س١/ نريد منكم تسليط الضوء على شروط الدعاء الظاهرية والباطنية ؟..
مع أن هنالك بعض الآداب الثابتة، ولكن مع ذلك فإن بإمكان العبد أن يتفنن في ابتكار الأساليب.. فالطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق، على سبيل المثال نورد هذه الطرق:
قيل بأنه في زمن الطاغوت فرعون، كانت هناك امرأة دعت ربها فقالت: يا رب أنا لا أدري أيهما أعظم: صبرك على فرعون، أم ظلم فرعون!.. وطبعاً، هذه عبارة عاطفية، لأن صبر الله تعالى لا يقاس بظلم فرعون.
وكان البعض يضع الأغلال في عنقه؛ ليعيش أجواء آية {وهم مقمحون} في سور يس، وهو في الحياة الدنيا.. والبعض منهم كان يتخذ له قبراً في منزله؛ ليعيش أجواء البرزخ والقيامة.. وهكذا فإن الإنسان بإمكانه ابتكار الأساليب المختلفة، من أجل إثارة بعض العواطف في هذا المجال.
* من الآداب الباطنية:
الأول: أن نعلم من ندعو: من الطبيعي أن الإنسان يحتاج إلى معرفة من يتحدث معه؛ ليعيش حالة الارتباط الشعوري به.. ونحن نعتقد يقيناً بأن الله تعالى سميع مجيب، ولكنه سبحانه وتعالى فوق عالم المادة، جل جناب الحق أن يكون شريعة لكل وراد.. ولهذا ينبغي للعبد أن يترقى إلى مرحلة، يرى ربه بعين باطنه، (لم تره العيون بمشاهدة العيان، ورأته القلوب بحقائق الإيمان).. فعلينا أن نسعى إلى معرفة الله تعالى، سواء كانت بالمعرفة الاكتسابية أو الإشرافية.
الثاني: أن نعيش حالة التذلل: من الإحساس بالذلة والمسكنة، بحيث يبدو ذلك على الأعضاء الخارجية، وتبين آثار الخشية على وجوههم وعلى جباههم.. كما قال تعالى في وصف للمؤمنين عند سماعهم للقرآن الكريم: {تقشعرُّ منهُ جُلودُ الذين يخشونَ ربَّهُم ثُمَّ تَلينُ جُلُودهُم وقلوبهُم إلى ذكرِ الله..}.
إذن ملخص الحركة الباطنية أمران: الإحساس بعظمة المدعو، ومعايشة الاحتقار الباطني لدى الإنسان الداعي.
* من الآداب الظاهرية:
الأول: استعمال الطيب: من المعلوم أن النبي الأكرم (ص) كان ينفق مقداراً من المال يعتد به في موضوع الطيب، ولعل ذلك إشارة إلى حالة النظافة والأناقة في الإنسان المؤمن.. وتكمن خصوصية الطيب في أنه يريح الآخرين، وحتى الملائكة -رغم أنها موجودات غير مادية- تتأذى من رائحة الفم الكريهة.
الثاني: استقبال القبلة: إن الإنسان عندما يصلي أو يدعو أمام القبلة، فقد توجه قلبه ووجه ظاهرياً تلقاء الكعبة؛ ولكن حقيقة الأمر هو التوجه لصاحب هذه القبلة، وإلى الأنبياء السلف وعلى رأسهم نبي الله إبراهيم محطم الأصنام، ومؤسس الحركة التوحيدية.. ويتذكر حركة النبي (ص) وأهل بيته (ع)، فيعيش المعاني التي من المفروض أن تنتاب الإنسان المؤمن وهو في المسجد الحرام.. ولهذا فإن الحركة الظاهرية لها مغزى باطني، ألا وهو التشبث بالمعاني التوحيدية التي ترمز إليها الكعبة المشرفة.
الثالث: الابتعاد عن عالم المشغلات: ورد في رواية عن الإمام الصادق (ع): (كان علي (ع) قد اتخذ بيتاً في داره، ليس بالكبير ولا بالصغير، وكان إذا أراد أن يصلّي من آخر الليل، أخذ معه صبياً لا يحتشم منه ثم يذهب معه إلى ذلك البيت فيصلّي).. إذا لابد من وجود الجو الهادئ، حتى يحقق الإنسان حالة الانقطاع إلى الله تعالى.
س٢/ أنه من الملاحظ في هذه الآية الكريمة: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، هو النتيجة الحتمية لتحقق الإجابة.. وقد يتساءل البعض أنه لماذا لا يرون الآثار السريعة للإجابة برغم بروز الشرط.. فما تعليقكم على ذلك؟..
هذا فعلاً من أكثر الأسئلة شيوعاً بين الناس، وحقيقة أن قد البعض يبالغ في الدعاء، ويجمع بين شرف المكان والزمان، والهيئة المؤثرة والدموع الجارية، بمعنى أنه يحقق هذه المقولة: (إذا رق القلب، وجرى الدمع؛ فدونك دونك!.. فقد قصد قصدك)، لكن مع ذلك لا نرى إجابة في البين.. يقال بأن هذه الآية {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} من صور بلاغة القرآن وإعجازه، إذ أن في آية صغيرة طرحت مفاهيم كلية كبيرة، وبتأمل بسيط نلاحظ:
الشق الأول: {ادْعُونِي}.. لم يقل: اقرؤوا الدعاء.. فالدعاء: حركة باطنية، نابعة من القلب، وراءها مقدمات كثيرة.. حيث الإحساس بالعجز والضعف والفقر الباطني، والإحساس بعظمة المدعو ووجوده وهيمنته وأهليته للإجابة.. وقد ورد في الخبر بأن (ركعتان مقتصدتان في تفكّر، خير من قيام ليلة والقلب ساه).. إذ لابد من وجود المعنى الحقيقي للدعاء لا المجازي، ثم نلاحظ استناد الضمير (ياء المتكلم)، وفيه من المعاني ما يذهل الألباب!.. بأن على العبد أن يتوجه لله عز وجل بالدعاء، فهو السميع البصير، ولا يتكل على الأسباب الظاهرية من دونه تعالى.
الشق الثاني: {أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.. وهنا القول لمن يتعجل الإجابة، ولا يحسن الظن برب الأرباب: بأن الحاجة إذا ما أعطيت أحد قد جمع بين القدرة والحكمة، والرأفة والرحمة؛ فإنها بلا شك مقضية مقضية.. والنتيجة هي: إما التعجيل، أو التأجيل، أو التعويض، وفي كل ذلك مصلحة للمؤمن.
س٣/ من الأشياء الخاطئة إننا نلجأ إلى الله تعالى في وقت البلاء والحاجة، ونعيش حالة الغفلة والبعد في الرخاء.. ما هو تعليقكم على ذلك؟..
مع الأسف هذه حقيقة الأغلبية من الناس، ولعل بعض البلاءات التي يتعرض لها المؤمن هو بسبب غفلته عن المولى جلا وعلا، كما أشارت الآية الكريمة: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}.. فالله سبحانه يجذب عبده إليه بطرقه المختلفة.. ويؤيد هذا الأمر، أن الناس يعيشون حالة التذلل والقرب من رب العالمين في حالات الشدة بشكل قهري، إلى حد أنهم يتمنون بعد ذلك بذل الغالي والنفيس لأجل إرجاع تلك الحالات المعنوية.. حيث انفتاح أبواب الحديث مع رب العالمين، والتي هي من أفضل نعم الله تعالى على عبده المؤمن.
س٤/ هناك تأكيد على ضرورة الجمع بين شرف المكان وشرف الزمان في عالم الأدعية، ما هو السر في تميز هذه الأوقات وهذه الأماكن؟..
هنالك ما يسمى بشرف الانتساب، حيث أن رب العالمين يضفي امتيازات لهذا الموجود لانتسابه إلى الجهة العليا.. وهذا هو السبب في تميز حجارة الكعبة -برغم أنها من جبال مكة- لأنها بيت الله، قال تعالى: {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}.. وتابوت موسى (ع) جعل الله {فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ}.. وهذا قميص يوسف، أوجد فيه خاصية الشفاء، قال تعالى: {أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا}.. وهذه قبضة من أثر الرسول، يستفيد منها السامري في صناعة العجل، {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}.
وكذلك بالنسبة لبعض الأزمنة كشهر رمضان المبارك، وأرض عرفة، ووادي سيناء، وبعض الأماكن في فلسطين.. وعليه، فإننا نقول: بأن رب العالمين هو يعلم متى يضيف هذه الشرافة الانتسابية إلى بعض من يريد من المكان أو الزمان.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.