إن سورة العاديات، من السور التي فيها كلمات مشكلة كثيرة، وأغلب الناس لا يعلمون معانيها!..
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا * إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ * أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ}.
{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا}.. {الْعَادِيَاتِ}: من العدو، وهو الجري بسرعة.. {ضَبْحًا}: الضبح؛ صوت أنفاس الخيل عند عدوها.. فالخيل عندما تركض، تحتاج إلى نسبة من الأكسجين الزائد، فتتنفس بشكل متسارع، فتصدر هذا الصوت الذي يسمى ضبحاً.. والمعنى: أقسم بالخيل العادية التي تركض في سبيل الله عز وجل.
{فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا}.. المراد بها الخيل التي تخرج النار بحوافرها، إذا عدت على الحجارة، والأرض المحصبة.. لأن الخيل تحت أرجلها قطعة من الحديد، لذا عندما تجري على الأرض، وتضرب الحجارة؛ فإنها تخرج النار، عندما تمر على أرض صخرية.
{فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا}.. الإغارة والغارة: الهجوم على العدو بغتة بالخيل.. هذه الخيل تهجم على الأعداء عند الصبح مباغتة، لأنه أفضل وقت للهجوم.. حيث أن الليل فيه ظلام، وفي النهار الأمور ظاهرة، أما في الصباح الباكر: فالعدو نائم، وأيضاً الضياء موجود.
{فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا}.. أثرن من الإثارة، بمعنى: تهييج الغبار ونحوه.. والنقع: الغبار، والمعنى: فهيجن بالعدو والإغارة؛ غباراً.
{فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا}.. أي فصرن في وقت الصبح في وسط جمع، والمراد به كتيبة العدو.
الدرس العملي:
إن هذا قَسمُ بالخيول التي خرجت للجهاد في سبيل الله تعالى؛ ولأنها خرجت في سبيل الله؛ فكل حركاتها مقدسة؛ أي ذكرت في القرآن: فأنفاسها مسجلة، والنار الذي تصدر أثناء مشيها أيضاً مسجلة، وكذلك وقت إغارتها على العدو، والغبار الذي يتصاعد من حركتها أيضاً مذكور في هذه السورة.. وعليه، فإن الإنسان المؤمن، إذا صارت حركته في سبيل الله عز وجل؛ يصبح كل شيء فيه مباركاً.. المهم أن يكون الإنسان في الطريق الصحيح؛ عندئذ رب العالمين يبارك في كل وجوده.
{إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ}.. الكنود؛ الكفور، يعطى من النعم ما يعطى، وينسى شكر هذه النعمة.. لذا المؤمن دائماً يقوم بسجدة شكر، خارج الصلوات الواجبة.. (كنت مع الصادق (ع) بالمدينة وهو راكب حماره، فنزل وقد كنا صرنا إلى السوق أو قريباً من السوق، فنزل وسجد وأطال السجود وأنا أنتظره، ثم رفع رأسه.. قلت: جعلت فداك!.. رأيتك نزلت فسجدت!.. قال: إني ذكرت نعمة الله عليّ، قلت: قرب السوق، والناس يجيئون ويذهبون؟.. قال: إنه لم يرني أحد).. كل نعمة ينعم بها على الإنسان، كـ: خبر جميل، أو مولود، أو نجاح، أو مكسب مالي، أو شفاء من مرض؛ فإن أفضل ما يقوم به في تلك اللحظة، أن يسجد لله -عز وجل- شاكراً.
{وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ}.. الإنسان يعترف أنه كفور، أنه كنود.. فالمعنى: وإن الإنسان على كفرانه بربه شاهد متحمل، فالآية في معنى قوله: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}.
{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}.. هذا ليس مدحاً، الخير هنا المراد به المال؛ أي يحب المال {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}؛ هذا الحب يدعوه إلى البخل، وعدم الإنفاق.. أما في تفسير الميزان، فقد وردت عدة تفاسير، منها: أن الإنسان لشديد الحب للمال، ويدعوه ذلك إلى الامتناع من إعطاء حق الله عز وجل، والإنفاق في الله.. ولا يبعد أن يكون المراد بالخير مطلقة، ويكون المراد أن حب الخير فطري للإنسان، ثم إنه يرى عرض الدنيا وزينتها خيراً، فتنجذب إليه نفسه، وينسيه ذلك ربه أن يشكره.
{أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ}.. البعثرة؛ البعث والنشر.. والمراد بما في القبور: الأبدان.. لماذا يجمع الإنسان هذا المال؟.. ولمن؟.. ولأي عاقبة؟.. بل عليه أن يستثمر المال، ليكون زاداً له في القبر!.. فهذه القبور فيها بشر، فيها الأثرياء، والسلاطين والأمراء.. فالقرآن كأنه يشبه هذه القبور بحقل يُحرث، فتخرج كل الموتى.. وعندئذ ماذا يحدث؟.. يقول تعالى مشيراً لهذه النتيجة:
{وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}.. وتحصيل ما في الصدور، تمييز ما في باطن النفوس من صفة الإيمان والكفر، ورسم الحسنة والسيئة.. وقيل: هو إظهار ما أخفته الصدور لتجازى على السر كما تجازى على العلانية.. المؤمن يعمل للصدر لا للجيب؛ لأن هذا الجيب سيفرغ، أو يفرّغ.. فالإنسان عندما يموت، ينزع منه كل ما يكون في حوزته، ويُسلّم للورثة، فلا يأخذ معه شيئاً.. ولكن ما الذي يأخذه معه {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}؟.. البعض قد يوفق لعمارة مسجد، ولكن لا يوفق لعمارة قلبه.. والبعض لا يوفق لعمارة شيء، لأنه فقير مسكين؛ ولكن قلبه -كما في روايات أهل البيت- يزهر كالمصباح: (تجد الرجل لا يخطئ بلام ولا واو، خطيبا مصقعاً، ولقلبه أشد ظلمة من الليل المظلم!.. وتجد الرجل لا يستطيع يعبر عما في قلبه بلسانه، ولقلبه يزهر كما يزهر المصباح).
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.