إن من الغريب أن مسألة التبرك بالآثار المقدسة، إنما طرحت في الآونة الأخيرة، ولم تكن هذه المسألة شاغلة للمسلمين في صدر الإسلام، لأنهم لم يكونوا يختلفون عليها.
إن قسما من المسلمين ينكرون مسألة التبرك بالآثار، ويستنكرون بعض الصور التي يُفهَمُ منها تقديس أصحاب هذه الآثار.. فمن يزور قبر النبي (ص)، ويتوجه إلى الله عز وجل، طالبا الشفاعة وقضاء الحاجة بجاه المصطفى (ص)، نرى أن البعض يفسر هذه الحركة، بأنها عبادة للقبور.. والحال، بأن هناك فرقا كبيرا جدا، بين عبادة القبر، وبين عبادة الله عز وجل؛ مستشفعين ومتوسلين بجاه ذلك الذي دفن في ذلك القبر، وهو حي عند الله مرزوق.
فإن رجعنا إلى كيفية تعامل السلف والصحابة مع آثار المصطفى (ص)، نجدها أنها معاملة بكل أريحية وكل فطرية.. فالصحابة لم يلاحظوا شيئاً غريباً بالنسبة لهذه المسألة، وما يدل على ذلك الروايات التي ذكرت في كتب ومصادر العامة.
الرواية الأولى: ما ذكره ابن الأثير في أسد الغابة/ ج١/ ص٢٤٤، وابن عساكر في تاريخ دمشق/ ج٧/ ص١٣٧: عن أبي الدرداء أن بلالاً – مؤذن النبي (ص)- رأى في منامه المصطفى (ص) وهو يقول: ما هذه الجفوة يا بلال؟!.. أما آن لك أن تزورني يا بلال!.. فانتبه بلال حزيناً وجلاً خائفاً.. ركب راحلته وقصد المدينة، فأتى قبر النبي (ص) فجعل يبكي عند القبر، ويمرغ وجهه عليه.. فأقبل الحسنان (ع) فجعل يضمهما ويقبلهما.
الرواية الثانية: ينقلها ابن حجر العسقلاني في المواهب اللدنية /ج٤ /ص ٥٨٣، والسمهودي في وفاء الوفا /الجزء الرابع: يقول علي: قدم علينا أعرابي -الأعرابي هو البعيد عن أجواء الوحي- بعد ما دفنّا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحثا من ترابه على رأسه، وقال: يا رسول الله!.. قلتَ فسمعنا قولك، ووعيت عن الله سبحانه فوعينا عنك، وكان في ما أُنزل عليك: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ} وقد ظلمت نفسي، وجئتك تستغفر لي.. يقول الإمام علي (ع)- وهو الشاهد على هذه القصة-: فنودي من القبر: «قد غُفر لك».
يقول أحمد بن حنبل: سألت أبي عن الرجل يمس منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يتبرك بمسه وتقبيله، ويفعل بالقبر ذلك رجاء ثواب الله تعالى، فقال: لا بأس به.. أي ما دمت تريد بهذا وجه الله عز وجل، وليست هناك عملية قصدية فيها شرك، فما المانع من ذلك؟!..
والسيدة خديجة (ع) طلبت من النبي (ص) أن يكفّنها ببردته؛ تبركاً ولتحميها من هول المطلع.. فالنبي (ص) استجاب لطلب خديجة، وكفّنها ببردته.
وهكذا في عهد أبناء النبي (ص).. فالكميت يطلب من الإمام الباقر (ع) قميصه.. ودعبل طلب من الإمام الرضا (ع) جبّة، فعندما وصل إلى بغداد، رأى بأن جاريته أصيبت في عينيها، فمسح بفاضل جبة الإمام (ع) فبرئت الجارية.
فإذن، من مجموع هذه الروايات والأحداث، نعلم أنه إذا لم يجعل الإنسان ذلك الوجود المقدس في قبال الله عز وجل، أي لا يرى بأنه هو الذي يقضي الحوائج.. فما المانع من توسيط هذه الوجودات الشريفة؛ لأجل قضاء الحوائج؟!.. نحن نعلم أن {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}.. فالله عز وجل لا مانع عنده أن تنسب هذه العملية الخاصة به -فهو المحي، وهو المميت- إلى ملك من ملائكته: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ}.. فإذن، كما يتوفانا ملك الموت بإذن الله، فالنبي (ص) يقضي حوائجنا بإذن الله كذلك، فما الفرق بين هذا وذاك؟!.. والإماتة قضية معقدة وأرقى من شفاء مريض، أو أداء دين، أو ما شابه ذلك.
وكذلك فإن القرآن الكريم يجعل الغيب لله عز وجل، {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا}.. إن أحد العلماء يقول: ما دام علم النبي بالغيب من قبل الله عز وجل، فلا يقال بأنه يعلم الغيب حقيقة، بل اُطلع على الغيب.. فالذي يعلم الغيب هو الله سبحانه وتعالى.
لنرجع إلى القرآن الكريم في هذه المسألة حيث يقول الله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.. والتابوت هو ذلك المهد الذي وضع فيه موسى (ع) في النيل، وهو عبارة عن صندوق خشبي، لامس بدن نبي من الأنبياء كموسى (ع).. فلما حضرته الوفاة وضع فيه الألواح، ووضع فيه درعه، وما عنده من آيات النبوة، فأودعها يوشع وصيه.. فنحن نقول: بأنهم لم يزالوا في عز وشرف، ما دام التابوت بينهم.. فلما عملوا المعاصي، واستخفوا بذلك التابوت، رفعه الله تعالى عنهم.. ثم جعل رد التابوت دليلاً على أنه جعل الله تعالى طالوت ملكاً.. فلماذا هذا التابوت بالذات يُرفع عقوبةً، وينزل علامةً؟!.. لأنه لامس بدن ولي ونبي من أنبياء الله عز وجل.
بل أعجب من ذلك مسألة السامري، حيث قال موسى (ع): {فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}.. يقول صاحب تفسير الميزان-رحمه الله-: فسره الجمهور: أن السامري رأى جبرائيل، وقد نزل راكباً على فرس من الجنة قدام فرعون، فأخذ قبضة من أثر جبرئيل، وقيل: -أو- أثر حافر فرس جبرئيل (ع).. فإذن، إذا كان أثر حافر فرس جبرئيل (ع) بهذه الخاصية، فكيف بهذه الوجودات الطاهرة، التي يقول القرآن عن شهداء هذا الركب: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}.. فإذا كان الشهيد حي يرزق، فكيف بنبي الشهداء، وإمام الشهداء؟!..
وعليه، فإذا كان بعض العوام لا يفهم كيف يتبرك بالآثار، ويجعل التبرك بالأثر بشكل عوامي لا فهم فيه، فما ذنب الفكرة والمفهوم؟.. فلا ينبغي أن نحمّل الشريعة والفكرة والمفهوم، سلبيات المطبقين لتلك الفكرة.
فإذن، إن من المهم أن نعتقد أن التبرك قضية قرآنية، وقضية نبوية.. ولهذا نحن نعلم أن المسلمين لا يختلفون في تقبيل الحجر الأسود، مستندين إلى أن الخليفة الثاني قد قبّل الحجر.. وبالتالي، فإذا كان التقبيل لهذا الحجر سائغا.. فإن كل تقبيل لكل أمر مقدس -كالقرآن الكريم- أيضا سائغ وبنفس المنطق، فلا فرق بين هذا وبين ذاك.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.