– (اَللّـهُمَّ اجْعَلْني فيهِ مِنَ الْمُتَوَكِّلينَ عَلَيْكَ ، وَاجْعَلْني فيهِ مِنَ الْفائِزينَ لَدَيْكَ ، وَاجْعَلْني فيهِ مِنَ الْمُقَرَّبينَ اِلَيْكَ ، بِاِحْسانِكَ يا غايَةَ الطّالِبينَ).
– (اَللّـهُمَّ اجْعَلْني فيهِ مِنَ الْمُتَوَكِّلينَ عَلَيْكَ…) :
بشكل عام في العبارات الدعائية التي تبدأ بكلمة (اجعلني) ، يكون ما بعد (اجعلني) هو من أفعال العباد.. ومن المعلوم أن الإنسان مكلف بالتوكل ، وبالتفويض ، ولكن أيضاً هو مكلف بالسعي وراء الرزق.. فما معنى (اجعلني) ؟.. إذا هو فعل الإنسان ، فإذن ما هو دور رب العالمين في فعل الإنسان ؟.. وإذا هو فعل رب العالمين ، إذن ما دوره هو ؟..
وهنا ينبغي أن نكتشف معادلة في جميع الآيات القرآنية ، وفي جميع الروايات والشرائع.. والكلمة الفصل في هذا المقام هو ما نقله أئمتنا (ع) عندما قالوا : (لا جبر ولا تفويض ، ولكن أمر بين أمرين)..
حقيقة الأمر أنه نحن صحيح عباد أحرار ، ولنا الاختيار ، وأن الله سبحانه وتعالى فوض إلينا أمر الوجود ، أي نعمل ما نشاء.. ولكن الله سبحانه وتعالى جعل لنفسه مساحة من التأثير في حياة الإنسان ، وهذه المساحة -أولاً- لا تمنع التكليف أبداً ، ولا تسلب الاختيار ، فبإمكان الله عزوجل يوم القيامة أن يحتج على العبد.. وفي نفس الوقت فإن هذه المساحة التي لله عزوجل ، دائماً توجب الرعب والخوف.. وكأن الإنسان بمثابة طائر يطير ، ولكن هناك حبل ممدود بين يدي الله عزوجل وبينه ، ومتى ما شاء الله عزوجل فإن هذا الحبل يجره إلى الأرض.
ما هي المساحة للتدخل الإلهي في حياة الإنسان ؟..
يمكن أن نلخص هذه المساحة بحقلين :
الحقل الأول : عالم الأسباب المادية.. الإنسان الموفق ، يوفق على أساس أسباب طبيعية.. مثل : إنسان يزرع زرعاً ، فيحصد حصاداً ، فيصبح ثرياً ، فيزكي زكاة ، فيؤجر أجراً.. فالخاتمة هي الأجر ، وهي الحسنة ، وهي التقرب إلى الله عزوجل ، ولكن منشؤه ماذا ؟.. رب العالمين يقول في كتابه : {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}.. رب العالمين لو شاء لجعل الماء أجاجاً ، ولما أمطر السحاب ، ولما خرج الزرع ، ولما أخذ الحصاد ، ولما زكى الزرع ، ولما أنفق على الفقير واليتيم.. إذن، الإنسان منفق ، ولكن الله عزوجل إذا أراد ، فهو الذي يهيئ له الأسباب.
كذلك الإنسان في عالم الخذلان.. مثل : إنسان يبتلى بالنظر المحرم ، ويرى امرأة جميلة ، فيفتتن بجمالها ، فيسعى إليها ، فلا يحصل عليها من الحلال ، فيضطر إلى الحرام.. كذلك لو أن الله عزوجل لم يخلق هذا الجمال ، ولم يخلق هذا الافتتان ، ولم يخلق حالة التجاذب الغريزي بين الرجل والمرأة ؛ لما وقع الذين وقعوا في الفساد والانحراف ، وهو الذي يقول في كتابه الكريم : {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}.. من الذي زين ذلك ؟..
إذن، الله عزوجل في عالم التوفيق هو صاحب الأسباب ، وفي عالم الخذلان أيضاً هو صاحب الأسباب..
فما دام الأمر بيده سبحانه وتعالى ، إذن حق لنا أن نقول : يا رب !.. أنت ما دام بيدك الأمور – الأسباب والمبادئ- ، وفقني لأن أكون على وفق ما تريد.. وهذا هو التوفيق..
وأما الحقل الثاني من حقول التصرف الإلهي : القلب..
القلب هو مخلوق لله عزوجل.. ولله عزوجل أن يلقي في روع الإنسان ما يشاء.. إن الإنسان يعمل بجوارحه وهو صاحب الإرادة ، ولكن كما أن الشيطان يلقي في روع الإنسان ، أيضاً فإن رب العالمين يلقي في روعه بطرقه : إما إلقاء مباشراً ، أو إلقاءً عبر الملائكة..
إذن، الإلقاء في الروع من ناحية يغير مجرى الحياة.. كما في قصة أم موسى : قال تعالى : {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.. قلب أم موسى أصبح فارغاً ، إن هذا الفراغ وهذا الاطمئنان ، نتيجة أن ربط الله عزوجل على قلبها.. وكذلك أهل الكهف : قال تعالى : {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ }.. ولكن الربط الإلهي والتصرف في القلب ، لا ينافي التكليف.. لو أن الله عزوجل ربط على قلب عبد ، فاتجه نحو الخيرات ، فهذا الإنسان يثاب على عمله ؛ لأن الإرادة منه ، والسعي منه ، والجهاد منه.. نعم، الإلقاء في الروع من الله عزوجل..
وكذلك عند الخذلان.. فعندما يُحبب للإنسان الفسوق ، وعندما يُختم الله عزوجل على القلب -كما يقول في القرآن الكريم : {خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ}- ؛ فإن القلب المختوم قلب لا يفكر ، وقلب لا يهتدي ؛ وعندئذ الإرادة لا تريد الخير ، والجوارح لا تمشي نحو الحق..
إذن، القلب هو عالم التصرف الإلهي.. والقرآن لا يكتم هذا السر ، يقول في آية معروفة : {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}.. الإنسان يريد شيئاً ، والله عزوجل يريد شيئاً ، ولا يكون إلا ما يريد الله عزوجل.. الإنسان يحب أن يريد شيئاً ، فيرى أن قلبه مصروف إلى جهة أخرى.. وفي آية أخرى يقول : {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}..
تلخص من الكلام المذكور : أن الله عزوجل له سبيلان إلى التصرف في حياة بني آدم : عالم الأسباب ، وعالم القلوب ؛ توفيقاً وخذلاناً..
ولهذا صح أن نقول : اللهم !.. اجعلني فيه من المتوكلين عليك.. لو أن العبد رأى قدرة الله عزوجل ، ورأى رأفة الله عزوجل ، بأعلى صورها ، فمن الطبيعي أن يتوكل.. فالتوكل فرع الاعتقاد بقدرة المتوكل عليه ، وفرع الاعتقاد برأفة المتوكل عليه.. فإذا رأى القدرة والرأفة في الوكيل ، من الطبيعي أن يتوجه إليه ، ويتخذه وكيلا..
نسأل الله عزوجل أن يجعلنا أهلاً لذلك !.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.