى!.. وكلمة “الزهد في الدنيا”، كلمة غير مخيفة.. فالزهد لا يعني الدروشة، ولا يعني العيش في الصوامع.. إنما هو قطع العلقة القلبية، كما قطعها سليمان (عليه السلام)، وليمتلك ما شاء من الحلال الذي بيّنته الشريعة!.. إذن، الزهد لا يخيف أبدًا.. قد يعيش الإنسان في صومعة، وهو متعلق بسجادته التي يصلي عليها؛ هذا إنسان محب للدنيا، دنياه هي سجادته.. ولهذا يقول الشاعر:
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا *** وأقبح الكفر والإفلاس في الرجل
إن بعض الناس -مع الأسف- في الدنيا فقير: يعيش الضيم، والحاجة، والمرض..الخ، وفي نفس الوقت: لا آخرة له؛ أي خسر الدنيا والآخرة!.. فإذن، الخطوة الثانية أن نصفي هذه القلوب من التعلق بالمتاع الدنيوي.. أحد العلماء في يوم الغدير، سقط صبي له في الحوض فمات، فسمع صراخ النساء، وإذا بهذا العالم صاحب كتاب “لقاء الله”، يقول: نعم، اليوم يوم الغدير، ورب العالمين يعطي هدايا وعطايا وجوائز، ولكن النساء لا يعرفن قدر الجائزة!.. انظروا إلى هذا الإنسان يقول: هذه أمانته أعطاها وأخذها.. الإنسان ما دوره في الأمر؟.. نحن نقدر الأمهات، فالجنة تحت أقدامهن، ولكن رحمها كان مجرد ظرف لانعقاد نطفة الأب مع بويضة الأم، وبعد تسعة أشهر صار جنينًا مكتملاً ، فأُخرج للدنيا وانتهى الأمر!.. وبالتالي، فإن الإنسان ليس بخالق، وليس برازق، وليس بفاطر.. والذي كونه في الظلمات، أخذه إليه.. البعض يصبر، ولكنه في قلبه يعترض على الله عز وجل، وقد لا يبين ذلك في قوله.. والبعض يكفر عملاً ، لا قولاً.. والحال بأن الإنسان المؤمن، يجب أن تكون حاله كذاك العالم، فإذا كان فقد الولد هكذا، فكيف بفقد الأموال وغيره!.. الأمر أسهل وأسهل!..
الخطوة الثالثة: حب الله ورسوله.. قال الصادق (عليه السلام): (كان رجلٌ يبيع الزيت، وكان يحبّ رسول الله (ص) حباً شديداً، كان إذا أراد أن يذهب في حاجته لم يمض حتى ينظر إلى رسول الله (ص)، قد عُرف ذلك منه، فإذا جاء تطاول له حتى ينظر إليه، حتى إذا كان ذات يوم دخل فتطاول له رسول الله (ص) حتى نظر إليه، ثم مضى في حاجته فلم يكن بأسرع من أن رجع.. فلما رآه رسول الله (ص) قد فعل ذلك أشار إليه بيده اجلس، فجلس بين يديه فقال: ما لك فعلت اليوم شيئاً لم تكن تفعله قبل ذلك؟.. فقال: يا رسول الله!.. والذي بعثك بالحقّ نبياً، لغشى قلبي شيءٌ من ذكرك حتى ما استطعت أن أمضي في حاجتي حتى رجعت إليك، فدعا له وقال له خيراً ثم مكث رسول الله (ص) أياماً لا يراه.. فلما فقده سأل عنه، فقيل: يا رسول الله!.. ما رأيناه منذ أيام، فانتعل رسول الله (ص) وانتعل معه أصحابه، وانطلق حتى أتى سوق الزيت، فإذا دكان الرجل ليس فيه أحدٌ، فسأل عنه جيرته فقالوا: يا رسول الله!.. مات، ولقد كان عندنا أميناً صدوقاً، إلا أنه قد كان فيه خصلة قال: وما هي؟.. قالوا: كان يرهق، يعنون يتبع النساء.. فقال رسول الله (ص): رحمه الله، والله لقد كان يحبني حبّاً، لو كان نخّاساً لغفر الله له).. هذا القلب الذي هو ممتلئ بحب الله ورسوله، أمين صدوق؛ لذا فإن هذه الهفوات أيضاً في مظان المغفرة!.. والمعاصي الفردية التي بين الإنسان وبين الله عز وجل، كالنظر -مثلاً- ما أسهل التوبة منها!.. ما على الإنسان إلا أن يغتسل غسل التوبة، ويصلي ركعتين في جوف الليل، يضع رأسه على الأرض، ويستغفر الله سبعين مرة، ويحاول أن ينتزع الدمعة من عينيه، ولو بمقدار جناح بعوضة، ثم يقوم وهو منتعش!.. لأن الله -عز وجل- قد غفر له هذه المعاصي الفردية.
فإذن، إن الذي ينفع الإنسان يوم القيامة: أولاً: القلب السليم الخالي من الملكات الفاسدة.. وثانياً: الخالي مما سوى الله عز وجل.. وثالثاً: المملوء بحب الله عز وجل.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.