إن قصة يوسف -عليه السلام- من القصص التي ذكرت بتفصيل في القرآن الكريم.. {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، فالقرآن الكريم لم ينزل إلينا بالتلاوة المجردة، بل آيات تريد بالدرجة الأولى أن تحرك البواطن النظرية والعقلية عندَ الإنسان.. فالعاطفة تابعةٌ للعقل، والعقل عندما يقتنع بأن هذا فيه خير، فإن العاطفة أيضاً تنطلق نحو ما ساق إليه العقل.. وإذا اعتقد القلب بالشيء وتمناه؛ فإن الجوارح تنطلق بعد ذلك بشكل تلقائي.. ولهذا نرى اليوم في عالم الصحافة والإعلان، من أهم المسؤوليات الملقاة على عاتق الإعلاميين، وخاصة الذين لهم هدف غير سليم ما يسمونهُ بغسل الدماغ.. والدماغ أو العقل إذا غُسل، إذا رُكب فيهِ فكرة يريدها الطرف المقابل؛ فإن القلب يتحول وينقلب عما كان عليه.. مثلا: نلاحظ الإنسان في بعض الأوقات يحب شخصية معينة، ولكن من كثرة الدعاية والإعلان، ينقلب حبهُ إلى بغض.. وكذلك العكس.
فإذن، إن المقياس للقبول عند الله -عز وجل- هو كمال العقل للإنسان، وهذا العقل يكتمل بثلاثة طرق:
الطريق الأول: التدبر، والتفكر، والتعقل.. إن الذين يمضون معظم حياتهم في هذا الحديد المغلق -السيارات-، ينظرون يميناً وشمالاً ويتبرمون.. لو كان لهم حالة فكرية، أو لهم أنس بعالم الأفكار، فإنهم لا يكادون ينفكون عن فكرةٍ نافعة.. فالإنسان في الساعة التي يمضيها في الطريق، أو زحمة السير، بإمكانهِ أن يتدبر بكثير من العلوم في هذا المجال.
الطريق الثاني: التلقي من الوحي، لأن الوحي يمثل قمة الحكمة.. فالإنسان يأخذ كمال العقلية من خلال الاستماع لكلمات العقلاء، وعلى رأس العقلاء الأنبياء، الذين ما اكتمل تعقلهم إلا بوحي من السماء.
الطريق الثالث: وهنالك قسم من التعقل، يأتي من تجارب الحياة، وخاصة بعد المعاناة.
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}.. الإكثار من القصة غير جيد، إلا في محلهِ.. ولكنّ القرآن الكريم يقول: أنقل لكم قصة.. وكلمة القصة، تذكرنا بكلمة “قصاص الأثر”، والذي يريد أن يقتص الأثر يريد أن يصل إلى نتيجة، أو إلى شخصية: إما مرغوبٌ بها، أو مغضوبٌ عليها.. القصة إذا كانت من هذا القبيل، لأجل أن نصل إلى هدف تربوي؛ فهذهِ قصةٌ حكيمة.
فإذن، لا مانع من أن يذكر الإنسان كلاماً قد يكون قصة، ولكن يريد أن يصل من وراء ذلك إلى نتيجة، فكل كلمة يقولها المؤمن، لابد وأن يبتغي من وراء هذهِ الكلمة: إما نفعاً دنيوياً، أو نفعاً أخروياً.. كل كلام يقوله الإنسان ليس فيهِ نفع لا لدنياه ولا لآخرته، ولا لدنيا المخاطب ولا لآخرته؛ فإن يوم القيامة هذا المخاطب من الممكن أن يخاصمه، لأنه جاء إلى بيته، وأعطاه من وقته، وهو أحرجه بكلام لا نفعَ فيه.. فكيفَ إذا كانَ الكلام فيهِ مضرة؟..
{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}: أنظروا إلى علاقة الابن بأبيه؛ هذهِ علاقة نموذجية!.. رأى مناماً، فذهبَ إلى أقرب الناس إليه، ليتكلم معهُ حول هذا المنام.. عندما تكون العلاقة حميمة بين الأب وولدهِ، هكذا يكون الأمر!.. {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ}، كانَ بإمكانه أن يقول: يا رسول الله!.. فكلَّ نبيٍّ هو رسول الله، كان من الممكن أن يقول: يا وارث علم جدنا إبراهيم!.. ولكنه قال: {يَا أَبَتِ}!.. المؤمن يقدم طلبهُ في إطارٍ عاطفي، وخاصة في طلب العلم.. فالمؤمن ليس لهُ الحق أن يُذلَّ نفسهُ، إلا في مقام واحد، ألا وهو طلب العلم.. إذن، حديث الابن مع أبيه، دائماً يكون في حالة من الرفقِ والحنان.
{إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}: كلمة “الساجدين” تطلق على ذوي العقول، ولا تستعمل للكواكب.. وحسب بعض التفاسير: الشمس تشير إلى يعقوب، والقمر زوجته، وهذهِ الكواكب هم أولاد يعقوب.. رغم أن أولاد يعقوب ما قاموا بعمل جيد، بل قاموا بعمل في غاية السوء والانحراف: فقد هموا بقتل يوسف (ع)؛ ولكن الأمور بخواتيمها!.. إن الذي يهمّ بالقتل، ويرمي الطلقة على الطرف المقابل؛ فإن هذه الطلقة قد تنفُذ في بدنهِ وقد لا تنفذ؛ ولكنه يُعتبر في حكم القاتل.. هو ما قتل، ولكن نية القتل موجودة عنده.. هم ألقوا يوسف في بئرٍ عميق، والذي يسقط في هذا البئر من الطبيعي أن يموت.. ومحاولة قتل من؟.. قتل نبي من أنبياء الله -عزَ وجل- يا لها من جريمة!.. ولكن انظروا إلى الاعتذار، سيأتي في سورة يوسف، أنهم ذهبوا إلى يوسف وقالوا تلك العبارة المعروفة: {قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ}، وإذا بيوسف يقول: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.. ربُ العالمين رحمتهُ أوسع، أم رحمة يوسف؟.. يوسف بشر، وقد اُرتكب في حقهِ جريمة، ولكن بكلمة واحدة أصلحوا أمرهم مع أبيهم.. وكذلك بالنسبة لنا نحن العصاة الغرقى في المعاصي، بإمكاننا في ليلة من الليالي أن نخاطب رب العالمين، نقول: يا رب!.. عفوكَ!.. عفوكَ!.. عفوك!.. انتهى الأمر!.. {ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا}؛ ربُ العالمين غنيٌ عنا وعن عذابنا، طوبى لمن يعود إلى ربهِ حتى لو كان ظهرهُ مثقلاً بأنواع الذنوب!..
إن الإنسان ينظر إلى الوجود على أنهُ وجودٌ شاغل، وجودٌ ملفت، وإلا {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}، وتسبيح الكائنات فيه رأيان:
أولاً: رأيٌ يقول: بأنهُ يسبح بلسان الحال، أي الذرة تقول بلسان الحال: أنا بحركة الالكترونات حول النواة أشبه المجرات، فالذي خلقَ المجرة خلقني.. إذن، نحنُ خلق متناسب متجانس، نحنُ لنا من يلهم هذهِ الحركة الدائمة.. إذا كانَ هذا هو التسبيح التكويني وهو المراد من هذه الآية {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}، فنحن كلنا نفهم هذا التسبيح، ولو ببيان بسيط الإنسان يصل إلى هذهِ الحقيقة.
ثانياً: ربما هنالك حقيقة ما وراء هذا المعنى، هذهِ السورة من الجزء الثلاثين، إنها سورة كافية في هذا المجال {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}؛ أي تنقل تأريخ البشرية.. هذهِ الأرض الصامتة، هذهِ الرمال المتحركة، هذهِ الجبال والأودية، وغير ذلك؛ تحدثُ أخبارها وبشكلٍّ مطلق {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}.. هل الأرض يوحى لها؟!..
نعم، أوحى الله -عز وجل- إلى النحل، {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}، وأوحى الله -عزَ وجل- إلى غير الأنبياء، كوحيهِ إلى أمِ موسى.. وهنا باب من أبواب المعرفة؛ إذا حاول الإنسان أن يبلغ صفاء النحلة التي هي موجود دائب، لا فيه كسل، ولا نوم زائد، إنما هي حشرة لطيفة، تأخذ رحيق الأشجار.. والأهم من كُلِّ ذلك: أن النحلة ملتزمة بالسير على طرازٍ رسمهُ الله -عزَ وجل- لها، النحلة لا تأكل رحيق الأزهار لتحتفظ بالرحيقِ لنفسها، بل تجعل ذلكَ على شكل عسل.. لو تخلفت النحلة عن هذهِ المهمة، لما أصبحت من الحشرات التي يوحى إليها {أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ}.. النحلة خُلقت للعبودية، لأن تعطينا عسلاً، هذهِ وظيفة النحل.. ألا يصح أن يقول الإنسان لنفسه: يا بني آدم!.. أنتَ خُلقتَ كالنحلة؛ النحلة خلقت لجلب العسل إلى بطون المؤمنين، وأنت خلقت لجلب الحكمة إلى جوفك.. هل أديت هذهِ الوظيفة؟.. هل ذهبتَ من مجلسٍ إلى مجلسٍ؟.. هل قرأت كتاباً فكتاباً؟.. هل تأملتَ ساعةً ساعةً؟.. لتخلق في نفسكَ عسل الحكمة، هل سعينا بهذا الطريق؟..
لا، ولكن كل همنا أن نأكل عسل النحلة، وإنتاج البقرة، وباقي الحيوانات والمزروعات، ونجعلها في الجوف ثمَّ يخرج، هكذا بني آدم!.. الذي لا هم لهُ في هذهِ الحياة، إلا البطن والفرج؛ هو ذلك الموجود الذي لا يعمل بوظيفته، ولكنهُ يأكل نتاجَ من عمل بوظيفته.. برواية طريفة عن الإمام الصادق (ع): (أما يستحي أحدكم أن يغني على دابته وهي تسبح)؛ ما أبغضك يا بني آدم!.. الدابة تسبح بحمدِ ربها، هذا الحديد الذي يحملنا من مكانٍ إلى مكان، أيضاً يقول بلسان الحال: أيضاً أنا أسبح بحمد ربي، وأنت تسمع الغناء في دابتي.. إذن، الوجود كلهُ يسبح لله عز وجل، والمؤمن عليه أن ينسجم مع هذا التسبيح الكوني.
{قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}؛ يعقوب (ع) نبي من أنبياء الله عز وجل، حاشا له أن يغتاب أحدا!.. ولكن في مقام المشورة، على الإنسان أن يتقن النصيحة!.. يعقوب -عليهِ السلام- يحذر يوسف من كيدٍ سيقع، أو ربما سيقع؛ ولكن قبل وقوع الواقعة، يُحذر ولدهُ يوسف.. الإنسان لا ينتظر الجريمة حتى تقع، لا ينتظر إلى أن يذهب ابنه في أحضان الرذيلة وغيرها من المفاسد، ثمَّ يحذره من فلان وفلان!.. بل عليه أن يحذّره قبل أن يصبح فريسة للغير، ولو ببيانٍ إجمالي فلا داعي للتفاصيل.. أنظروا إلى بيان نبي الله يعقوب، بيان رزين ثقيل يقول: {لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ}؛ لأن هؤلاء فيهم خاصية الحسد، فالنبي ينظر بعين الله عز وجل.. فإذن، إن الدرس العملي الذي يستفاد من هذهِ الآية:
أولاً: هو تحذير الأبناء من الأخطار المستقبلية.
ثانياً: التحذير دون التلفظ بكلامٍ فيهِ فُحش، أو تعدٍّ.
ثالثاً: سياسة الدفع قبل الرفع.
مثلا: لماذا ينظر الشاب إلى ما لا يجوز النظر إليه؛ سواء كان حقيقةً أو صورةً؟.. حيث أن هناك تفاعلات في الباطن، والشاب الذي يدمن النظر إلى الحرام، هذا الشاب تتغير تركيبتهُ الهرمونية.. فالإنسان لهُ هرمونات طبيعية، ولكن المثير هو الهوى؛ النظرة المحرمة.. هُنالكَ تخيلات، والخيال ليس لهُ وزن مادي، فالخيال في عالم الخيال، والتصور في عالم التصور؛ ولكن هذهِ الغدة تابعة للأوامر الإلهية.. ما دام هناك خيال محرم؛ فإن الغدة تفرز، وهذا الإفراز يدخل في الدم، والدم يجري في العروق.. وإذا بهذا الإنسان يقول: سلبت الاختيار، ليس الأمرُ بيدي، ما كنت أعرف هذهِ الأمور.. إن المخدرات من الأمور التي تغير وتؤثر في السلسلة العصبية، بعض المحرمات كالسموم.. مثلا: إنسان مدمن على الحرام، يتزوج بامرأة مؤمنة في غاية الجمال والكمال والخلق، وإذا به لا يستأنس لها؛ لأن تركيبتهُ الهرمونية تتغير، فلا يستأنس إلا بالحرام، فمن شبَّ على شيءٍ شاب عليه.. ومع الأسف الإنسان يسمع -بعض الأوقات- زلات غير معقولة ممن هو في سن الشيخوخة والكبر، وهو يقترب من عالم الآخرة.
فإذن، إن يعقوب -عليه السلام- يقول لابنه يوسف -عليه السلام-: {لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا}!.. أي أن الإنسان المؤمن لا يقدم على عمل يثير عقوق الوالدين، أو غضب الأخوة، أو عقوق الأولاد.. بعض الآباء يشتكون من أولادهم، صحيح أن الولد عاق مشاكس، ولكن الأب عندما يضرب هذا الولد؛ فإنه سيخرج من البيت، وعندئذ لا يصبح هذا البيت سكناً له، فيذهب إلى كل زاويةٍ مظلمة؛ حيث خفافيش الليل وخفافيش النهار، فيصطادونه.. إن ضرب الأب للولد إذا لم يكن بدواعي التأديب، فلا يجوز فضلا عن الأم.. فالأم ليس لها الحق أن تضرب، إلا ضمن شروط ومواصفات.
رابعاً: إن البعض قد يقول: أنا بحمد الله صاحب مجالس حسينية، وقد بنيت مسجدا.. وبالتالي، فإني أتوقع من أولادي السير على طريق الهدى تلقائياً!.. متى كان الجو أو البناء بحد نفسهِ من موجبات الترقي؟.. لابد من عمل!.. أحد عشر شابا -هم أولاد نبي كيعقوب؛ وارث علمِ آبائهِ: إسحاق، وإبراهيم- يجتمعون على قتل صبيٍّ صغير، هو أخوهم، وفيهِ سيماء الأنبياء: يوسف منذ صغره وهو أجمل مخلوق خلقهُ الله في عصره، أو حتى في تاريخ البشرية!..
فإذن، أن يكون الإنسان من عائلة مؤمنة، ومن ذرية صالحة؛ هذا لا يكفي.. لأن الشيطانَ بالمرصاد، وهذا واضح في القرآن الكريم: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}، والقرآن كتابٌ مبين، {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}، يقول: عداوة الشيطان لبني آدم عداوة واضحة جدا.. نحنُ -مع الأسف- ما تعرفنا على دور الشيطان ولا كيده.. هناك كتاب جميل باسم “تلبيس إبليس” كتاب يذكر الكيد الشيطاني لكل فئة: كيف يقود التجار إلى الحرام، وكيف يسوق الزهاد، وكيف يسوق العباد، وكيف يسوق الفقراء؟.. لكل إنسان طريقة، فالشيطان خبير بإغواء بني آدم، منذُ أن خلق الله -عز وجل- الأرض، وهو يعمل في مجال إغواء بني آدم.
وعليه، فإن الإنسان يحسب حساب هذا العدو، فكل خاطرة أجعلها: رحمانية، أو شيطانية.. مثلا: اثنان يقدمان على تأسيس شركة؛ من قال أن هذا التصور رحماني؟.. من قال: بأن هذا الأمر راجح؟.. فكر وانظر: هل هذا يشغلك أم لا أولاً؟.. (واعلم أن قليلاً يغنيك؛ خيراً من كثير يلهيك).. نحنُ في طريق العبودية، لو أن أحدنا ذهب للعمرة أو الحج، وذهبَ إلى إحدى الفنادق، درجة ثانية أو ثالثة، وفي اليوم الثاني بدل أن يذهب إلى الطواف المستحب -مثلا- يعمل ورشة في الغرفة، ليعيد صبغها وتبديل أداوتها الصحية وتأثيثها وما إلى ذلك.. ألا يقال: أن هذا إنسان فقد عقله؟!.. والحياة هكذا: جئنا لمهمة أيام قصيرة، كما يقول نبينا الأعظم (ص): (ما لي وللدنيا؟!.. ما مثلي ومثل الدنيا، إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظلّ تحت شجرة ساعةً من نهار، ثم راح وتركها).. ونحن هكذا نستظل تحت ظل شجرةٍ، ستين سنة وبعدها حياة الأبد.. جئنا إلى هذهِ الحياة، وإذا بأحدنا ينشغلُ بما يلهيه.
نحنُ لسنا من مخالفي السعي في الحياة، ولكن بشرطها وشروطها، أينَ الشرط وأينَ الشروط؟..
1- الشرط الأول: في سورة الجمعة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}.. أركضوا إلى ذكر الله، أذهبوا إلى صلاة الجمعة هذا الشرط الأول.
2- الشرط الثاني: يقول تعالى في سورة الجمعة: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ}.. ولكن بشرط {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.. النبي الأكرم -صلى الله عليه وآله وسلم- صرفَ مقداراً من عمرهِ في التجارة، كما صرفها في غارِ حراء.
إذن، علينا أن نتعلم، فلكل إنسان نقطة ضعف.. مثلا: هناك إنسان في مستوى إيماني متعارف، إنسان عادي جداً، لكن أمام النساء كالجبل الراسخ، أما في مقام الغضب، تراه كالبركان الثائر.. فلكل إنسان نقطة ضعف، لا تقول: أنا بحمد الله في مأمن من الشهوات وأموري على خير، ماذا تصنع في الغضب؟.. وإذا كنت في مأمن من الغضب، ماذا تفعل في الأوهام الغالبة؟.. فالمؤمن أولاً يكتشف الثغرات التي من خلالها يأتيه الشيطان.. في عالم الحروب: من ضمن المبادئ العسكرية، مهارة الجيش أن يكتشف ثغرة في الجيش المقابل، ثغرة ضعيفة ليس فيها حراسة.. وإذا بالجيش ينفذ، وإذا وجد ثغرة من زاويةٍ أخرى ينفذ، ولعل الجيش عدده بسيط فيرى العدو من خلفهِ، والعدو من إمامهِ فتضيق عليه الدائرة.. وعادةً تقع المجازر في الجيوش المطوقة.. والشيطان كذلك من ثغرة الغضب يدخل، ومن ثغرة الشهوة يدخل.. بعض الأوقات الشياطين تلعب ببني آدم كالكرة يقذفونه من شيطان إلى شيطان: شيطان الغضب يقذفهُ إلى شيطان الشهوة، وشيطان الشهوة يقذفه إلى شيطان الأوهام، وشيطان الأوهام يقذفه إلى شيطان الوسواس، وشيطان الوسواس يقذفه إلى شيطان الغيبة.. وهكذا يلعبونَ بهِ، ويتسلون به، وآخر الأمر يطردونهُ، حيث أن هناك بعض الأمور، تجعل الإنسان يخرج من ولاية الله، ولا يقبله الشيطان.. قال الصادق (ع): (من روى على مؤمن رواية، يريد بها شينه وهدم مروته ليسقط من أعين الناس؛ أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان، فلا يقبله الشيطان).. حتى الشيطان يزهد في هذا الزبون الذليل، لأنه يحب أن يكون أتباعه على مستوى، هذا الإنسان أخس من أن يكون من أتباعه.. يا لها من عاقبة، حتى الشيطان يزهد في الإنسان الدنيئ؛ أي أنهُ أصبح وجودا لا يُعتنى بهِ.
إن البعض قد يقول: الحمد لله في شهر رمضان نحن في راحة، الشياطين مغلولة.. أولاً الشياطين مغلولة، قد يكون بمعنى أن الشياطين في شهر رمضان، ليست لها حرية التحرك، ولكن في شهر شعبان شحن الإنسان بما فيهِ الكفاية.. الشيطان يدهُ مغلولة، ولكن هل سفارتهُ مغلقة؟.. لا، سفاراته موجودة، وسفير الشيطان الهوى.. إذ يكفي وجود الهوى، عندها لا داعي لوجود الشيطان معنا في كُلِّ ساعة، فهو ربى وليدا حقيرا صغيرا في وجودنا {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا}.. هذا الإله يحركنا يميناً وشمالاً، لأن {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}.. ماذا نصنع؟.. ليس لنا إلا أن نستجير بالله عز وجل، فالإنسان ضعيف جداً، والحرب غير متكافئة، {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ}، يأتي يميناً شمالاً {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}، {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}.
هذا إجماع أهل المعاصي وأهل الدنيا، ونفس الشيء في الحلال والحرام: إن الدنيا أقل بكثير من واقعها، البعض طوال الصيف وهو في جزر للاستجمام، وعندما يعود لا يبقى من تلك الرحلة سوى صور.. إذا كان هذا مقدمة للعودة إلى الوطن بروح ثانية، ونشاط للعمل، فلا بأس.. ولكن الإنسان -بعض الأوقات- حتى هذهِ لا يحتاجها.. هكذا حقيقة الدنيا؛ ولهذا بعض المؤمنين عندما يتزوج، -والزواج هو نعم البناء الذي بني في الإسلام-، عليه أن لا يتوقع أن الزواج شيء فوق العادة، فهو لن يطير فوق عالم الأثير، ربما في ثالث يوم يبدأ الخلاف حول أمور كثيرة، وإذا بنصف هذه الغراميات تطير في الأسبوع الأول.. هناك شكوى هذه الأيام من الطلاق المبكر، فالطلاق في تمام العقد طبيعي؛ حيث أن هذهِ طبيعة الدنيا: لكُل جديدٍ بهجة {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ}، ولكن في عالم المعنى، يقول العلماء: (لا تكرار في التجلي)، هل هناك إنسان يستذوق الصلاة يقول بعد فترة: أنا مليت من الصلاة؟.. هذا الكلام يصدر من إنسان لا يعرف معنى الصلاة، أما الذي عندهُ شيء من المعراجية؛ فإن متعته في الحياة هي الصلاة.
إذن، لماذا هذا ما مَل من الصلاة؟.. في الحج يعود من الحج، وكذا جرح في رأسهِ من رمي الجمرات، وصدره مملوء بالأمراض وما شابه ذلك، وقد يصاب بمرض يبقى بسببه أربعة أشهر في الفراش.. ولكن عندما يرى إعلانات الحج، فإنه من أوائل الناس الذين يريدون الذهاب إلى الحج؛ لأنهُ رأى شيئا في الحج.. أين البحيرات، وأين الجبال وأين المصايف؟.. يقول: مصيفي أرض عرفة، أنا أستذوق هذهِ البلاد.. ومنها مجالس أهل البيت، هل هناك من يذهب إلى حضور أرقى فيلم في ليالي القدر، أو في ليالي المناسبات؟.. الذي يعيش الأنس في مجالس أهل البيت -عليهم السلام- لا يقدّم على هذهِ المجالس شيئا.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.