(اَللّـهُمَّ !.. نَبِّهْني فيهِ لِبَرَكاتِ أَسْحارِهِ ، وَنَوِّرْ فيهِ قَلْبي بِضياءِ أَنْوارِهِ ، وَخُذْ بِكُلِّ أَعْضائي إلى إتِّباعِ آثارِهِ ، بِنُورِكَ يا مُنَوِّرَ قُلُوبِ الْعارِفينَ !).
– (اَللّـهُمَّ !.. نَبِّهْني فيهِ لِبَرَكاتِ أَسْحارِهِ…) :
يقال أنه ما بلغ وليٌ مبلغاً في التقوى والكرامة عند الله عزوجل ، إلا بقيام الليل.. وقد ورد عن الإمام العسكري (ع) : (إنّ الوصول إلى الله عزوجل سفر ، لا يدرك إلا بامتطاء الليل).. وكأن الليل هي الدابة السريعة ، التي توصل الإنسان إلى الله عزوجل..
ومن المعلوم أن القرآن الكريم قد أمر النبي (ص) أن يقيم صلاة الليل ، كما في قوله تعالى : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} ، ولكن الملاحظ أنه مع أن النبي (ص) يقوم بالنافلة ، إلا أن الآية تقول : {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} !..
ويقال في عرف الأخلاقيين -علماء الأخلاق والعرفان- : أن المقام المحمود مقام لا يدركه عامة الخلق.. مقام محمود ، غير محدد.. إذ لم يقل : الرضوان ، ولم يقل : جنات عدن ، ولم يقل : {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} ، وإنما قال : (مقام محمود).. فإن القضية مبهمة جداً ؛ حتى يجعل الله سبحانه وتعالى قوة الانطلاق في الجميع.. مقام محمود ، ولكن هذا المقام ماذا ؟.. لا نعلم !..
فإذن، صلاة الليل والقيام في الأسحار لا يمكن أن تنفك عن الولي ، وخاصة في شهر رمضان.. ونحن نلاحظ -مع الأسف- أن بعض الصائمين يستيقظ وقت السحر ، ليأكل طعاماً يعينه على صيام نهاره ، ولا يقوم قياماً يعينه على سفر آخرته !.. ومن الممكن المرأة تعطي من وقتها الساعة والساعتين ، لطعام البدن لها ولزوجها ، ولكن تنسى طعام الروح !.. تستنكف أن تعطي عشر دقائق أو ربع ساعة من وقتها ، للقيام بين يدي الله عزوجل !.. أليس هذا خسارة ما وراءها خسارة ؟!..
إن قيام السحر فيه بركات لا تعلم.. قيل للحسن البصري : ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوهاً ، فقال لهم : لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نوراً من نوره.. وأصحاب الليل وجوههم وجوه منيرة ، والقرآن الكريم يشير إلى هذا النور : {يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} ، {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ}.. وجوههم مشرقة ، ومن أجمل الوجوه.. وليس المعني بذلك ، هو الجمال الزائف ، الجمال الجلدي ، فإن هذا الجمال لا قيمة له ، وهو جمال للديدان وحشرات الأرض ، وإنما ذلك الجمال الذي يبقى !.. لأنهم خلوا بالله عزوجل في جوف الليل ، فكساهم الله عزوجل من نوره ، حيث كما في دعاء السجاد (ع) حيث يقول : (إلهي !.. غارت نجوم سماواتك ، وهجعت عيون أنامك ، وأبوابك مفتحات للسائلين ، جئتك لتغفر لي وترحمني).. وكان يقول بعضهم : (إلهي !.. أنارت النجوم ، ونامت العيون ، وغلَّقت الملوك أبوابها ، وخلا كل حبيب بحبيبه ، وهذا مقامي بين يديك).. ففي جوف الليل الإنسان يخلو مع من يحب ، وهو بلسان حاله يقول : يا رب !.. أنت الذي خلوت بك في هذه الليلة ، حيث خلا أهل الدنيا بكل ما هو زائل..
إذن، قيام الليل وجوف السحر من الساعات التي لا تفوت ، وخاصة إذا كان فيه معاناة.. والبعض يقول يمنعني من قيام الليل ما أنا فيه من التثاقل ، أي صلاة أصليها ؟!.. صلاة لا أعلم أولها من آخرها ، هل يفضل أن أقوم بهكذا صلاة ؟!.. أليس هذا وهناً لصلاة الليل ؟!.. أقول : إن هذا من تسويلات الشيطان اللعين الرجيم.. فإن نفس هذا العملية التي يذكرها القرآن الكريم : {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} -{تتجافى} أي تقوم من المضاجع بجفوة لهذه المضاجع- ممدوحة ويؤجر عليها الإنسان.. وقد ورد عن النبي الأكرم (ص) : (يا أبا ذر، إنّ ربك عزَّوجلَّ يباهي الملائكة بثلاثة نفر … إلى أن قال (ص) : ورجل قام من الليل فصلّى وحده فسجد ونام وهو ساجد ، فيقول الله تعالى : اُنظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده في طاعتي ساجد)
وكلمة (نبهني) لها معنيان :
الأول : أي نبهني للقيام ولليقظة.. ومن نعم الله عزوجل على بعض عباده ، أنه يستيقظ لقيام الليل تلقائياً ، وحتى لو كان في أشد الإرهاق ، فإنه في قبيل الأذان بلحظات وكأن هناك ملك يوقظه ، والبعض يسمع صوتاً -في منامه أو غير منامه- يوقظه لقيام الليل..
الثاني : أي نبهني للبركات.. أنا مستيقظ جسمياً وأصلي صلاة الليل ، ولكن نبهني لبركات أسحاره ، لتنكشف لي الحجب !.. أولياء الله عزوجل ما الذي يدفعهم لقيام الليل ؟.. ما الذي يجعلهم يتركون لذيذ النوم ؟.. أحدهم ينادي ويصيح : أين الملوك وأبناء الملوك من هذه اللذة ؟!.. ما الذي جعلهم ينتظرون دخول الليل ومنتصف الليل ؟.. هو ما يرونه ويسمعونه من بركات الأسحار !..
– (وَنَوِّرْ فيهِ قَلْبي بِضياءِ أَنْوارِهِ…) :
هذا النور الذي يقول عنه القرآن الكريم : {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ}.. والذي ليس له هذا النور ، فإنه يتخبط يميناً وشمالاً كالأعمى : {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}.
– (وَخُذْ بِكُلِّ أَعْضائي إلى إتِّباعِ آثارِهِ …) :
العين تتحمل في قيام الليل ، والأعضاء كلها تشارك في صلاة الليل ، ولهذا لكل عضو نوره.. هذه العين ترى بنور الله عزوجل.. وإذا بطش بيده ، فهذا بطش الله عزوجل.. وإذا سمع شيئاً ، فهو يسمع بسمع الله.. وإذا تكلم ، فهو يتكلم بلسان الله.. ولهذا ورد في الحديث عن الإمام الباقر (ع) : (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ) ، ثم تلا هذه الآية : {إنّ في ذلك لآيات للمتوسّمين}.. يتكهن بالشيء ، فيقع لأنه يرى بعين الله.. وفي الموضوعات الخارجية يحدس ، فيصيب.. ويرى أن هذا مضر ، فيبتعد عنه ، فحقيقة يُرى فيه الضرر.. ويجتنب من إنسان ظاهره الصلاح ، فيكون اجتنابه في محله ، لسوء باطنه.. إذن، يرى بعين الله عزوجل ، ويبطش بيد الله… وطوبى لمن كان كذلك !..
– (بِنُورِكَ يا مُنَوِّرَ قُلُوبِ الْعارِفينَ !) :
الإنسان العارف هو الذي يتنور قلبه بهذه المعارف..
وفقنا الله وإياكم ، لأن نكون من عباده الصالحين !.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.