س١/ (اللّهُمَّ لا أَجِدُ لِذُنُوبِي غافِراً وَلا لِقَبائِحِي ساتِراً).. من الواضح أن هذه العبارة تجرنا للبحث عن القضاء والقدر بالمفهوم الإسلامي، ومن المعلوم أن الكثيرين خاضوا في مجال القضاء والقدر، مما أدى إلى إساءة الفهم، حيث مال البعض منهم إلى الجبر.. فما حقيقة هذا الأمر؟..
إن هذه المسألة من المسائل الشائكة في الأبحاث الكلامية، ومن موجبات الوقوع في الأخطاء والانحرافات.. حيث أن البعض يتذرع بمسألة القضاء والقدر في تجميد نفسه، ويقف أمام الأحداث ومفردات الحياة مكتوف الأيدي بدعوى أنه قدر ومكتوب!.. والحال بأن علينا أن نفهم أنفسنا بأن العلاقة بين الإنسان وربه، لا على نحو علاقة الحاكم والمحكوم، أو علاقة المستغِل والمستغَل.. بل إن العلاقة أعمق وأكثر عاطفية بكثير.
فرب العالمين عندما يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}.. نلاحظ أن هنالك زخما عاطفيا، فبرغم أن هؤلاء العصاة تمردوا وخرجوا عن طاعة الله عز وجل، إلا أنهم ما زالوا في ضمن دائرة العبودية.. وفي آية أخرى الله تعالى يأمر موسى وهارون أن {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}.. وعندما يأتي الأمر إلى رسول الله (ص) نجده يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}.. ثم موقف الرسول (ص) عند فتح مكة وعفوه عن الكفار: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).. وعليه، فإن الذي يلتفت إلى هذه الحالة الحميمة مع رب العالمين، يعلم بأن الله عز وجل كتب له مبدأياً ما فيه صلاحه، ولكن العبد بسوء اختياره يعمل ما يوجب تغيير القضاء والقدر.
ومن المعلوم بأن العلماء فرقوا بين ما هو مكتوب كتابة نهائية، وبين ما هو على نحو الاقتراح الأولي.. إذ أن العبد بإمكانه أن يستغل حالة الدعاء لتغيير المقدرات المكتوبة له، ولهذا نحن ندعو في شهر رمضان: (اللهم!.. إن كنت أثبت اسمي في ديوان السعداء، فلك الحمد ولك الشكر.. وإن كنت أثبت اسمي في ديوان الأشقياء، فامحو شقائي، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعند أم الكتاب).
س٢/ ما هي علاقة البَدَاء بالقضاء والقدر؟..
البَداء هو من المفاهيم الزئبقية التي أساء البعض فهمها، ونحن نعتقد بأنه من المفاهيم الموجودة في تراثنا الاعتقادي..
* فهو بمعناه الخاطئ: بأن الله تعالى بَدا له شيئاً لم يكن مطلعاً عليه سابقاً.. وهذا قطعاً اتهام لله بالجهل، تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا.
* وأما معناه الصحيح: هو أن الله تعالى علم بأن هذا العبد سيعمل عملا صالحا يوجب له رفع المقدر المكتوب.. فمتى ظهر لله تعالى من عبدٍ صلة لرحمه؛ زاد في عمره.. ومتى ظهر له دفع لصدقة؛ رفع عنه البلاء.
قال الإمام الصادق (ع) -ما مضمونه-: (من زعم أن الله تعالى بَدا له في شيء بَداء ندامة، فهو عندنا كافر بالله العظيم).
أي ليس هنالك شيء يبدو لله تعالى بعدما خفي عليه، إنما هنالك قوانين أولية، وهنالك قوانين استثنائية بإمكان العبد أن يستغلها في تغيير المقدرات.
س٣/ كما هو معلوم بأن كثير مما يجري في حياة الإنسان القصيرة يخالف الطبع والطبيعة.. فكيف يمكن للإنسان أن يعد نفسه لمواجهة مفاجآت القدر؟..
من الطبيعي أن الإنسان إذا اعتقد بأن هذه الفترة المحدودة في الحياة الدنيا، إنما هي مزرعة للآخرة؛ فإنه سيستذوق كل الحوادث التي تمر عليه، لأنه يعلم بالتعويض الإلهي.. ورد في بعض الروايات -ما مضمونه -أن المؤمن يثاب حتى على شوكة تصيبه!..
ومن المناسب أن نذكر هذه القضية: يقول المنطقيون: هنالك قضيتان:
كبرى: وهي قوله تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا}.
وصغرى: وهي عبارة وجدانية: (وما كتب الله لنا، فيه صلاحنا).
عندما نجمع هاتين العبارتين، مع إسقاط الوسط؛ نحصل على: (قل لن يصيبنا، إلا ما فيه صلاحنا).
وبالتالي، فالذي يطبق هذا القانون، سوف يكون في منتهى الارتياح –أو ما يسمى في عرف اليوم سلامة الأعصاب والبنية العصبية- في مختلف الشدائد والمحن.. ومن المنقول عن بعض علمائنا: أنه كان يغتسل وينظف نفسه، عندما يرى بعض إمارات الموت، حتى يكون مستعداً للقاء الإلهي.. فإذن، إن المؤمن لا يفاجئ بالقضاء والقدر؛ لما يعلم بأن الجهة المسيطرة والمهيمنة عليه جامعة بين الحكمة، وبين العدالة، وبين الرحمة.
س٤/ هل يمكن أن يكون للدعاء التأثير القوي في تغيير مسار ومصير الأمة؟..
بلا شك هو كذلك.. ويخطئ البعض عندما يظن بأن الدعاء عبارة عن حديث بين العبد وربه، يتعلق بخصوصياته الفردية.. وهذا الذي نراه في المجتمعات غير الإسلامية -كما في المسيحية- حيث أن الدعاء والأمور التعبدية لا تلامس واقع الأمة عندهم.
بينما نحن نعتقد أن الدعاء هو سلاح من الأسلحة للمؤمن.. وقد كان النبي الأكرم (ص) عندما يقف في الحروب يدعو ربه جل وعلا.. وهنالك تعبير منقول عنه (ص) في معركة بدر، حيث أخذ في مناجاة رب العالمين -ما مضمونه- أنه يا رب إن نحن هزمنا لن تعبد في الأرض.. وعليه، فما المانع أن المؤمن عندما يعيش أجواء الاستجابة -حيث رقة القلب، والدموع الجارية، وفي مواطن الطاعة – أن يقدم الدعاء للأمة على الدعاء لنفسه؟!.. ويقول بقلب خاشع ولسان صادق: (اللهم!.. اكشف هذه الغمة عن هذه الأمة بتعجيل الفرج لوليك)!.. (اللهم أصلح كل فاسد من أمور المسلمين)!.. نحن نعلم أن الله تعالى رفع العذاب عن قوم يونس بعدما كان محتماً، عندما اجتمعوا جميعاً وتضرعوا إلى الله تعالى في كشف البلاء عنهم.. وعليه، أنا أدعو بالمبادرة دوماً في تقديم الحوائج العامة المتعلقة بمصير الأمة.
س٥/ ورد عن الإمام علي (ع): (القضاء والقدر بحر عميق، فلا تلجوه).. هل يعني ذلك أن يلزم عدم الدخول في مباحث فلسفية عميقة في هذا المجال؟..
الأمر ليس كذلك، من المعلوم أن هنالك فرق بين الأصول والفروع.. إذ بإمكان الإنسان أن يقلد في الآخر، في حين أنه يلزم أن تكون له نظرته المستقلة في الأول.. ومن الأبحاث العقائدية المهمة: بحث القضاء والقدر.. والمشكلة تكمن في أن البعض قبل أن يثبت بنيانه العقائدي في الكليات الأساسية، وقبل أن يلتزم بجزئيات الشريعة، نلاحظ أنه يكلف نفسه في الدخول في أبحاث نظرية معمقة يتيه فيها.. والحال أن الدخول في بعض التفاصيل من دون وجود أرضية ذهنية معرفية قوية واضحة المعالم، من الممكن أن يجر الإنسان إلى حالة من حالات الانحراف العقائدي.. إذ لابد من المزج بين التعبد الشرعي وبين التدبر الشخصي، وعدم تجاوز الحدود فيهما، بمراعاة المساحة المخصصة للتعبد من الشريعة، والمساحة المسموحة لأن نعمل فيها فكراً.. وعليه، من الضروري الاطلاع على بعض الدورات المنقحة المبسطة، في مجال العقائد من التوحيد إلى المعاد.
س٦/ عن الإمام الصادق (ع): (لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين).. هل أن الإمام (ع) أراد أن يطرح الوسطية في مفهوم القضاء والقدر؟..
إن الإمام (ع) يريد أن يشير إلى أن هنالك سننا كونية ثابتة في الحياة من الذرة إلى المجرة، قد تخالف مقتضى إرادة الإنسان.. فمثلاً: إنسان ركب القطار بإرادته، ولكن حدث له حادث غير متوقع أثناء السير، أو قد تحدث تغيرات كونية مخالفة لمزاجه كشدة الحر أو البرد أو الزلازل.. ولو كان الأمر جبراً لسلك الناس جميعاً طريق الحق، ولكن الملحوظ هو الاختلاف في الاتجاهات، فواحد بإرادته يفعل الخير، وآخر يسلك الطريق الشائك.. ومن الجميل أن نذكر كلمة للحجاج: لما وصل إلى ما كتب الشعبي، أن أحسن ما سمعه في القضاء والقدر هو قول أمير المؤمنين (ع): ( كلما استغفرت منه، فهو منك.. وكلما حمدت الله عليه، فهو منه).. وقف عليها وقال: لقد أخذها من عين صافية.. هو على ظلمه وتجبره، شخص بأن هذه العبارة جاءت من عين صافية، أي من نمير القرآن والعترة الطاهرة.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.