– (اَللّـهُمَّ !.. حَبِّبْ اِلَيَّ فيهِ الإحسان ، وَكَرِّهْ إلَيَّ فيهِ الْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ ، وَحَرِّمْ عَلَيَّ فيهِ السَّخَطَ وَالنّيرانَ ، بِعَوْنِكَ يا غِياثَ الْمُسْتَغيثينَ !).
من المناسب في الأدعية التي تبتدئ بكلمة (اللهم) ، أن يقف الإنسان قليلاً ، لاستحضار حالة الخطاب الإلهي.. فلو أن إنساناً على موعد هام مع شخصية مهمة – مثلاً : وزير ، أو أمير – ؛ فإنه كم من الاستعداد النفسي والبدني والظاهري يعده لهذا اللقاء !.. إن الدعاء له آداب.. فالذي يريد أن يدعو ، فليجلس على مصلاه -جلسة العبيد- مؤدباً ، ومستقبلاً القبلة ، ومتطيباً ، ومتطهراً ، لابساً أفضل الثياب ، ثم يقول : (اللهم) ، بتوجه ، ويدعو بما يريد..
فينبغي علينا توقير الله عزوجل عند الدعاء ؛ لئلا ندخل في ضمن من يشملهم التأنيب الإلهي ، كما نلاحظ في بعض الآيات في القرآن الكريم ، حيث هناك تأنيب لاذع وقوي جداً ، منها قوله تعالى : {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} ، وقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}.. وإن قرأ الإنسان كلمة (اللهم) لاهياً ، فالاقتراح : أن يكثر من الاستغفار ، لهذا الذي ارتكبه من سوء الأدب بين يدي الله عزوجل.
– (اَللّـهُمَّ حَبِّبْ إِلَيَّ فيهِ الإحسان…) :
يقول علماء النفس بأنه حتى تحصل حالة الحب عند الإنسان ، فإنه لابد من تحقق أمرين :
الأول : تصور الشيء ورؤيته.. فالذي ليس له محبوب أو معشوق ، فليس له حب.. فلو أن شاباً لم تسمَ له امرأة ، أو هو لا يعلم امرأة في الوجود ، قد نشأ في بيئة كلها من الرجال -مثلاً- ، فإنه من الطبيعي أن لا يعيش حالة الحب ، لعدم وجود الموضوع ، أي لا يوجد شيء هناك في الخارج يمكن أن يحب..
والثاني : التصديق بفائدته وبجدواه.. قد الإنسان يتصور شيئاً ، ويراه ؛ ولكن هذا الشيء ليس مما يُحب عنده ، فلا تحصل حالة الحب ؛ أو أنه لا يرى فيه فائدة ؛ ولهذا لا يحبه.
إذن، إذا تصور الإنسان الشيء ، ورآه ، وتصور فائدته ؛ عندئذ يصبح انجذاب قهري بين النفس وبين ذلك الشيء المحبوب ، سواء كان محقاً في تصور الفائدة أو كان مبطلاً ، أي قد يرى الباطل على أنه نافع ، فيحب الباطل.. وكلما اشتد الاعتقاد بالشيء وتصور جدواه ، كلما اشتدت حالة الحب في النفس.. مثل : إنسان قد يحب خادمة ، لأنه يرى أن هذه الخادمة تيسر له أمر الطعام والشراب.. ولكن تارة يرى أنثى ، لا يرى فيها جهة التيسير المادي فحسب ، وإنما يرى فيها الأنس العميق ، ويرى أن سعادته في هذه الدنيا متوقفة على هذا الاقتران.. ولهذا يقع عشاق الهوى وطلاب الغرام فيما يقعون فيه ، إلى حد الانتحار أحياناً..
وعليه، فإن الإنسان المؤمن يطبق هذه القاعدة على نفسه :
أولاً : وجوده سبحانه وتعالى أجلى أنواع الوجود.. ولهذا في دعاء عرفة يقول إمامنا الحسين (ع) : عميت عين لا تراك !.. إن كل شيء يستمد وجوده منه سبحانه وتعالى.. وهذا الجمال الموجود في الطبيعة : بنباتها ، وبجمادها ، وببشرها ، وبطبيعتها… ؛ كله مستندة إلى صفة من صفات الله عزوجل ، وهي صفة الخالقية.. {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}.. إذن، المؤمن يعتقد بهذه الحقيقة..
وثانياً : الاعتقاد بنفعه.. أليس هو النافع ؟.. أليس هو بيده ملكوت كل شيء ؟.. أليس هو الذي يقول في كتابه : {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} ؟.. يا طلاب المال ، والجاه ، والسعادة ، والأمن ، والاستقرار ، والعلم… ماذا تريدون ؟.. تريدون هذه الأمور ، توجهوا إلى من بيده خزائن ذلك الأمر !.. الذي يريد مالاً ، أو يريد جاهاً ، أو يريد استقراراً نفسياً… ، لماذا يذهب يميناً شمالاً ، ويبحث عن الباطل ، ليوصله إلى الحق ؟!.. حاشا وكلا !.. متى كان فاقد الشيء ، معطياً لذلك الشيء !..
إذن، الذي يؤمن بالله عزوجل ، ويرى أنه القابض ، ويرى أنه الباسط ، ويرى أنه النافع ، ويرى أنه الضار ، ويرى أنه المبتلي والممتحن ؛ فمن الطبيعي أن تتحقق عنده حالة الحب هذه ، ولهذا يقول القرآن الكريم : {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ}.. وحقيقةً، الآية قد تجاري الأذهان العامة.. وإلا فأي نسبة بين محبة الله عزوجل ، ومحبة ما سواه في الوجود !..
وعليه، فإن الله عزوجل إذا تجلى للنفس ، وانقدحت حالة الحب ، عندئذ من الطبيعي أن يحب الإنسان الإحسان ، لأن هذا الإحسان يقربه إلى ذلك المحبوب.. ويتحول من إنسان عابد متاجر ، إلى إنسان عابد حر ، فلا يعبده خوفاً من نار ، ولا طمعاً في جنة.. عندما يقال بأنه قيس كان يمر على ديار ليلى ويقبل الجدار ، فهل كان طمعاً في مال ليلى ، أو خوفاً من عقابها ؟.. أبداً.. ذلك هو الحب.. يقول :
أمر على الديار ديار ليلى — أقبل ذا الجدار وذا الجدار
وما حب الديار شغفن قلبي — ولكن حب من سكن الديار
الناس في الحب المجازي الباطل ، هكذا يتفانون.. ألا يحق للمؤمن أن يعاتب نفسه ؟!.. إما أنه مقصر ، أو شاك في الوجود ، أو شاك في الفائدة.. فعندما يجمع الاعتقاد بين الوجود والفائدة ؛ من الطبيعي جداً أن يحب كل أمر يحببه إلى ذلك المولى الأعظم !.
ولهذا في سورة الدهر ، نرى أن الله عزوجل يصف أهل البيت بقوله : {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا}.. فعلي وفاطمة ، والحسن والحسين (ع) ، بل حتى خادمتهم التي تأثرت بهم ، هؤلاء يطعمون الطعام لوجه الله عزوجل ، لا يريدون جزاءً ولا شكورا ؛ لأنهم لا يرون سوى الله عزوجل.. غير الله وجوده كالعدم.. وإذا كان أصل وجوده كالعدم ، فكيف بآثار الوجود ؟!.. فإن الإنسان إذا وصل إلى هذه الدرجة : أنه لا يرى وزناً لمن أمامه ، فإنه لن يبالي بما وراء ذلك.. فما قيمة مدحه وشكره ، وعتابه ولومه ، ورضاه وغضبه ؟!.. أبداً ، هو لا يقيم وزناً لذلك ، في جنب الله عزوجل !.. {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}..
نعم، (اَللّـهُمَّ حَبِّبْ إِلَيَّ فيهِ الإحسان) عبارة بسيطة ، ولكن تستبطن كل هذه المعاني !.
– (وَحَرِّمْ عَلَيَّ فيهِ السَّخَطَ وَالنّيرانَ…) :
أي: يا رب، اجعل حجاباً بيني وبين النار.. كما أن الخمر حرام على المؤمن ، فالمؤمن لا يقترب من الخمر.. اللهم !.. اجعل في عالم التكوبن النار محرمة علي ، بحيث أنه لا يُتوقَع في يوم من الأيام أنه أعيش في هذه النار ، لأنها محرمة.. لا سنخية بين المؤمن والخمرة ، ولا سنخية بين المؤمن والنار.. لأن النار أثر غضب الله عزوجل ، والمؤمن لا يمكن أن يرتكب ما يغضب الله سبحانه وتعالى.
– (يا غِياثَ الْمُسْتَغيثينَ !) :
من الجميل لو نجمع الفقرات الأخيرة في دعاء كل يوم : يا أمل المشتاقين !.. يا غاية الطالبين !.. يا غياث المستغيثين !.. يا ملجأ الآملين !.. فإن كلها تصب في هذا الاتجاه ، وهو : أن الله عزوجل هو الذي إذا شاء رفع الإنسان من أسفل الدرجات ، إلى أعلى الدرجات.. كما أنه تعالى -في عالم الطبيعة- نقله من عالم النطفة القذرة ، إلى عالم الخلق البديع ، الذي شق فيه السمع والبصر ، وجعل فيه الفؤاد المدرك..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.