س١/ دعاء كميل يفتتح بذكر الرجمة الإلهية: (اللّهُمَّ إِنِّي أَسأَلُكَ بِرحَمتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيٍْ).. ما مدى أهمية استشعار هذه الرحمة؟..
أولاً أحب أن أؤكد على هذين الأمرين قبل الشروع في الدعاء:
الأول: لابد من استشعار الخطاب الإلهي: نحن عندما نخاطب رب العالمين بكلمة (اللهم)، علينا أن نعيش عظمة من نخاطب.. وإلا عد ذلك سوء أدب، بأن ننادي رب الأرباب، ومسبب الأسباب؛ ونحن لاهون فيما هب ودب.. والحال بأنه حتى في خطاب البشر كالسلاطين وغيرهم، عندما نقول: يا فلان!. يا أو جلالة الملك!.. أو يا سمو الأمير!.. فإننا نعيش حالة الخطاب.
الثاني: من المناسب أن ندعو بمناجاة خفية في الباطن: من أجل فتح السبيل في الدعاء، وذلك بقراءة أي دعاء.. فنستعين بالله تعالى أن ينطق ألسنتنا بما فيه الصلاح، ويفرغ أفئدتنا من كل الشواغل، ويفتح لنا الأبواب المغلقة.
* من المناسب أن يصل الإنسان عندما يرى صفحاته السوداء، إلى باب الرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء.. فهو الذي خلق الدابة بمشيئته، وتكفل برزقها، كما في قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا}.. وهو أيضاُ عندما أوجد البشر، كتب له ما فيه الصلاح، وهيأ له الأسباب التي عن طريقها يصل إلى الفلاح والفوز.. فإذن، إن رحمة الله وسعت كل شيء: بمعنى كل الوجود بلوازمه، لا الوجود المجرد.
ومن باب بعث الأمل يقال: بأن الرحمة الإلهية في الآخرة، تتجلى في عرصات القيامة، إلى درجة مذهلة حتى يمتد لها عنق إبليس!.. طبعاً، هيهات!.. هيهات له ذلك!..
س٢/ نلاحظ أن البعض من الناس المتوغلين في المعاصي والذنوب، يعيشون حالة من اليأس من رحمة الله تعالى.. فما هو تعليقكم على ذلك؟..
لا شك بأن التوغل والاحتراف في الحرام، من صور الخذلان الإلهي البليغ.. حيث يصل الإنسان إلى درجة أن يرى الصبغة الغالبة في حياته هي المعصية.. فنحن نعلم بأن هنالك قسما يعيش حالة النقاوة من الذنوب، وآخر حياتهم مزيج من الطاعة والمعصية، ولكن قلة من الناس من تغلب عليه المعاصي في شتى زوايا الحياة.. وبالتالي، يصل إلى مرحلة اليأس -والعياذ بالله- من روح الله.. وعليه، نقول: بأنه ينبغي أن لا ننسى هذه القاعدة: (لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار).
نعم، (لا صغيرة مع إصرار).. إذ من الممكن أن تتحول إلى كبيرة.. ونحن نعلم ما تفعل الكبائر بأصحابها: من تحطيم الوجود، وتحريف المسيرة، وتسليط الشياطين على القلب.. و(لا كبيرة مع استغفار).. لأن الإنسان المذنب الذي يستغفر ربه -ولو بعد الكبيرة- هو في مظان الرحمة الإلهية، والله أشد فرحاً بتوبة عبده ممن ضل راحلته ثم وجدها.
ولكن -مع الأسف- نلاحظ عند البعض هذه الحالة من التسويف؛ معولاً على التطهر في المواسم العبادية، أو الاستقامة في مرحلة متقدمة من مراحل حياته.. وعليه، نقول: ما هي الضمانات للتوبة والوصول إلى هذه المرحلة؟!.. إن الله تعالى ينبه على هذه الحقيقة الخطيرة جداً، فيقول : {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون}.. فيالها من عاقبة!.. وأي أمر أشد من الانحراف عن جادة الحق، والتكذيب بآيات الله؟!.. فحقاً ذلك هو الخسران المبين؛ لأن الله تعالى يغفر الذنوب جميعاً إلا أن يشرك به.
س٣/ نلاحظ أيضاً في مفتتح دعاء كميل إيراد لبعض صفات الله تعالى: القوة، والجبروت، والعزة، والعظمة، والسلطان، والوجه.. هل هناك كيمياء خاصة بين هذه العناصر وبناء الشخصية الإيمانية القوية؟..
نحن عندما نراجع هذه المفردات: الرحمة التي وسعت كل شيء، والقوة التي قهر بها كل شيء، والجبروت التي غلب بها كل شيء، والعزة التي لا يقوم لها شيء، والعظمة التي ملأت كل شيء، والسلطان الذي علا فوق كل شيء، والوجه الذي يبقى بعد فناء كل شيء، والأسماء التي ملأت أركان كل شيء، والعلم الذي أحاط بكل شيء، والنور الذي أضاء له كل شيء.. نلاحظ بأن هذه العناصر متفاوتة، وهي ألوان كالألوان المعروفة، التي تخرج من اللون الأبيض عند التحليل.. فنلاحظ في هذا الدعاء أن الإنسان ينظر إلى الله تعالى من زوايا مختلفة:
فرب العالمين هو صاحب الجمال والكمال، وله الأسماء الحسنى.. فتارة ننظر إليه تعالى من زاوية الرحمة: التي تجعل الإنسان يعيش الأمل، ولا ييأس عندما ينظر إلى ماضيه الأسود.
في المقابل هنالك القوة والجبروت والعزة والعظمة والسلطان: إن الله سبحانه وتعالى له حدود أمر بعدم تجاوزها، { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.. فهو قد يعفو مرة ومرتين، لكنه قد يغضب، وإن غضب الله لشديد!.. كما نقرأ في دعاء الافتتاح في شهر رمضان المبارك: (وأرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة، وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة)..
وبعد ذلك يأتي ويلفت النظر إلى الجانب الجمالي العاطفي، وهو الوجه الإلهي.. النور الذي أضاء له كل شي!.. وهنا نقول للذي تستهويه صور الفاتنات: لماذا لا تحاول النظر إلى هذا الوجه؟!.. لماذا لا تحاول أن تكتشف جمالأ بديعياً ما وراء هذه المادة؟!.. هذا الجمال أو الجلال الذي تجلى لموسى لحظات فخر صعقاً!..
حتى ورد في بعض النصوص -ما مضمونه-: أن المؤمنين يوم القيامة عندما يدخلون الجنة -بما فيها من النعيم الذي لم يخطر على قلب بشر- ينشغلون بالنظر إلى صور من الجمال المعنوي في الجنة، حيث الجلال الإلهي المتجلي من خلال بعض الأمور، ثم إنهم ينادون أن هلموا إلى قصوركم، وإلى حوركم.. ولكنهم يعيشون حالة الذوبان، والاستغراق بهذا الجمال الإلهي، ويرون أن من الخسارة الانشغال عن هذا العالم بعالم الحور والقصور!..
س٤/ هل أن الدعاء يخالف مبدأ العلية أو ينسجم معها؟..
بل أن هنالك انسجاما بين مبدأ العلية والمعلولية، وبين الدعاء من ضمن سلسلة العلل.. نحن نلاحظ أن الفلاح يفلح الأرض، ويبذر البذرة.. ولكن الله تعالى يقول: {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}؟!.. صحيح أن هنالك أجزاء مادية معروفة من الفلاحة، والزراعة، وإلقاء البذور في التراب.. إلا أنه هنالك مساحة أو علة خفية مرتبطة بالله عز وجل، وهو ما يسمى بعالم التوفيق: أي أن الله تعالى يوفق بين المقدمات وبين النتائج.. فإرادة رب العالمين نافذة، والعبد بدعائه يدخل إلى هذه المساحة من الإرادة الإلهية.. ولا ضير أن العبد من الممكن ببكائه وبتضرعه، أن يغير مجرى الأمور من خلال الدعاء، ويرفع المكتوب، كمصداق لما جاء في الروايات عند دور الصدقة أيضاً، وأنها تدفع البلاء وقد أبرم إبراماً.
٥/ إن لله تعالى تجليات لعبده المؤمن من خلال الدعاء.. نرجو منكم توضيح ذلك؟..
إن التجليات الإلهية المتجلية على قلب العبد المؤمن، من ألذ لذائذ الوجود.. فلو أن الإنسان سلك في هذا الطريق، ووصل إلى هذه الحالة من التلذذ في الحديث مع المحبوب المطلق -كما كان الذين سبقونا بالإيمان من الأبرار والمتقين- أعتقد أنه سوف لن يبحث عن أية لذة أخرى في هذا الوجود، كما قال علي(ع): (عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم).
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.