بداية من الجميل أن نلفت إلى هذه الإشارة: أن الله تعالى إذا ارتضى عمل عبد من عباده، بارك فيه وأكسبه الخلود.. وما المانع من ذلك؟!.. أليس هو الذي رفع ذكر نبيه المصطفى (ص) في الآذان والإقامة والتشهد في الصلاة؟!.. كذلك الرب تعالى يكسب البعض الخلود، إذا ما رأى الإخلاص في عملهم، وهذا الذي حصل لكميل بن زياد، راوي الدعاء عن أمير المؤمنين علي (ع)، وأبو حمزة الثمالي، صاحب المناجاة المشهورة عن الإمام السجاد(ع).. ولا غرابة في الأمر أبداً، جاء في الحديث القدسي: (إذا أُطعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية…).
س١/ هنالك اعتقاد شائع بين الناس بأن الدعاء من الأمور الخاصة بالأزمات فقط، فما تعليقكم على ذلك ؟..
هذه حقيقة بأن غير المحبين من عباد الله، يتخذ الدعاء ذريعة للحصول على المزايا، وكأن رب العالمين عنده كنوز وخزائن، والمهم أن نذهب عنده ونستجديه بلطائف الحيل، ونأخذ منه ما نريد!.. والحال، بأن الدعاء هو أسلوب من أساليب الدلال، والحديث مع الرب تعالى، ولابد للداعي أن يصل إلى حالة الأنس بالله تعالى.. روي عن الإمام الصادق (ع): (إنّ العبد الولي لله يدعو الله في الأمر ينوبه، فيقال للملَك الموكل به: اقض لعبدي حاجته ولا تعجّلها، فإنّي أشتهي أن أسمع نداءه وصوته)!.. فيا للعاطفة جياشة!.. الله تعالى يحب سماع صوت عبده، وهو الذي يسمع تسبيح الملائكة المقربين والكروبيين!.. ومما ينقل في الروايات أيضاً -ما مضمونه-: أن العبد الذي يكثر الدعاء والمناجاة في ساعات الشدة والرخاء، فإن الملائكة تألف صوته وتقول: يا رب هذا صوت عهدناه في الرخاء وعهدناه في الشدة.. فإذن، إن الدعاء هو نوع من أنواع التلذذ في الحديث مع رب العالمين، وليس وسيلة لأخذ الامتيازات والحوائج.
س٢/ ما هو سبب إحساس الإنسان المعاصر -حيث غلبة الماديات- باللاتوازن واللانتماء؟..
من الطبيعي أن الذي لا صلة له بربه، أن يعيش حالة انعدام الجاذبية.. حيث أنه لا يعلم إلى أن يسير، مثله كمثل رجل الفضاء يتقلب يميناً وشمالاً!.. فلا يعيش حالة من الانسجام في سيره وحركته الحياتية.. ومن هنا نلاحظ بأن الإنسان الذي ليس له تمسك بهذه الزوايا النورانية في الحياة، فإنه بين فترة وأخرى يعيش حالة الانهيار العصبي، وفقدان السيطرة على وجوده.. وإلا فالذي يعلم بأن مقاليد الأمور طر بيده، وأن الكل مستمد بمدده، ويعيش الانتماء إلى ذلك العالم المطلق.. سوف لن يعيش تلك الأجواء، ويتبين ذلك في حركة حياته اليومية بشكل واضح.
س٣/ هنالك مشكلة عند بعض الناس وهي استعجالهم في الإجابة عند الدعاء، فما تعليقكم على ذلك؟..
ينبغي أن يكون الهدف من المناجاة والدعاء، عبارة عن الحديث مع الرب المتعال، وأن يدعو وهو مستيقن بالإجابة.. فالرب تعالى من ناحية هو قدير، ومن ناحية هو حكيم يعلم متى يعطي الإجابة، وفي نفس الوقت هو أرحم الراحمين، وأرأف بنا من آبائنا وأمهاتنا.. فإذن، إن الله تعالى يقضي الحاجة، ولكن كيف تقضي؟..
هنالك ثلاث سبل:
الأول: أن تعطى الحاجة معجلة في هذه الحياة الدنيا: وما المانع من ذلك؟!.. فإذا كان آصف بن برخيا بإمكانه أن يحضر عرش بلقيس، بأقل من طرفة عين، فكيف برب العالمين إذا أراد أن يقضي حاجة عبده؟!.. {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.. لا بمعنى التلفظ بالكلمة، بل بمقتضى إرادته التي هي أسرع من ذلك.
الثاني: التأجيل لمصلحة العبد: ورد في بعض التفاسير بأن الله تعالى عندما قال لموسى: {قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا}.. كان بين الدعاء والإجابة (إهلاك فرعون) أربعون عاماً.. وكذلك بالنسبة للنبي المصطفى (ص) عندما وعد بغلب الروم وفتح مكة.. بمعنى أن رب العالمين قد أجاب الدعوة ولكن متى؟.. هنا تتجلى الحكمة الإلهية في إمضاء حاجة عبده المؤمن، (ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور).
الثالث: حجب الحاجة في الدنيا، ثم التعويض بأضعاف ما يتصوره العبد يوم القيامة.. حتى أن الأمر يصل إلى درجة أن العبد يتمنى في الآخرة، لو لم يعطي دعوة واحدة في هذه الحياة الدنيا، لما يرى من التعويض الذي لا يخطر ببال أحد.
س٤/ ما هي مقومات التواصل بين العبد وربه ؟..
من الضروري أن يحول الإنسان علاقته بالله تعالى، من علاقة تكوينية قوامها الخالقية والمخلوقية، إلى علاقة عاطفية فطرية وجدانية قوامها الحب والمحبوبية.. إن الله تعالى خلق الإنسان وميزه بالإدراك عن بقية الموجودات الأخرى، التي تسبح الله تعالى بالفطرة، كالنحلة مثلاً، فالله تعالى بالفطرة علمها كيف تصنع العسل، كما نفهم من قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ}.. فمن المستحيل أن تخرج يوماً خلاً بدلاً من العسل!..
إن هذا الانسجام البديع بين مراد الله تعالى في عالم التكوين وعالم الطبيعة، لماذا لا نراه بين بني البشر؟!.. فرب العالمين أراد منا هذا الانسجام، ولكن على شكل اختيار، وعلى نحو الميل الأكبر الذي لا يشوبه أي جبر.
لماذا هذا القلب الصنوبري يضخ صباحاً مساءً، بلا ملل ولا كلل طوال ستين أو في بعض الأوقات إلى قرن من الزمن؟!.. ألا يمكن تحويل القلب المعنوي إلى قلب أيضاً يضخ بهذه المعاني المقدسة؟!..
إن المجاهدة ودخول عالم الأذكار والأوراد، لا يكفي لإحراز التكامل المنشود، بل لابد من امتلاك بنية ثقافية معرفية فكرية.. وهذا قياساً على ما كان عليه النبي الأكرم (ص)، حيث كان حريصاً خلال سنوات دعوته في مكة -مع كل عقباتها- على الجانب الفكري والمعرفي والمبدأ والمعاد والتأمل في هذا الوجود، ونفي الشرائك في كل صوره.. وعليه، فإنه لابد أن نعيش عالم الفكر والتدبر والتأمل، قال الإمام علي (ع): (رحم الله امرأ أعد لنفسه، واستعد لرمسه.. وعلم من أين؟.. وفي أين؟.. وإلى أين)؟.. وإذا دخلنا هذا الجو النظري -بفضل الله- وامتلكنا المعرفة الواضحة في هذا المجال، فإنه يرجى بأن لا نتعثر -إن شاء الله- في مقام العمل والحركة الخارجية.
س٥/ إن الله تعالى عادل ويريد منا أن نكون عدولاً.. هل رب العالمين يمكن أن يجيب دعوة الفاسقين والكافرين؟..
لا أعتقد أن هناك مانعا، لأن الإنسان الفاسق لازالت علاقته بالله علاقة الخالقية والمخلوقية، حيث يقال: بأن لله رحمة رحمانية، ورحمة رحيمية.. وبعض الأوقات رب العالمين قد يجيب دعوة الفاسق؛ إتماماً للحجة عليه يوم القيامة.. كما نقرا في دعاء شهر رجب: (يا من يعطي من سأله!.. يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه؛ تحنناً منه ورحمة)!.. ومن الممكن أن يكرم فاسق لعمل صالح بدر منه، قال الإمام الكاظم (ع): (كان في بني إسرائيل رجلٌ مؤمنٌ وكان له جارٌ كافرٌ، فكان يرفق بالمؤمن ويوليه المعروف في الدنيا.. فلمّا أن مات الكافر بنى الله له بيتاً في النار من طين، فكان يقيه حرّها ويأتيه الرزق من غيرها، وقيل له: هذا لما كنت تدخل على جارك المؤمن فلان بن فلان من الرفق، وتوليه من المعروف في الدنيا).
ومن المنقول أيضاً عن النبي (ص) أنه ارتضى يهودي لقضاء حوائجه، مما أدى إلى إسلامه.. وأنه أكرم بنت حاتم الطائي عندما جاءت أسيرة إلى المدينة؛ كرامة لأبيها حاتم مع أنه مات ولم يكن على الدين الحنيف.. وذلك لأن الله تعالى شكور، يجزي حتى بعض من هو ليس في مقام الطاعة الكاملة، على بعض ما يقوم به من حركة صالحة في هذه الحياة.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.