س١/ ورد في دعاء كميل عبارة -ربما- من أروع صور التودد إلى الباري جل وعلا، وهي : (ما هكَذا الظَنُّ بِكَ وَلا اُخْبِرْنا بِفَضْلِكَ عَنْكَ يا كَرِيمُ يا رَبْ).. ما هو دور الرجاء في تعميق الصلة بين العبد وربه؟..
لعل المراد بهذا التعبير: (حسن الظن بالله) أنه الحد الأدنى من الاعتقاد بالرحمة الإلهية، حيث يوجد الأعلى وهو حسن اليقين.. ومن المعلوم أن طبيعة بني آدم هي الخطأ، (كل ابن آدم خطاء..) ، وهو إذا لم يلتفت إلى نفسه فإن النتيجة هي الخسران، كما في سورة العصر.. ونحن عندما نتأمل في هذه السورة:
نجد أن هنالك قسما {وَالْعَصْرِ}، والجنس المحلى بأل {الْإِنسَانَ} لام التوكيد، و{إِنَّ} التوكيد.. والتعبير بالجملة الأسمية أقوى من الجملة الفعلية {لَفِي خُسْرٍ}، فشبه (الإنسان) بالمظروف، و(الخسر) بالظرف.. وفي القواعد الأصولية: أن الإنسان لابد له أن يحرز الاستثناء، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.. وإلا فإن القاعدة العامة منطبقة عليه.. فإذن، الذي يشك في دخوله ضمن دائرة المؤمنين الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، فهو في خسر.. ويالها من عبارة مخيفة!..
وعليه، مع الالتفات إلى هذا المعنى ينتاب الإنسان -في بعض الحالات، وخاصة عندما يرى غلبة المعاصي على حياته- حالة من حالات اليأس من رحمة الله.. والحال بأن ذلك يعد من الكبائر، التي تعطف على الذنوب الشنيعة، مثل السحر، واللواط وغيره.
ومن هنا أمير المؤمنين (ع)- في حركة عاطفية- يقول: يا رب ما هكذا الظن بك!..
أي أنت غني عن عذابي ولا أتوقع -وأنا عبدك؛ الموحد، والمطيع، والباكي بين يديك في الحياة الدنيا- أن تجمعني يوم القيامة مع عصاة الخلق -فرعون وأمثاله- وأنا العبد الذي كنت أتذلل لك، وكنت أسجد بين يديك!..
فإذن ، اليقين هو أن يلتزم الإنسان بطاعة الله تعالى بشكل عام، وهو إذا زل في موضع من المواضع، فإن رحمة الله سوف تنتشله في الظرف المناسب.. -وللأسف- فإن البعض ممن يبتلى باليأس من رحمة الله تعالى، يعتقد بأن الله قد تركه، وأهمله، وختم على قلبه؛ فيبالغ في ارتكاب المعاصي، ولسان حاله قول الشاعر: أنا الغريق فما خوفي من البلل!.. والحال، بأن رحمة الله تعالى واسعة.. وقد ورد في الخبر عن الصادق (ع) : إنّ آخر عبد يُؤمر به إلى النار يلتفت فيقول الله عزّ وجلّ: أعجلوه، فإذا أُتي به قال له: يا عبدي!.. لمَ التفتّ؟.. فيقول: يا ربّ!.. ما كان ظني بك هذا، فيقول الله جلّ جلاله: عبدي، وما كان ظنك بي؟!.. فيقول: يا ربّ!.. كان ظني بك أن تغفر لي خطيئتي، وتسكنني جنّتك.. فيقول الله: ملائكتي!.. وعزّتي وآلائي وبلائي وارتفاع مكاني، ما ظنّ بي هذا ساعة من حياته خيراً قطّ، ولو ظنّ بي ساعة من حياته خيراً، ما روّعته بالنار.. أجيزوا له كذبه، وأدخلوه الجنّة!..
س٢/ نلاحظ أن البعض قد يتوغل في المعاصي، معولاً على مسألة الشفاعة.. ما تعليقكم على ذلك؟..
هذا متوقع من الإنسان الذي لم يلم بمقاصد الشريعة، ولم يأنس بما جاء في الآيات والروايات.. نعم، نحن نعتقد بمسألة الشفاعة، ولكن ينبغي أن لا نغفل عن قوله تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}.. صحيح، أن هنالك شفاعة، ولكن هي تحت قيد الإذن من الله تعالى.. وأن شفاعة النبي هي من مصاديق رحمته بالأمة، حيث يستعمل وجاهته عند الله تعالى، ويطلب إنقاذ البعض من هذا المصير الأسود -نار جهنم- وقطعاً هو مستجاب الدعوة.. ولكن نحن نعلم بأن الإمام الصادق (ع) قال: (إن شفاعتنا لا تنال مستخفاً بالصلاة ).. فإذن، هنالك قواعد أساسية لابد أن يراعيها الإنسان، فالذي يراعي سيره في الحياة، ولا يتعرض لغضب الله تعالى عن عمد وإصرار، بلا شك أنه في معرض الشفاعة الإلهية.
عن الباقر (ع): دخل رجلٌ مسجداً فيه رسول الله (ص) فخفّف سجوده دون ما ينبغي، ودون ما يكون من السّجود.. فقال رسول الله (ص): نقر كنقر الغراب، لو مات على هذا مات على غير دين محمد.
ليس المقصود هنا بكفر الذي لا يحسن الصلاة كما يجيب، بل الخروج من دائرة الرحمة الإلهية.. ويا له من خسران مبين!..
س٣/ نحن مأمورون بحسن الظن بالله، فهل نحن مأمورون أيضاً بحسن الظن بالمؤمنين؟..
إن من موجبات الرحمة الإلهية، أن يحسن الإنسان ظنه بإخوانه المؤمنين، تشبهاً برحمة الرب جل وعلا.. فكم من الجميل أن يحمل المؤمن قلباً صافياً، يخلو من أي حقد تجاه الآخرين!.. ومن المعلوم أن هذا الحقد قد يطفح يوماً، ويظهر على فلتات اللسان، فالمرء مخبوء تحت طي لسانه لا تحت طيلسانه، وإن كان حذراً من الوقوع في الزلل الفعلي، إلا أنه يعيش حالة الانشغال الذهني والغليان الباطني.. وهذا فعلاً ما أشار إليه روح الله عيسى (ع) -ما مضمونه- أن النار التي لا تحرق المكان، تعمل على تلويث جوانبه بالسواد.
وبلا شك أننا لو عملنا بهذه المقولة في مسألة حسن الظن بالآخرين: (احمل فعل أخيك على أحسنه)، أو (احمل أخاك على سبعين محملاً من الخير)؛ لانقلبت حياتنا إلى جنة جميلة، خالية من التكدير والهموم.
ومن عجائب الروايات التي تحث على المبالغة في الحمل على الأحسن، ما جاء عن الإمام موسى بن جعفر (ع):
قلت للكاظم (ع): جعلت فداك!.. الرجل من إخواني يبلغني عنه الشيء الذي أكره له، فأسأله عنه، فينكر ذلك، وقد أخبرني عنه قوم ثقات.. فقال: يا محمد!.. كذّبْ سمعك وبصرك عن أخيك، فإن شهد عندك خمسون قسامة، وقال لك قولا فصدقه وكذّبهم.. ولا تذيعن عليه شيئاً تشينه به، وتهدم به مروّته..
فيا للعجب!.. كيف يكذب الإنسان قوم ثقاة ويصدق الفرد!.. نعم، هكذا هو الإسلام، جاء ليعلمنا من خلال النبي وآله (ع) بإيجاد هذا الجو النقي، حتى نحقق مناخاً نتفس فيه الصعداء، خاليا من كل هذه الشوائب التي تكدر الإنسان.
س٤/ هل هناك حديث يثير عنصر الرجاء في قلوب العاصين المغضوب عليهم؟..
إن من الأحاديث القدسية المثيرة أو المدغدغة للعواطف، هو هذا الحديث: ( أهل طاعتي في ضيافتي، وأهل شكري في زيادتي، وأهل ذكري في نعمتي.. وأهل معصيتي لا أويسهم من رحمتي؛ إنْ تابوا فأنا حبيبهم، وإنْ دعوا فأنا مجيبهم، وإنْ مرضوا فأنا طبيبهم: أداويهم بالمحن والمصائب؛ لأطهرهم من الذنوب والمعايب).. ومن المؤكد أن الذي يعيش أجواء هذا الحديث، ويحسن الاعتقاد بالله تعالى، سيكون هو في مظان الرحمة الإلهية.
س٥/ هل لكم أن تذكروا بعض من موجبات حسن الظن بالله تعالى؟..
هنالك موجبات عديدة، أهمها:
تذكر النعم الإلهية: بلا شك أن الإنسان المبتلى، إذا نظر إلى نعم المولى جل وعلا عليه، منذ ابتدأه في هذا الوجود إذ كان جنيناً.. وسأل نفسه: بأنه من ذا الذي شق فيه المخ، والقلب، والبصر، وصوره في أحسن صورة؟!.. ومن ذا الذي ضمن له الغذاء، وهو محصور في ظلمات ثلاث؟!.. ومن ذا الذي تولى رعايته، وحفظه حتى كبر واشتد عوده؟!.. نعم، ذاك هو الله تعالى، وهو أكرم من أن يضيع عبده، ويحرمه من رحمته، ويقطع عنه النعم الذي ابتدأه بها -من غير سؤال- وهو في عالم الأجنة.
وعليه، فالذي يطلب حاجة ملحة من رب العالمين، وقد تأخرت عنه الإجابة؛ ليجلس مع نفسه يذكرها بنعم الله تعالى، ويلقنها حسن الظن به جل وعلا.. جاء في الحديث عن الإمام الرضا (ع): (أحسِنْ الظن بالله!.. فإنّ الله عز وجل يقول: أنا عند حسن ظن عبدي المؤمن بي؛ إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا).
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.