بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ * كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ}.
{وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ}.. دعاء على المطففين!.. والتطفيف: نقص المكيال والميزان، وقد نهى الله -تعالى- عنه، وسماه: إفساداً في الأرض.
{الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ}.. الذين إذا أخذوا من الناس بالكيل، يأخذون حقهم تاماً كاملاً.. مثلاً: عندما يشتري مقداراً من الحنطة أو الرز، يأخذ منه بالمقدار الصحيح، يأخذ حقه كاملاً!..
{وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}.. وإذا أعطوا الناس بالكيل أو الوزن، ينقصون فيوقعونهم في الخسران.. أي ينقصون الوزن أو الكيل عدة غرامات.. كم يوفر بهذه العملية؟.. نحن في نظرنا هذه جريمة بسيطة مغتفرة، ليست بالأمر المهم.. ولكن رب العالمين يقول: هؤلاء ويل لهم!..
فمضمون الآيتين جميعاً ذم واحد، وهو أنهم يراعون الحق لأنفسهم، ولا يراعونه لغيرهم.. وبعبارة أخرى: لا يراعون لغيرهم من الحق، مثل ما يراعونه لأنفسهم.
{أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ}.. الاستفهام للإنكار والتعجب!.. و{يَظُنُّ}: يعلم.. و{لِيَوْمٍ عَظِيمٍ}: يوم القيامة الذي يجازون فيه بعملهم.. فمجرد حسبان الخطر والضرر في عمل، يوجب التجنب عنه، والتحرز عن اقترافه.. وإن لم يكن هناك علم، فالظن بالبعث ليوم عظيم، يؤاخذ الله فيه الناس بما كسبوا، من شأنه أن يردعهم عن اقتراف هذا الذنب العظيم، الذي يستتبع العذاب الأليم.. ففي يوم القيامة، يقف الإنسان، ليناقش في غرامات من القمح والشعر!..
الدرس العملي من هذه الآية:
إن حقوق الناس على ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: المال.. البعض قد يكون في ذمته الملايين من أموال الناس، وهو قادر على الدفع، ولكنه لا يدفع.. فإذا كانت حبات من الحنطة والشعير، هكذا تعطل الإنسان في عرصات القيامة، فكيف بما هو أعظم!..
المرتبة الثانية: العرض.. البعض يصلي، ويصوم، ولكنه إذا رأى حركة ملفتة من امرأة، كأن يراها مع أجنبي في خلوة مثلاً، فإنه مباشرة يتهمها بارتكاب الفاحشة، دون أن يتبين الحقيقة.. فهل هذا عند الله -عز وجل- هين؟.. فإذا كانت حبات من القمح والشعير ليوم عظيم، فكيف بمن يتلاعب بأعراض المؤمنين؟.. وهذه الأمور كثيراً ما تحدث في بيئة النساء، من جراء الغيرة، كأن يكون لامرأة ضرة، فتنسب إليها الفاحشة بأقل حركة؛ هذه المسألة ليست بسيطة {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ}!..
المرتبة الثالثة: الدم.. هناك رواية معروفة في هذا المجال، عن الإمام الباقر (ع): (يُحشر العبد يوم القيامة وما ندا دماً، فيُدفع إليه شبه المحجمة أو فوق ذلك فيُقال له: هذا سهمك من دم فلان، فيقول: يا ربّ!.. إنك لتعلم أنك قبضتني وما سفكت دماً، فيقول: بلى، سمعتَ من فلان رواية كذا وكذا فرويتها عليه، فنُقلت حتى صارت إلى فلان الجبّار فقتله عليها، وهذا سهمك من دمه).. في بعض المناطق، بعض العشائر يقتل زوجته إذا شكا في شرفها.. ويكون منشأ هذا الشك كلام امرأة مؤمنة ظاهرياً، وإلا لما تكلمت بما تكلمت.. فإذن، إن الإنسان يوم القيامة يفاجأ بأمور، لا يحسب لها حساباً.
{كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ}.. {كِتَابَ}: صحيفة الأعمال.. {الْفُجَّارِ}: يشمل الكفار، والفسقة جميعاً.. {سِجِّينٍ}: قيل: الأرض السابعة السفلى، يوضع فيها كتاب الفجار.. وقيل: واد في جهنم.. الكاميرات الخفية هذه الأيام، يمكن أن تحصي على الإنسان عمله؛ فكيف برب العالمين الذي يعلم كل صغيرة وكبيرة؟.. في بعض النصوص هناك اختلاف بين العلماء: هل أن الملكين ثابتان، أو متغيران؟.. إذا كانا ثابتين، معنى ذلك أنهم يعرفان أسرار الإنسان؛ لأنهما منذ البلوغ إلى أن يموت وهما معه.. ولكن يستفاد من بعض الرّوايات، أنّ حفظة الليل غير حفظة النهار.. ففي تفسير آية {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} من سورة الإسراء، الرّوايات الواردة في تفسير هذه الآية، تقول: إِنَّ ملائكة الليل والنهار هي التي تُشاهد، لأنَّهُ في بداية الصباح تأتي ملائكة النهار، لتحل محل ملائكة الليل، التي كانت تُراقب العباد.. وحيثُ أنَّ صلاة الصبح هي في أوّل وقت الطلوع، لذلك فإِنَّ المجموعتين من الملائكة تشاهدها.. عن النبي (ص): (تشهده ملائكة الليل، وملائكة النهار).. فإذن، ينبغي أن نلتفت إلى الرقابة الإلهية الشديدة!..
{كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.. الرين: الصدأ.. أي صار ذلك كصدأ على جلاء قلوبهم، فعمي عليهم معرفة الخير من الشر.. فكون ما كانوا يكسبون وهو الذنوب ريناً على قلوبهم، هو حيلولة الذنوب بينهم وبين أن يدركوا الحق على ما هو عليه.. ويظهر من الآية:
أولاً: أن للأعمال السيئة نقوشاً وصوراً في النفس، تنتقش وتتصور بها.
ثانياً: أن هذه النقوش والصور، تمنع النفس أن تدرك الحق كما هو، وتحول بينها وبينه.
ثالثاً: أن للنفس بحسب طبعها الأولي صفاء وجلاء، تدرك به الحق كما هو، وتميز بينه وبين الباطل، وتفرق بين التقوى والفجور.
فإذن، عندما يقسو القلب؛ يختم عليه، ويصل إلى درجة لا يميز بين الحق والباطل، فيرتكب أخطاء فادحة، تؤدي به إلى الهلاك، دون أن يشعر.. فالبعض مثلاً: يصلي، ويصوم، ويقيم الليل، ويؤدي كل ما عليه من حقوق؛ ولكن عنده مشكلة عدم ضبط النظر.. فهذه المشكلة خطيرة جداً، وهي عبارة عن نكتة سوداء في القلب، فتتراكم وإذا بالقلب يصبح قاسياً.. ورد عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: (إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر؛ صقل قلبه منه.. وإن ازداد؛ زادت.. فذلك الران الذي ذكره الله -تعالى- في كتابه {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}).
{كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}.. ردع عن كسب الذنوب، الحائلة بين القلب وإدراك الحق.. والمراد بكونهم محجوبين عن ربهم يوم القيامة، حرمانهم من كرامة القرب والمنزلة.. ولكن كيف قال: محجوبون، والإنسان يوم القيامة يكشف عنه الغطاء فيرى كل شيء؟.. يقول تعالى: {كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}.. ليس هذا خطاب للمؤمنين فحسب!.. إنما كل إنسان عندما يموت، يكشف عنه الغطاء، فيرى كل شيء، ويعلم كل شيء، ويعترف بكل شيء.. لذا قيل: إن المراد بـ{لَّمَحْجُوبُونَ}؛ أي محجوبون عن رحمة ربهم: يريد الإنسان أن يتحدث مع رب العالمين، ليأخذ منه العفو، وبعض المزايا؛ فإذا بالجواب: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ}!.. يا له من جواب عنيف!.. هذا الكلام يزجر به حيوان نجس قذر.. الله -عز وجل- الذي كان في الحياة الدنيا، أرأف بالإنسان من أمه وأبيه، وأقرب إليه من حبل الوريد، والذي كان يقول: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}، {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}.. وإذا به يوم القيامة يقول: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ}!.. انظروا إلى هذا اللحن، وانظروا إلى هذا اللحن الأخير!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.